فرض الله على المسلمين صوم شهر رمضان الكريم، ليكون ركنا من أركان الإسلام، وقاعدة من قواعد الدين، وقربة من أعظم القربات إليه، إذ قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" [البقرة: 183].
لهذا، عادة ما تكثر تساؤلات المسلمون الصائمون خلال شهر رمضان الكريم ويزداد طلبهم للفتاوى اليومية حول أحكام الصيام، وما يفطر وما لا يفطر، وغيرها من الأحكام المتعلقة بالصيام.
في سلسلة "فتاوى رمضانية" تقدم "الشروق" إجابات وفتاوى يومية عن الأسئلة التي تهم الصائمين في شهر رمضان الكريم.
ما حكم الصيام لمرضى السكر والأمراض المزمنة في رمضان؟
ردت دار الإفتاء المصرية على هذا السؤال بأن الصوم فريضةٌ من فرائض الإسلام أناطها الله تعالى بالاستطاعة، فإذا لم يستطع المسلمُ الصومَ بالامتناع عن المفطرات من الطعام والشراب ونحوهما من الفجر إلى المغرب، فإن له رخصة الإفطار، بل إذا كان الصوم يضُرُّ بصحته -بقول الأطباء المتخصصين- يجب عليه أن يفطر؛ حفاظًا على صحته.
صيام المريض بالأمراض المزمنة
إن كان المرض طارئًا فعلى المسلم أن يقضي ما أفطره عندما يزول العارض، أما إذا كان مريضًا مرضًا لا يُرجَى شفاؤه -وهو ما يُعرَف بالأمراض المزمنة- ولا يَقْوَى معه على الصيام، أو كان كبيرًا في السن؛ بحيث يعجز عن الصيام وتلحقه مشقة شديدة لا تُحتَمَل عادةً فلا يجب عليه الصيام، وعليه فدية إطعامُ مسكين عن كل يوم من الأيام التي يفطرها من رمضان.
وقدر هذه الفدية مُدٌّ من الطعام من غالب قوت البلد؛ والمد عند الحنفية: يساوي رطلين بالعراقي؛ أي: 812.5 جرامًا، وعند الجمهور: رطل وثلث بالعراقي؛ أي: 510 جرامًا، والمفتى به: جواز دفع القيمة، بل ذلك أولَى؛ لأنه أنفع للمسكين وأكثر تحقيقًا لمصلحته، وتُخرَج من تركته إذا ترك وفاءً، فإن قَوِي بعد ذلك على الصيام فلا قضاء عليه، بل تجب عليه الفدية؛ لأنه مُخاطَب بها ابتداءً مع حالته المذكورة.
حكم الصيام لمرضى السكر
ومرض السكر على اختلاف درجاته هو من الأمراض المزمنة، ومعرفة أحكام مرضاه من جهة الصوم الواجب مبنية على معرفة طرق العلاج المتاحة لهم طبيًّا في كل فئة من الفئات المذكورة.
ومن المعلوم طبيًّا -كما يذكر المتخصصون- أن التعامل مع مرضى السكر على اختلاف فئاتهم يكون من خلال عدة طرق: الطريقة الأولى: وهي ما يتم علاج المريض فيها عن طريق تنظيم الوجبات الغذائية مع ممارسة التدريبات البدنية، فهؤلاء عليهم أن يصوموا، ولا خوف عليهم من ذلك؛ لأن مرضهم من النوع الخفيف الذي لا يؤثر عليه الصيام، ولكن إذا تبين وجود ضرر عند الصيام عن طريق رأي الطبيب فعليهم بالأخذ بالرخصة وهي الإفطار وإخراج الفدية عن كل يوم إطعام مسكين.
الطريقة الثانية: وهم المرضى الموصوف لهم بعض العقاقير، مع برنامج الغذاء المحدد، وهم نوعان: الأول يأخذ عقاقير السكر مرة واحدة في اليوم، فهذا لا إشكال في صومه، لأنه من الممكن أن يأخذها قبل الفجر مباشرة.
والثاني يتناول الحبوب مرتين أو ثلاث مرات يوميًّا، وفي هذه الحالة إذا أمكنه أن يأخذ الحبوب قبل الفجر، وبعد الإفطار، دون ضرر يلحقه فعليه أن يصوم، وإن كان يضر به تأخير الحبوب فعليه أن يأخذها ويترك الصوم.
والثالث وهم المرضى الذين يتعاطون حقن الأنسولين مرة أو مرتين أو أكثر في اليوم فإن صام مريض السُّكَّر الذي يعالج بالأنسولين فهذا جائز شرعًا ولا يفسد الصيام؛ لأن المُضِرَّ بالصيام إنما هو ما وصل عمدًا إلى الجوف المنفتح أصالةً انفتاحًا ظاهرًا محسوسًا؛ وانفتاح المسام والشعيرات الدموية والأوردة والشرايين بالحَقْن الوريدي أو الجلدي أو العضلي أو نحو ذلك ليس ظاهرًا ولا محسوسًا، فلا يَصْدُقُ على المادة المحقونة بها أنها وصلت إلى الجوف عن طريق مَنْفَذٍ طَبَعِي مفتوح؛ سواء أكانت في الوريد أم في العضل أم تحت الجلد، وسواء أكانت دواءً أم غذاءً.
يقول العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية الأسبق بعد أن ساق نصوص أهل المذاهب الأربعة في ذلك: [ومن هذا يُعلَم أن الحقنة تحت الجلد لا تفسد الصوم باتفاق المذاهب الأربعة، سواء كانت للتداوي أو للتغذية أو للتخدير، وفي أي موضع من ظاهر البدن؛ لأن مثل هذه الحقنة لا يصل منها شيء إلى الجوف من المنافذ المعتادة أصلًا، وعلى فرض الوصول فإنما تصل من المَسَامِّ فقط، وما تصل إليه ليس جوفًا ولا في حكم الجوف، وليست تلك المَسَامُّ مَنْفَذًا منفتحًا لا عُرفًا ولا عادةً، ومثلُ الحقنة تحت الجلد.
فيما ذُكِر: الحقنةُ في العروق التي ليست في الشرايين، والحقنة التي تكون في الشرايين، وكلاهما أيضًا لا يصل منه شيء إلى الجوف، لكن الفرق أن الحقنة التي في الشرايين تكون في الدورة الدموية؛ ولذلك لا يُعطيها إلا الطبيب. فالحَقُّ أن الحقنة بجميع أنواعها المتقدمة لا تفطر] اهـ.
فإن غلب على ظن المريض أنه إن صام حصلت له مشقة، أو صام ثم حصلت له المشقة؛ سواء باشتداد وطأة المرض عليه، أم احتاج إلى تناول الدواء، أم غلبه الجوع أو العطش -وهذا هو حال غالب مرضى السُّكَّر- جاز له أن يفطر، بل ويجب عليه أن يفطر إذا خشي على نفسه من الهلاك؛ لقول الله تعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29]، وقوله تعالى: ﴿وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195].
قال العلَّامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (2/ 169، ط. دار الكتب العلمية): [وإن عاد المرض واحتاج إلى الإفطار أفطر، ويجب الفطر إذا خشي الهلاك؛ كما صرح به الغزالي وغيره، وجزم به الأذرعي، ولمن غلبه الجوع أو العطش حكم المريض] اهـ.
وبناءً على ذلك، فإن أحكام الصيام لفئات مرضى السكر مترتبة على الطرق العلاجية التي يمكن التعامل بها مع كل فئة بما يناسبها على التفصيل المذكور، فإذا تأكدت احتمالات الضرر من الصيام لمريض السكر -كما هو مذكور في الفئة الأولى- وجب على المريض طاعة الطبيب في الإفطار، ويأثم إن صام، وإذا غلب احتمال الضرر على ظن الأطباء المتخصصين -كما هو مذكور في الفئة الثانية- وجب الإفطار وطاعة الطبيب كذلك؛ لأن المَظِنَّة تُنَزَّل منزلة المَئِنَّة.
أما إذا كان احتمال الضرر من الصوم متوسطًا أو ضعيفًا -كما في الفئة الثالثة-: فإن الأخذ برخصة الإفطار حينئذٍ يكون أمرًا تقديريًّا، أي إن مرجعه في معرفة ضرر الصوم وما قد يجره عليه من أذًى هو إلى الطبيب المتخصص من جهة معرفة حالته ومضاعفاتها، وإلى المريض من جهة طاقته وقدرته على الصيام واحتماله له؛ فيُقدِّر الطبيب مدى تأثير الصوم على حالة المريض من حيث إمكانية الصوم من عدمه، ويقدر المريض مدى قدرته واحتماله للصوم.
مع التنبيه على أنه يجب على المريض في كل فئة من هذه الفئات الثلاث أن يستجيب للطبيب إن رأى ضرورة إفطاره وخطورة الصوم عليه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
[email protected]
أضف تعليق