سطعت نور الأديان على مرّ العصور، وعلى وجه البسيطة كي تفرح الأرض بنور الباري عز وجل. وجاءت هذه الأديان لتُنظم علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وتفتح باب التعايش والتآخي التفاهم ومسيرة الحوار، وتعزيز ثقافة احترام التنوع وإرساء قواعد العدل والعدالة بين أطياف الشعوب والمجتمعات كافّةً.
نعم، عندما تعانق مآذن المساجد أجراس الكنائس وعلى مسامع العمائم البيضاء ذات القلوب المؤمنة والمنفتحة، لترسم لنا مشهدًا رائعًا ينثر الإيمان ويثلج الصدر ويبعث للطّمأنينة.
من هذا المنطلق، وإيمانًا وتمشيا مع ما تقدم، ووسط أجواء احتفاليّة سادتها الألفة والتأخي، احتضن مقام النّبي الخضر الشّريف، حيث يشعر الزائر بالوقار والانتماء، مؤتمرًا نوعيًّا بالتعاون مع المجلس الديني الأعلى للطائفة المعروفية والكنيسة الأرثوذكسية، وحكومة موسكو روسيا بمشاركة رجال اعتبارية سياسية ودينية من مختلف الأطياف والفئات، تمّ خلاله التحاور والتباحث في شؤون السّاعة على الصعيدين المحلي والعالمي والعلاقات ما بين الطائفة الدرزية وروسيا.
استمرارا للقاءات كان قد أجراها فضيلة الشيخ موفق طريف في موسكو مع شخصيات روسية ،وممّا جاء في كلمة فضيلة الشّيخ موفق طريف، الرئيس الروحي للطائفة الموحدين:
" لم تكنِ الطّائفةُ الدّرزيّةُ يومًا إلّا داعيةَ محبّةٍ وتآلف وعدالة، وجسرَ تواصلٍ إنسانيّ هامّ بين الأديان والحضارات والشّعوب، حيث علّمتنا أعرافُ ديننا الشّريف أنّ محبّةَ الغير واحترام اختلافه ليس قيمةً أخلاقيّة فحسب، بل مطلبٌ دينيٌّ وعرفانيّ موجِبٌ، يقتضي علينا تقدير جميعِ الرّسائلِ السّماويّة وأصحابَها، وتحمّل مسؤوليّة تعميم كلمةِ التّسامحِ الدّينيّ والاجتماعيّ في كلّ مكانٍ وزمان.
وأيّ دليلٍ أعظمُ وأجلُّ من تواجدنا اليومَ هنا في بلدة كفرياسيف، وتمثيلنا عبرها لفسيفساء هذه البلاد المقدّسة الشّريفة، الّتي يختلطُ بها صوتُ المؤذّن في المساجد بصوتِ أجراس الكنائس وابتهالات الشّيوخِ في الخلوات وصلوات الحاخامات في الكُنُس.
في مثل هذا اللّقاء التّاريخيّ لا بُدّ من وقفةٍ موجزةٍ مع تاريخِ طائفتنا الموحِّدةِ الدّرزيّة، الّتي كُتب لها أن يقترنَ اسمُها بلقبها الخالد "بني معروف"، وهو اعترافٌ نالتهُ الطّائفةُ على يد إخوانها من أبناء الطّوائف الأخرى، تمييزًا لما تنطوي عليه عاداتُنا من خصالٍ إنسانيّةٍ أخلاقيّةٍ نذكرُ منها صدقَ اللّسان وحفظَ الإخوان وإغاثةَ الملهوف والانتصار للمظلومِ من الظّالم وغيرها.
طائفةٌ قد تبدو على الخارطة الشّرق أوسطيّة قليلةَ العددِ والأفراد، ولكنّها حتمًا طائفةٌ سطّرت صفحاتٍ ناصعةً في التّاريخ وقلبتْ المعطياتِ ومجريات الأحداث، ملتزمةً بقانونها الأهمّ: لا نُعادي ولا نعتدي بل ندافع عن الحقّ والكرامة.
هذا هو دور الطّائفةِ الدّرزيّة في كلّ قُطرٍ وُجدت فيه: بحثٌ دائمٌ عن سُترة الحال وخدمة الوطنِ والتّمسّك بالأخلاقيّات الإنسانيّة وبالحقيقة. هكذا كنّا وهكذا سنبقى، أوفياءَ لكلّ من يبادلنا المعروف ويحترمُ فينا ما تربّينا عليه من العادات والتّقاليد والنّهجِ الموروث.
في ظلّ هذا الميثاق الإنسانيّ الرّاقي، ربطتنا ولا تزال علاقاتُ الأخوّة والمودّةِ مع الدّولة الرّوسيّة الاتّحاديّة، إذ كانت الصّوتَ الواضح المسؤول في الخطاب المعتدل المؤثِّر محليًّا وعالميًّا في شتّى القضايا العالقةِ والأحداث.
خلال سنواتٍ طويلةٍ من معاناةِ الطّائفةِ الدّرزيّة في سوريا تحت وطأة الحرب المستمرّة، فتحتْ لنا روسيا أوسعَ أبوابها ومكاتبَها، موليةً اهتمامًا خاصًّا بمطالبنا الإنسانيّةِ حول أهميّة الحفاظ على مصالحِ أبناء الطّائفة في مختلف المناطق السّوريّة، باعتبارهم صمّام الأمن والأمان هناك.
هذه المطالب الّتي رأيناها تتحقّق على أرض الواقع بفضلِ مجهودِ القيّمين والمسؤولين في الوزارات الرّوسيّة المختلفة، بعد أن لقيَتْ آذانًا صاغيةً وعقولًا حكيمةً خطّطتْ وجدّتْ وأنجزَتْ، وهو ما نرجو أن يستمرّ ويُطوَّر من أجلِ توثيق العلاقاتِ والحفاظ على هدوء الشّرقِ الأوسط وسطَ صونِ حقوق الأقليّات.
كذلك، وفي ظلّ ما شهدته ببالغ الأسف مدُنُ سوريا وتركيّا من زلازلَ هزّت الأراضي والقلوب، نستغلّ الفرصةَ لنناشدَ العالم أجمع والقيادةَ الرّوسيّةَ بمدّ يد العون والإسعافِ إلى أبناء الشّعبين المنكوبَيْن، واثقين بقدرة مساهمتها على إحداث الفرق والتّخفيفِ من هولِ هذه الكارثة الإنسانيّة المؤسفة".
المدير العام للمجلس الديني الأعلى المحامي رائد شنان مرحبا بالوجوه النيرة، ثم تولى عرافة اللقاء قدس الأب عطالله مخولي الذي أدار اللقاء متطرقا إلى وحدة الطوائف والأديان ودور روسيا في إنعاش الحركة الثقافية والعلمية.
السفير الروسي أكد تجديده موقف بلاده الداعم لمكانة وكيان الطائفة الدرزية ودور موسكو في إحقاق الأمن والسلام لكافة شعوب ودول المنطقة، وشمل المؤتمر عدة كلمات لكل من رئيس مجلس كفر ياسيف شادي شويري، قدس الأب د. فؤاد فوزي، الشيخ بلال عبد القادر إمام كفر ياسيف، الوكيل البطريركي الروم الأرثوكس في عكا قدس الأرشمندريت فيلوثيوس
أمير الطائفة الأحمدية محمد شريف، ثم مداخلات علمية وتربوية تتعلق بالتعايش المشترك ودور التعليم في بناء ورقي المجتمع عرضها كل من الدكتورة راوية بربارة، المربية سهيلة خطيب، سوسن أبو ركن حديد، المربية نغم فرح، والأرشمندريت إميل شوفاني، ثم قام بتلخيص المؤتمر الدكتور أمين صفية القنصل الروسي الفخري.
بدوري أتمنى أن تساهم مثل هذه اللقاءات في نشر رسالة الحوار وإبراز قيمته وتعزيز الإنسان في مسيرته الحضارية والمحافظة على قدسيته وكرامته.
معين أبو عبيد
عضو الاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين –الكرمل 48
[email protected]
أضف تعليق