في السير من وسط الضفة الغربية، حيث الجبال الشرقية لرام الله والقدس، تطل عليك عيون المياه لتصب بواد يقال له "وادي القلط"، فترى الجمال قطعة مرسومة على ضفاف الوادي، تصاحبه مغامرة السير مشيًا في طرقات يكاد المار أن ينحدر منها إلى قاع سحيق.
وادٍ ذو زرع ومياه، ترسم الوادي أزهار الربيع بشقائق النعمان الحمراء وكذلك الأعشاب البرية الطبية، وتزقزق العصافير وتسرح الغزلان وتحلق الطيور والحيوانات البرية، ويسود المكان تنوع بيئي وحيوي، في مشهد جميل، يعشقه الزائر وخاصة في فصل الربيع.
على ضفاف الوادي تحف الصخور الجبلية مسير الزائر، وتتوسط الوادي دير "القديس جورج"، المبني بشكل معلق في قلب جبل، ليصل الزائر بعدها إلى نهاية الوادي بمدينة أريحا شرقي الضفة الغربية، مرورًا بقصر هيرودس الشتوي أو ما يعرف محلياً بـ"تلول أبو العلايق"، وفق ما يقول مدير مكتب وزارة السياحة الفلسطينية في أريحا، إياد حمدان، لـ"العربي الجديد".
ويعود أصل وادي القلط إلى بداية التاريخ، حينما سكن الناس الكهوف والأودية، قبل انتقالهم إلى الأبنية الحجرية، فوادي القلط يقع في مدينة أريحا أقدم مدينة في التاريخ، وأخفض مكان في العالم عن سطح البحر، وفيها البحر الميت.
دير القديس جورج
بعد العام الثلاثمائة للميلاد، كان أتباع الديانة المسيحية يتعرضون للبطش من الحكام الرومان، فلجأ الراهب جورج مع يوحنا الطيبي، أول قديس، واختبأا في وادي القلط هربًا من بطش الرومان، ونجا بنفسه هو وعدد من الرهبان الذين سكنوا الكهوف في الجبال المحيطة بالوادي، إبان نشأة الديانة المسيحية في فلسطين.
وظل أولئك الرهبان يسكنون بكهوف منطقة وادي القلط لحين وفاتهم ومنهم من دفن في الوادي، وبعد 180 سنة أي في العام 480 للميلاد، بني الدير الذي نسب في تسميته إلى جورج، ولم يكن بشكله الحالي، حيث أعيد بناؤه في العام 1200 للميلاد، ثم بني بشكله الحالي على يد الكنيسة اليونانية سنة 1800.
وتبلغ مساحة الدير أو (كنيسة السان جورج)، ببنائها الحالي نحو 700 متر مربع، فيها العديد من الزوايا التعبدية والمرافق الأخرى، ويعيش فيها في هذه الأيام عدد من رجال الدين المسيحيين، ويسمح للزوار دخولها في أوقات محددة.
مصبات مياه وادي القلط
في زمن حكم الرومانيين لفلسطين، شيد الملك هيرودس قصرًا شتويًا له في نهاية وادي القلط، ضمن سلسلة قصور أخرى له بناها في فلسطين، ليعيش فيه بالشتاء، وشيد لعين القلط وعين فارة وعين الفوار، قناة تصل إلى قصره ليشرب منها سكان القصر ويستخدموها.
وتجري عيون الوادي في مسارها الذي يمتد نحو 45 كيلو مترًا، لتصب في النهاية بنهر الأردن، إذ يعتبر مسار وادي القلط من مصبات نهر الأردن على مدار العام، ضمن مصدرين يغذيان هذا المسار، وهما عيون المياه الثلاث (فارة، والفوار، وواد القلط)، إضافة لمياه الأمطار.
قنوات هيرودس لنقل المياه إلى قصره الشتوي، مرت بعد ذلك، بمراحل عدة من تطويرها والإضافات عليها، حيث تم إصلاحها أيام الحكم الأردني للضفة الغربية قبل العام 1967، وبنيت من الإسمنت، وتضخ عيون المياه تلك في مصب وادي القلط نحو 3 ملايين متر مكعب من المياه سنويًا، يوضح حمدان لـ"العربي الجديد".
جهود فلسطينية قاصرة
محمية وادي القلط الطبيعية الفلسطينية تاريخًا وحضارة وحقًا، لا زالت تخضع للسيطرة الإسرائيلية ضمن تقسيمات اتفاقية "أوسلو"، لكن وزارة السياحة الفلسطينية تحاول الاهتمام والعناية بها، ضمن الإمكانات المتاحة، وتروج بطرق غير مباشرة لها، من أجل جلب السياح لزيارتها من أماكن مختلفة في العالم ضمن سياحة ترفيهية ودينية.
كما تحاول الوزارة بجهودها المتوفرة الاهتمام بهذا المكان نظافة وترسيماً لمساراته، لإثبات فلسطينيته في ظل الدور المحدود للوزارة، وفق ما يوضح المدير العام للحماية في وزارة السياحة، صالح طوافشة، لـ"العربي الجديد".
وتسعى وزارة السياحة الفلسطينية، وفق طوافشة، لإدراج "وادي القلط" في التراث العالمي، ضمن 20 موقعا أثريا طبيعيا فلسطينيا مرشحة في القائمة الوطنية الفلسطينية، من أجل تقديمها لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو".
ومن أبرز ما تقدمه وزارة السياحة الفلسطينية إقرار مسارين لوادي القلط، الذي يسلكه الزوار راجلين فقط، ويمتد مساره نحو 37 كيلو مترًا، يستغرق السير به ما بين (5-6 ساعات)، مشيًا على الأقدام في رحلة من المغامرة والمتعة.
ويوضح مدير سياحة أريحا إياد حمدان أن "الإقبال على زيارة الوادي بدأ يتزايد خلال السنوات الأخيرة، لاسيما السياح المحليين، ويحج إليه آلاف السياح سنويًا، ضمن زيارات أخرى لمدينة أريحا التاريخية".
أريحا أقدم مدينة وحضارة في التاريخ
تعد مدينة أريحا أقدم مدينة بنيت في العالم حينما فكر الإنسان الأول بالاستقرار، حيث تعود نشأتها إلى العصور الحجرية في فترة نشأة واستقرار الإنسان الأول ومحاولته تدجين الحيوانات واكتشاف الزراعة.
وتتنوع الحضارة التاريخية في أريحا، حيث يوجد فيها 113 موقعًا أثريًا، تنضوي ما بين مواقع ما قبل التاريخ ومواقع حديثه في فترات مختلفة، وكذلك في العصور الحجرية الحديثة، وتضم أريحا بمواقعها الأثرية عددًا من الأديرة والمقامات الدينية المميزة، وقصر هشام الذي يوجد به أكبر أرضية فسيفساء بنيت في زمن الأمويين، وكذلك المغطس الديني المسيحي على القريب من نهر الأردن.
وتبلغ مساحة أريحا 64 كيلو متراً مربعاً، يسكنها 35 ألف نسمة، حيث تعتبر من أكبر المناطق في الضفة الغربية المحتلة، مساحة مقارنة مع عدد السكان فيها، وتعتبر مشتى فلسطينيًا لدفء الأجواء فيها، ويعتبر مناخها حارا صيفًا، في حين تتنوع مصادر المياه فيها، وتتنوع الزراعات في أراضيها.
[email protected]
أضف تعليق