يطرح العدد الكبير من الجثامين المفقودة في غزة أسئلة حول طبيعة الأسلحة المستخدمة. ويتحدث متخصصون عن اختفاء بعض الجثامين من جراء حرارة المتفجرات، عدا عن وسائل البحث البدائية. بعد مرور سبعة أشهر على بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، لا تزال طواقم الدفاع المدني عاجزة عن الوصول إلى آلاف المفقودين، والذين وُضِعوا تحت خانة "فقدان بسبب القصف الإسرائيلي". وتتحدث الطواقم عن فرضية أساسية وهي أن استخدام الأسلحة المحرمة دولياً ساهم في عدم العثور على جثامين الشهداء لتتفاقم أزمة الوصول إليهم، عدا عن عجزهم بسبب نقص المعدات اللازمة للعمل.
وتحدّث المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان عن استخدام جيش الاحتلال الإسرائيلي أسلحة حرارية في قطاع غزة تؤدي إلى تحلل أو انصهار أجساد الضحايا، داعياً إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية من خبراء متخصصين في الأسلحة التي تستخدمها إسرائيل، بما في ذلك احتمال استخدامها قنابل تولّد حرارة شديدة تؤدي إلى تحلل أجساد الضحايا.
ووثّق المرصد الحقوقي شهادات ومعلومات أولية، وكشف عن جانب مخفي من المستويات المروعة للقتل الذي تمارسه إسرائيل في القطاع، يتعلق بانصهار أجساد الضحايا بفعل قنابل تسقطها طائرات حربية إسرائيلية على المنازل السكنية، واتباع سياسة إحداث دمار هائل في مربعات سكنية بأكملها خلال هجمات الاحتلال على القطاع وسقوط أعداد ضخمة من الشهداء والمصابين، الأمر الذي يثير مخاوف من احتمال استخدامه أسلحة حرارية، أو ما يُعرف باسم القنابل الفراغية.
وتعزّز طواقم الدفاع المدني في غزة رواية المرصد الأورومتوسطي، مشيرة إلى الجثامين التي أخرجتها من عدد من المواقع، خصوصاً تلك التي تعرضت لسياسة القصف الإسرائيلي المعروفة بالحزام الناري، أي القصف المتواصل على نقطة سكنية أو خط سكني كامل، في ظل سياسة تدمير المربعات السكنية.
ويشدد أحد ضباط جهاز الدفاع المدني في غزة محمد المغير، في حديثه لـ"العربي الجديد"، على استمرار صعوبة الوصول للجثامين العالقة واختفاء أعداد منها، وسط تأكيد بوجود مفقودين ضمن بيانات ومواصفات الأشخاص في المنطقة نفسها التي تم البحث فيها، في ظل عدم العثور على الكثير منهم. كما تم التعرف على علامات صغيرة تبين هوية بعض الجثث المتحللة من خلال ثياب أو عضو غير متحلل يظهر ملامح الشخص. ويوضح لـ"العربي الجديد": "منذ الأسبوع الأول للعدوان على غزة، أكدنا استخدام الاحتلال المتفجرات شديدة الانفجار والاحتراق، وهو ما يختلف عن الاعتداءات الإسرائيلية السابقة، لناحية القوة التدميرية وانصهار المباني الخرسانية وصعوبة الوصول للجثامين واستهداف معدات الدفاع المدني. كما أنها المرة الأولى التي يشهد فيها القطاع تدميراً على هذا النحو". يضيف: "هناك انفجارات وقنابل أطلقها الاحتلال أثرت على بقع جغرافية كاملة، من خلال إشعاعات المتفجرات، بمن فيهم طواقمنا الذين سقطوا بين شهداء وجرحى. وعادة ما تظهر الجثامين خلال عمليات البحث واتباع غرف المباني وغير ذلك، ثم جمع الأدلة من الجيران أو ذوي الشهداء في آخر مكان تواجدوا فيه، في محاولة للوصول إليهم في المكان المقصوف. كما تلاحق الطواقم علامات الدماء أو الأصوات وغيرها. لكن هناك جثامين اختفت نتيجة القوة التدميرية".
ويقول جهاز الدفاع المدني في غزة إن مئات الشهداء كانت مجهولة الهوية بسبب قوة الانفجارات وطبيعة الركام المنفجر مع الجثامين. كما أن نسبة بقايا الجثامين كبيرة، وهي المرة الأولى التي يشهد فيها القطاع نسبة مماثلة. ويتطلب الأمر وجود لجان دولية لتقصي الحقائق، لأن التعامل معها يفوق القدرات التي تدربت عليها الطواقم الطبية، والتي لا تجد أدوات بسيطة للتعامل مع هذه الجثامين.
وتشير سجلات الدفاع المدني في نهاية شهر إبريل الماضي إلى تسجيل أكثر من 10 آلاف مفقود لا يزالون تحت أنقاض مئات المباني المدمرة منذ بدء العدوان على القطاع. وتوضح في بيانها أن البحث عن الشهداء المفقودين تحت الركام بالوسائل البدائية تعني أنهم سيستغرقون ما بين عامين إلى ثلاثة أعوام في حال عثروا على بقايا بعض الجثامين منهم.
علامات غريبة على جثامين شهداء في غزة
ويتحدث الطبيب الشرعي محمود الطيب، بعد معاينته عدداً من جثامين الشهداء، عن المتفجرات المستخدمة، وقد وصلت جثامين شهداء كانت منتفخة، عدا عن انبعاثات للدخان من مكان الإصابة، على الرغم من مرور ساعات على مفارقتهم الحياة، ما زاد من الحاجة إلى لوازم طبية. ويقول لـ "العربي الجديد": "خلال هذا العدوان، كانت تظهر على جثامين الشهداء آثار غريبة جداً وانتفاخ غير عادي وتآكل في الأطراف. كما كانت الحروق وألوانها غريبة، ولا تعطي دلالة على أن التحلل هو فقط نتيجة مادة ثقيلة معدنية داخل المتفجرات، وإنما تحتوي على مواد كيميائية ثقيلة. ولا يوجد بطبيعة الحال معامل دقيقة لفحص هذه المواد".
يضيف: "عملياً، هناك مواد كيميائية عدة للتخلص من الجثث، وأبرز هذه المواد هي حمض الكبريت والذي سبق أن تم دراسته طبياً. وبناء على تجارب سابقة في دول خارجية، استخدم لإذابة الجثامين وتحليلها، ويمكن لهذا المركب الكيميائي إذابة جزء كبير من الأنسجة الجسدية منها الصلبة، وحتى إذابة الأسنان خلال ساعات، وهناك جثامين في غزة لا يعرف أي آثار لها بشكل غير منطقي".
ويشدد على أن "ما يمكن تفسيره في ظاهرة اختفاء الجثامين هو تعرّضها لدرجة حرارة عالية جداً منبعثة من الصواريخ الإسرائيلية غير التقليدية التي تستخدم ضمن حرب الإبادة. وترتفع درجة حرارة الصواريخ إلى درجة كبيرة، ما يعرّض الأجساد في المحيط إلى التحلل والانصهار نتيجة الحرارة. وتفسر جثامين الشهداء تعرّضهم لنسبة من تلك الحرارة".
وعاينت الطواقم الطبية في غزة عدداً من جثامين الشهداء. ويشير رئيس قسم الطوارئ والاستقبال في مستشفى شهداء الأقصى في مدينة دير البلح، محمد ريان، إلى أنه منذ الشهر الأول للعدوان، تكرر وصول حالات تعاني من حروق غريبة نتيجة إشعاعات الصواريخ في محيط القصف، ما أدى إلى انتفاخ في الأجساد، ولا تزال تصلنا حالات مماثلة.
وكان ريان من ضمن الذين فقدوا ذويهم ولم يتم العثور على الأشلاء والجثامين رغم إزالة الركام والبحث بدقة بين المباني. ويشير إلى تكرار حالة تم وصفها بتبخير الجثامين، في ظل عدم العثور على أية دلائل. ويقول لـ "العربي الجديد": "الكثير من الجثامين مفقودة، من بينهم زملاء من الطواقم الطبية في المكان نفسه، حيث أخرجت جثامين ومصابون متضررون. وفي الوقت نفسه، كان البعض مصاباً بحروق غير عادية، في الوقت الذي نفتقد فيه المعدات واللوازم الطبية لمعالجة الجروح غير العادية التي تحتاج لعلاج طويل".
البحث بين الرمال
ولا يزال آلاف الغزيّين ينتظرون أية مؤشرات إيجابية في ظل استمرار عمليات البحث من قبل طواقم الدفاع المدني. وشارك بعض المواطنين في عمليات البحث المتكررة ولم يجدوا إلا رمالاً، في إشارة إلى أن القصف الذي تعرضت له بعض المناطق لم يكن عادياً، بل كان مدمراً إلى درجة كبيرة، خصوصاً في حي الشجاعية الذي استهدفت فيه مربعات سكنية على امتداد المنطقة الشرقية الحدودية، بالإضافة إلى حي الزيتون وشرق بلدة جباليا، حيث اختفت آثار كثيرين في المنطقة.
وبعد الانسحاب الإسرائيلي من أجزاء من تلك المناطق، توجهت عائلات المفقودين إلى المكان وبدأوا البحث بين الرمال والركام والدماء والأشجار، من بينهم عمر أبو موسى الذي يبحث عن صديقين له كانا يتواجدان في حي التركمان لحظة المجزرة التي ألحقها الاحتلال في المنطقة في ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي.
ويشير أبو موسى إلى أن صديقيه عبد النبي عمر ومحمد حجاج كانا يتواجدان في المنطقة عقب هدوء نسبي شهدته المنطقة خلال فترة الهدنة. لكن كما أخبره سكان محيط الحارة المقابلة لهم، فهناك جثامين لا تزال مختفية حتى بعد إزالة ركام عدد من المنازل. كان يحاول البحث في الرمال عن أي دليل، إذ أن محمد حجاج كان يرتدي سترة سوداء.
ويقول لـ "العربي الجديد": "كأن الأرض بلعتهم. لا يزال لدي بعض الآمال في البحث عنهم، لكن بعض الناس يخبرونني أن أدعو لهم بالرحمة لأنه لا أمل في العثور عليهم. تم الترحم على الكثير من المفقودين، ويقول البعض إنهم تبخروا مع المباني التي لم يبق منها إلا ركام".
[email protected]
أضف تعليق