كشفت دراسة حديثة صادرة عن "إعلام"- المركز العربي للحريات الإعلامية والتنمية والبحوث، عن تصاعد التهديدات والتحديات التي يواجهها الصحافيون الفلسطينيون في أراضي 48 والقدس، وذلك منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
جاءت الدراسة تحت عنوان "صحافيون في المرمى 2: صحافيّو 48 والقدس: في مواجهة تحدّيات المهنة منذُ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023"، وأجرتها طالبة الماجستير في دراسات الاتّصال والإعلام بجامعة حيفا، أفنان كناعنة، تحت إشراف الباحث أنطوان شلحت، وتحقيق الصحافيّة ميسون زعبي، وتناولت بشكل مُعمّق الانتهاكات المُمنهجة التي تمارسها المؤسسة الإسرائيليّة، بكافة أذرعها، ضد الصحافيين، ما أدى إلى تفاقم المخاطر المهنيّة والتضييق على حرية الصحافة في أراضي الـ 48 والقدس.
تفاقم الانتهاكات الممنهجة بحق الصحافيين
وتُشير الدراسة إلى أنّ الصحافيين الفلسطينيين أصبحوا هدفًا مباشرًا لممارسات القمع والتضييق من جانب المؤسسة الإسرائيليّة بهدف تقييد حركتهم خلال تغطيتهم للأحداث، حيثُ اشتملت الاعتداءات على 42 حالة وثّقها مركز "إعلام"، على الأنماط التالية: الاعتداءات الجسديّة (15.5%)، مصادرة المعدّات الصحافية (19%)، الاعتداءات اللفظيّة (21.4%)، التوقيف (17.9%)، الاعتقال (13.1%) واعتداءات من نوع آخر (13.1%).
وتبرز الدراسة أنّ هذه الانتهاكات لم تكن حالات فردية، بل هي جزء من سياسة مُمنهجة تتبعها السلطات لإسكات الأصوات الصحافية وتضييق الخناق على حرية التعبير لسببين رئيسيّين: أوَّلًا، بهدف لجم قوّة وسائل الإعلام على المسّ بشرعيّة الاحتجاج ضدّ ما يرتكبه الاحتلال من جرائم حرب. ثانيًّا، بهدف تعزيز حملات التضليل الإعلاميّ التي تقودها إسرائيل، نحو فرض وترسيخ رواية إسرائيليّة وتغليبها على الوقائع في الميدان المُلقى على عاتق الصحافيين نقلها. هذا ولم تقتصر الجهات التي ساهمت في تطبيق هذه السياسات على قوّات الجيش الإسرائيليّ، الشرطة وجهاز الشاباك وحسب، بل أيضًا كان صحافيّون ومدنيّون إسرائيليّون شركاء في ارتكاب هذه الاعتداءات أيضًا.
تناولت الدراسة مجموعة من المُعيقات والقيود التي تؤثّر على أداء وسلوكيّات الصحافيّين المهنيّة وقدرتهم على مُمارسة صحافة حُرّة، ناقدة، مُغايرة ومُراقبة للحكومة، خاصّةً وأنَّ الصحافة الإسرائيليّة مُعسكرة بدرجة كبيرة وغالبًا ما تلتزم بالخطاب المُهيمن والرأي الرسميّ للحكومة. بالعموم، ترتبط الاعتداءات على الصحافيّين الفلسطينيّين بهويّتهم القوميّة باعتبارهم جزءًا من "أُمّة مُعاديّة" للكيان الإسرائيليّ، ليوسمهم على أنَّهم يشكّلون خطرًا أمنيًّا أو جواسيس لدى المُنظّمات الفلسطينيّة، الأمر الذي يستلزم - باعتقاده- التعامل معهم بحيطة، فوقيّة، عنصريّة وعدائيّة.
فصّلت الدراسة المُعيقات والقيود أمام الصحافيّ الفلسطيني لتقسمها إلى: قيود سياسيّة وأمنيّة، وأُخرى مرتبطة بالوصول إلى المعلومات والتي هي واحدة من الحرّيّات الضروريّة لتحقيق حرّية الصحافة، وقيود قانونيّة تتعلّق بتطويع القانون وتجنيده كأداة ضبط وسيطرة تخدم الغايات القمعيّة لإسرائيل، وقيود اقتصاديّة وعقوبات ماليّة تسعى لترويض الخطاب السياسيّ للصحافة، بالقيود اللغويّة، والقيود المُجتمعيّة المُرتبطة بتركيبة المُجتمع الفلسطينيّ وببنى وهياكل القوى داخله، نهايةً بالقيود الجندريّة المرتبطة بالعنف المبني على النوع الاجتماعي المُوجّه ضدّ الصحافيّات النساء على وجه الخصوص.
الإعلام في مأزق
تُخلِّفُ هذه القيود أضرارًا وآثارًا مُهوِّلة على أداء ووظائف الصحافة الفلسطينيّة، بدايةً من أثرها على الكمّيّة، الجودة والمستوى المهنيّ للمُنتجات الإعلاميّة الصادرة عنها؛ ونهايةً بالضرر اللاحق بوظيفتها ودورها في المُجتمعات الديمقراطيّة في أن تكون "سلطة رابعة" أو "كلب حراسة" لمصالح الجمهور، من خلال مُعاينة سياسات الحكومة وسلطاتها، ومدى التزامها بالأسس الديمقراطيّة وحقوق الإنسان. علاوةً على دورها في تعزيز المُثل الديمقراطيّة، حماية مصالح الجمهور العامّ، وضمان تعدّد الأصوات اللازمة لتحقيق سوق حرّة من الأفكار، تشجيع التطبيق السليم للعدالة، وتحفيز المُناقشات حول الحلول المُمكنة للنزاعات. يُضاف إلى ذلك، الحدّ من قدرة الصحافة الفلسطينيّة على أن تُشكِّل مركز قوّة لصحافة مُغايرة لتلك السائدة في إسرائيل، يكتبها السكّان الأصلانيّون، بنتقدُون الحرب والإبادة ويدعون من خلالها إلى السلام. هذا الاختزال لصوت الفلسطينيّ، لتجاربه، حقيقته ومواقفه يُؤثّر بالطبع على انتشار وامتداد الرواية الفلسطينيّة.
أهمية الحماية الدولية للصحافيين وفق المواثيق والمعاهدات الدولية
في ظل التصاعد المستمر لانتهاك الحرّيّات والحقوق الصحافيّة الفلسطينيّين، خاصّة: حرّيّة الصحافة، العمل، حرّية الوصول إلى المعلومات، حرّيّة التعبير عن الرأي، حقّ الجمهور في المعرفة، وحُرّية المُشاركة السياسيّة، تُبرِز الدراسة الحاجة المُلحّة لتفعيل الحماية الدولية للصحافيين الفلسطينيين، فوفق المتعارف عليه تُعتبر الصحافة الحرة والمستقلة ركيزة أساسية من ركائز الديمقراطية وحقوق الإنسان، وعليه، يجب أنّ يتمتع الصحافيون بالحماية الكاملة وفقًا للمواثيق والمعاهدات الدولية، مثل المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، واتفاقية جنيف الرابعة التي تفرض حماية خاصة للمدنيين في مناطق النزاع، بمن في ذلك الصحافيون؛ وقرارات الأمم المتّحدة التي تضمن حرّيّة الصحافة وحماية الصحافيّين من الاعتداءات المتكرّرة.
دعوة لتفعيل الآليات الدولية لمحاسبة إسرائيل
وخلصت الدراسة إلى عددٍ من التوصيات منها الدعوة إلى تحرك دولي عاجل وفعال لضمان حماية الصحافيين الفلسطينيين وتطبيق الآليات الدولية لمساءلة إسرائيل عن الجرائم التي ترتكبها بحقهم. وتؤكد الدراسة على ضرورة وحيويّة تفعيل الآليات القانونيّة والحقوقيّة اللازمة لضمان عدم إفلات الجناة من العقاب ولتحقيق العدالة للصحافيين الذين تعرضوا للانتهاكات.
كما تدعو إلى تحقيق الاستقلالية المهنية وتطوير آليات رقابة ذاتية لا تؤثر على استقلالية الإعلام الفلسطيني، مع تعزيز حرية الصحافة وضمان حماية الصحافيين من الضغوطات الخارجية.
إلى ذلك، توصي بتوسيع نطاق حملات التضامن الدولي معهم وتكثيف الجهود الدوليّة للضغط على الحكومات والمؤسسات الدولية للتحرك الفوري لحماية الصحافيين الفلسطينيين، وزيادة الوعي العالمي بشأن الانتهاكات التي يتعرضون لها. كما توصي بإطلاق برامج تدريبية متخصصة لدعم الصحافيين الفلسطينيين تركز على التغطية والسلامة المهنيّة في مناطق النزاع، وتزويدهم بالأدوات اللازمة للعمل بأمان وفعالية في الظروف الصعبة، مع الأخذ بعين الاعتبار المخاطر المرتبطة بالنوع الاجتماعيّ للصحافيّات وثقافة المُجتمع الذي ينتمون إليه. بالإضافة إلى الحاجة لإنشاء نقابة خاصّة بالصحافيّين الفلسطينيّين تتعاطى مع همومهم واحتياجاتهم الخاصّة خارج إطار النقابة الإسرائيليّة، خاصّةً تزويدهم بالتمثيل القانونيّ في حال لزم الأمر، وبالدعم المعنويّ والنفسيّ في أعقاب الاعتداء عليهم. بالإضافة إلى الحاجة لتأسيس صناديق مانحة وداعمة أو تجنيد تمويل من صناديق دوليّة تُغنيهم عن التبعيّة الاقتصاديّة لإسرائيل.
خلفية حرجة: شهداء الصحافة في غزة وتأثير اغتيال شيرين أبو عاقلة
ويؤكد "إعلام" بناءً على توصيات مؤتمر الصحافيين الذي عُقد بتاريخ 3.5.24 أنّ الإعلام الفلسطيني في الـ 48، وفي نظرة كرونولوجيّة، تقدّم وتطوّر بخطى ثابتة نحو المهنيّة، مع الحفاظ على انتماء هوياتي لا يتعارض مع مهنية الصحافيين التي تحتم عليهم الحياد إلى جانب المُستضعف/ الضحيّة (الفلسطيني)، إلا إنّ التطورات الأخيرة والتي تفاقمت بعد قتل الصحافيّة شيرين ابو عاقلة في مخيم جنين، مُستمرة إلى إعتداءات وملاحقات للصحافيين في القدس، لا سيما الفاعلين في البلدة القديمة، وحتى استهداف وقتل أكثر من 157 صحافيًا في غزة منذ الـ 7 من أكتوبر، تدفع إلى تطوير رقابة ذاتيّة في صفوف الصحافيين الأمر الذي يستدعي الوقوف عنده، وكذلك مدّ الصحافيين بكافة التدابير اللازمة للحفاظ على أمنهم وأمانهم وبالتالي الحفاظ على أمانتهم الصحافيّة.
في سلوك القطيع!
وتحت عنوان "الإعلام الإسرائيلي والحرب على غزة: في سلوك القطيع"، قدّم لهذه الدراسة رئيس الهيئة الإدارية لمركز "إعلام"، الكاتب أنطوان شلحت، فأشار إلى أنه مع إطالة أمد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، بدأت تتبدّد شيئًا فشيئًا بعض سُحب الضباب التي تلوح فوقها تحت وطأة التعتيم الصارم الذي فرضته إسرائيل عليها واستهدف من ضمن أمور أخرى التغطية على ما تقوم به من جرائم حرب وإبادة من جهة، وممارسة أكبر قدر من التضليل الإعلامي من جهة أخرى. بالرغم من ذلك لا يمكننا أن ندعي، عند قراءة التقارير والتحليلات الإسرائيلية، أن الصورة واضحة تمامًا وإن باتت أوضح من ذي قبل، ولكن يمكن أن نقوم بتقاطع ما هو واضح حتى الآن مع ما تسعى إسرائيل له وتزعم أنها سائرة نحوه، وكذلك أن ندلي بدلونا في عرض المصاعب والتحديّات التي تواجهها هذه الحرب والتي تبدو غير عاديّة بالرغم من أن الدعاية الإسرائيلية تعتبرها عادية وتحاول إقناع رأيها العام بذلك، في جوّ طاغٍ تحركّه غريزة الانتقام والعاطفة أكثر من أي شيء آخر، وأحيانًا حتى من دون عقل، ومن خلال إيمان أعمى.
وأضاف: في الحرب الحاليّة على قطاع غزة لا تنحصر الإشكالية التي طغت على أداء وسائل الإعلام الإسرائيلية في الرقابة العسكرية بل تتعدّى ذلك إلى مساهمة وسائل الإعلام هذه في تشكيل ما وصف بـ "الوعي الزائف"، والتي لا تتطلب الكذب بالضرورة بل يمكن تحقيق النتائج أيضًا عن طريق حجب معلومات، وبواسطة تشجيع الجهل، لأن الجهل لا يقل غائيّة عن الوعي، وشغف الجهل هو أقوى شغف في حياة الشخص وأقوى من الشغفين الآخرين، الحب والكراهية، كما قال المحلل النفسي والمنظّر الفرنسي جاك لاكان.
[email protected]
أضف تعليق