كتب: موفق السباعي
إن الدين الذي أرسله الله تعالى مع كل الرسل، بدءاً من نوح وانتهاءً بمحمد صلوات الله وسلامه عليهم.. كان يهدف إلى هدف واحد لا ثانيَ له، هو: إخراج الناس من العبودية للعبيد والأوثان والأصنام، إلى العبودية لله وحده.
وهذا ما عبر عنه أبلغ تعبير، ربعي بن عامر – الجندي المسلم البسيط - لقائد الفرس رستم، قبل موقعة القادسية المشهورة، حينما سأله بكل استغراب وتعجب! وهو يعرف أن العرب ما كانوا إلا قبائل متفرقة، وذليلة، ومستكينة، وخاضعة لهم على مدار التاريخ.. ما الذي جاء بكم؟! فأجابه بكل قوة وثقة ويقين (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد، إلى عبادة الواحد الديان).
فالدين الذي أرسله الله للبشر، ما كان إلا ثورةً على عبادة غير الله، وتمرداً على كل الأنظمة البشرية التي تجبر الناس على الخضوع لها، بقبول تشريعاتها من دون تشريع الله، وانقلاباً على كل الحكومات البشرية، التي تغتصب سلطة التشريع، وتنظيم القوانين من الله تعالى، وتجعل الناس عبيداً لها.
خاصيةُ التشريع لله وحده فقط
فخاصيةُ التشريع، ووضعُ القوانين، وتبيانُ الحلال والحرام، والمحظور والمسموح؛ هي لله وحده؛ خالق العباد؛ والعارف بحاجياتهم ومتطلباتهم الحياتية، والتي لا يمكن لأي عبد من العباد - مهما أوتي من العلم والحكمة، ومعرفة القوانين - أن يُلم بشيء بسيط منها.
وأي عبد يعتدي على سلطان الله، ويغتصب خاصيته في التشريع، فإنما يُعلن نفسه إلهاً من دون الله. والذين يطيعونه من البشر، فإنما يعبدونه ويشركون مع الله إلهاً آخر. لأن الطاعة في المفهوم الإسلامي هي العبادة.
ولأن الله تعالى يعلن بشكل حاسم، وقاطع، ليس فيه هزل ولا مزح (إنِ الحُكْمُ إلا للهِ أمَرَ ألا تَعْبُدوا إلا إياه، ذلكَ الدينُ القيمُ، ولكن أكثرَ الناسِ لا يَعلمُونَ) يوسف 40. وتفسير هذه الآية في ظلال القرآن:
(إن الحكم لا يكون إلا لله . فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته ; إذ الحاكمية من خصائص الألوهية . من ادعى الحق فيها فقد نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته ; سواء ادعى هذا الحق فرد , أو طبقة , أو حزب . أو هيئة , أو أمة , أو الناس جميعا في صورة منظمة عالمية . ومن نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته وادعاها.. فقد كفر بالله كفرا بواحا , يصبح به كفره من المعلوم من الدين بالضرورة , حتى بحكم هذا النص وحده!) يوسف ص 50.
وفي هذا الشأن يقول سيد قطب رحمه الله بأروع تعبير، وأقوى بيان:
(إن هذا الدين إعلان عام لتحرير "الإنسان" في "الأرض" من العبودية للعباد - ومن العبودية لهواه أيضاً وهي من العبودية للعباد - وذلك بإعلان ألوهية الله وحده - سبحانه - وربوبيته للعالمين. . إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها ; والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور. . أو بتعبير آخر مرادف: الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور . . ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر , ومصدر السلطات فيه هم البشر , هو تأليه للبشر , يجعل بعضهم لبعض أرباباً من دون الله. .) الأنفال ص6.
مواجهة جميع الرسل حرباً من قومهم
ولهذا! كان جميع الرسل على الإطلاق، يواجهون حرباً ضروساً من قومهم، وعداوة شديدة، وأذى واضطهاداً، وتعذيباً، وتنكيلاً لهم، ولأتباعهم الذين كانوا ضعفاء فقراء.
لأنهم كانوا يخشون على مكانتهم الاجتماعية، ومناصبهم السيادية، ويخافون أن يسحبها منهم أولئك الرسل الكرام، الذين ما كانت دعوتهم إلا أن يقولوا للناس (اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره ) الأعراف 65.
فمجرد الدعوة إلى الله وحده، كانت تشكل خطراً كبيراً على زعماء الكافرين، فكان جوابهم (أجَعلَ الآلهةَ إلهاً واحداً؟! إنَّ هذا لشَيءٌ عُجابٌ) ص 5.
كما كان جواب فرعون لقومه، لما جاءه موسى عليه السلام يدعوه إلى الله (إني أخافُ أنْ يُبًدِّلَ دينَكُم أو أنْ يُظهِرَ في الأرضِ الفسادَ) غافر26.
والآن! وقد استدار الزمان كهيئته يوم بُعث الرسول صلى الله عليه وسلم، وانتكست البشرية جمعاء – بما فيها سلالات المسلمين – ورجعت إلى الجاهلية من جديد، بل إلى أسوأ وأشد توحشاً، وأكثر تفنناً، وخداعاً وتضليلاً من الجاهلية الأولى.
فأصبح الحكامُ آلهةً من دون الله. يشرعون للناس أنظمة، وقوانين من عند أنفسهم. والناس يعبدونهم بطاعتهم لتلك القوانين، فيشركون مع الله آلهة أخرى.
انتكاس البشرية إلى الجاهلية
وفي هذا السياق يقول سيد قطب رحمه الله بأنصع بيان، ويعلن بأقوى إعلان، ويعبر بأجرأ وأشجع تعبير:
(انتكست البشرية في تصوراتها الاعتقادية ابتداء - حتى الذين كان آباؤهم وأجدادهم من المؤمنين بهذا الدين , المسلمين لله المخلصين له الدين - فإن صورة العقيدة قد مسخت في تصورهم ومفهومهم لها في الأعماق .
(لقد جاء هذا الدين ليغير وجه العالم , وليقيم عالماً آخر , يقر فيه سلطان الله وحده , ويبطل سلطان الطواغيت ) الأعراف ص 14.
(إن المجتمعات البشرية اليوم - بجملتها - مجتمعات جاهلية. وهي من ثم مجتمعات "متخلفة " أو "رجعية " ! بمعنى أنها "رجعت" إلى الجاهلية , بعد أن أخذ الإسلام بيدها فاستنقذها منها.) الأعراف ص 16.
(لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية بلا إله إلا الله. فقد ارتدت البشرية إلى عبادة العباد , وإلى جور الأديان ; ونكصت عن لا إله إلا الله , وإن ظل فريق منها يردد على المآذن: "لا إله إلا الله" ; دون أن يدرك مدلولها , ودون أن يعني هذا المدلول وهو يرددها , ودون أن يرفض شرعية "الحاكمية " التي يدعيها العباد لأنفسهم - وهي مرادف الألوهية - سواء ادعوها كأفراد , أو كتشكيلات تشريعية , أو كشعوب . فالأفراد , كالتشكيلات , كالشعوب , ليست آلهة , فليس لها إذن حق الحاكمية . . إلا أن البشرية عادت إلى الجاهلية , وارتدت عن لا إله إلا الله . فأعطت لهؤلاء العباد خصائص الألوهية . ولم تعد توحد الله , وتخلص له الولاء. .
(البشرية بجملتها , بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات: "لا إله إلا الله" بلا مدلول ولا واقع . . وهؤلاء أثقل إثما وأشد عذابا يوم القيامة, لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد - من بعدما تبين لهم الهدى - ومن بعد أن كانوا في دين الله !) الأنعام 65.
وبما أنه لا يوجد مجتمع مسلم يُحكم بشرع الله على وجه البسيطة، وإنما يوجد أفرادٌ مسلمون متفرقون، بعضهم يخضع لأحكام العبيد، ويطيع أوامرهم، فيخرجون من الإسلام، ويصبحون مشركين بعبادتهم لغير الله. وبعضهم يستنكر بالبيان والكلام، ويرفض الخضوع لأحكام العبيد، فيبقى على الإسلام.
واجب العلماء السوريين
لذلك وجب على العلماء السوريين، والدعاة إلى الله، أن ينشطوا، ويتحركوا لإيجاد المجتمع المسلم، الذي يُحكم بشرع الله في المناطق الخارجة عن سيطرة حكم الأسد، بدلاً من الانشغال والانهماك في اهتمامات سطحية، ساذجة، بسيطة، مثل اختيار مفتي، لا تحقق مدلول (لا إله إلا الله) ولا تستنزل نصر الله، الذي لن يتحقق إلا بعد تحقيق مراد الله، كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنْ تَنْصُروا اللهَ يَنصُركُمْ ويُثَبِتْ أقدامَكُمْ) محمد 7.
وتحقيقُ مراد الله ونصره لا يكون، ولا يتنزل النصر إلا بتكوين المجتمع المسلم، الخاضع كلياً لأوامر الله، وقانونه، ودستوره في العقيدة، والسلوك، والشعائر التعبدية، وإقامة الشريعة الربانية، التي تحكم كل شؤون الحياة صغيرها وكبيرها، جُلها ودقِها.
لا يمكن بأي شكل من الأشكال، أن ينصر الله مجتمعاً جاهلياً يتحاكم إلى شرع العبيد، ويتخذ العبيدُ بعضهم أرباباً من دون الله، ويُشركون مع الله آلهة أخرى.
والله تعالى يُسائل عبيده باستنكار واستغراب واستهجان (أفَحُكمَ الجاهِلِيةِ يَبغُون؟! ومنْ أحْسَنُ منَ اللهِ حُكماً لقوم يُوقنونَ) المائدة 50. (أليس اللهُ بأحكمِ الحاكمينَ) التين 8.
يجب أولاً الخلوصُ الكاملُ لطاعة الله، والاستسلامُ الكاملُ لأوامره جميعها، والتحاكمُ إلى شرع الله. وهذه هي وظيفة العلماء الربانيين الصالحين الصادقين، أن يدعوا الناس إلى ذلك.
وبعد تكوين هذا المجتمع المسلم، حينئذ يتم تشكيل الحكومة المسلمة، ويمكن تنصيب أي واحد من العلماء، مفتياً أو مشرفاً أو مراقباً على تطبيق أحكام الله كاملة.
أما قبل ذلك.. فهو عبث! ومضيعة للعمر وللأجر معاً، وسلوك طريق معاكس لمنهج الله، لا طائل فيه.
فلا قيمة، ولا جدوى للمفتي، والمجتمع المسلم غائب عن الوجود والشهود، فأحكام الفقه الإسلامي لا يمكن تطبيقها على مجتمع جاهلي، وإلا يصبح خادماً له، ومطية لتبديل أحكامه بما يتوافق معه.
وهذا يشبه الذين ينشغلون في إعداد دستور للدولة، والدولة الحرة المستقلة غير موجودة، أو كالذي يشتري الأثاث قبل أن يشتري البيت.
[email protected]
أضف تعليق