قبل عقد ونصف تقريبًا كنت معنيًا بالرد على شبهات النصارى، وكانت بعض الشبهات عن التكرار في القرآن الكريم: ما فائدته؟، وفتشت طويلًا فيما درسته من قبل في التفسير وأصوله، ثم تجولت لشهورٍ أبحث في كتب التفسير ودروس المختصين في التفسير وعلوم القرآن عن إجابة شافية، ولم أجد. يقولون: لا تكرار، يقولون: السياق يغير المعنى فكل لفظة في سياقها تدل على غير معنى الأخرى التي تشبهها. وكلامهم يدفع التكرار في بعض المواقع دون بعضها. وسياقهم الذي يتحركون فيه سياقٌ دفاعي.. كأننا أمام تهمة وندافع عنها، ويقني أن كثرة التكرار في القرآن الكريم تدل على فائدة كبرى علينا أن نبحث عنها ونبرزها وليس شيئًا سلبيًا يحتاج أن نستره وندفع عنه. ثم جاءت الدراسة الأكاديمية لتضيف على القضية أحمالًا أخرى: لماذا التكرار، ولماذا الاسترسال؟، ولماذا لا توضع قضايا القرآن منفصلة عن بعضها ومحررة بشكل دقيق وصارم كما يُفعل في الكتابة الأكاديمية؟!، حتى تجرأ بعض من ترجم القرآن من أوائل المستشرقين وقال: يحتاج إلى تحرير!

حال الرد على شبهات النصارى لم أجد إجابة شافية وقتها، وما شئت أن أنقل قولًا أراه منقوصًا لمن يقرأ، وكنت أجيب بأن التكرار في القرآن لا ينفي وصف الألوهية عنه، وغاية ما يقال من المشككين والمحادين يدفع للبحث عن العلة وراء التكرار لا أن يتخذ دليلًا على التشكيك في صحة نسبة القرآن لله عز وجل، وأن التكرار في الكتاب (المقدس) بعهديه القديم والجديد أمارة على أن يدَ بشرٍ عبثت به، وذلك لأنها أسفار كاملة تتكرر وتنسب مرةً إلى هذا ومرة إلى ذاك مع اختلاف الزمان والمكان! تحركت في دروب وعرة أكرهها وأكره من فيها، أحاول فهم حال الذين سادوا علينا وأخذونا بعيدًا عن ثوابتنا.. غربونا حتى صارت المفاخر فينا بالتحدث بلغتهم والتشبه بحالهم؛ وفي تلك الدروب التقيت الدكتور على الوردي يتحدث عن (مهزلة العقل البشري) والتقيت الدكتور عبد الوهاب المسيري يتحدث عن رحلته الفكرية من البذور إلى الثمر، والتقيت قومًا يتحدثون عن (علم صناعة العادات). ومن هنا حلت في ذهني قضية التكرار.


يعتقد علي الوردي أن الإنسان يجبر على أفعاله، والجبر عنده من البيئة وليس من الله، يقول: كل ما يظهر على الإنسان من خير أو شر من أثر البيئة، ورفضَ-هو- تسلم جائزة الدولة (العراقية) بدعوى أن ليس له فضل فيما حصل عليه من شهادات، يقول: إنما الفضل للبيئة وللظروف التي أعطته ولم تعط غيره، ولا أدري: ألم يكن معه عشرات، بل مئات، في نفس الظروف وفشلوا،أو لم يكونوا مثله؟!، أم كان وحيدًا طيلة حياته؟! صاحب علي الوردي بنَ خلدون طويلًا، في بحث الدكتوراة وبعد الدكتوراة لسنوات عدة (استكتب عنه فكتب عن منطق ابن خلدون)، وتأثر بالفكرة الرئيسية عند ابن خلدون، وهي أن الإنسان ابن بيئته، وأن البيئة هي الفاعل والمؤثر الأقوى أو الوحيد (ناقشت هذه الفكرة في مقال بعنوان: خطيئة ابن خلدون)، طور علي الوردي هذه الفكرة وظن أن لا عقل لكل إنسان، وأن الإنسان آلة تتحرك بمؤثرات البيئة.


ماذا فعل علي الوردي؟ عكف على فكرة نظرية (تأثر الإنسان بالبيئة) وطورها نظريًا، ثم قرأ الواقع من خلالها وشطَّ غلوًا في قراءته. وبعد عقودٍ من الزمن حدث تطور تكنولوجي وانتهى الأمر إلى أن أصبحت التقنية الحديثة -التي تسهل التواصل بين الناس- في يد الجميع، وظهر على أثر ذلك (علم صناعة العادات)! اطلعت على عددٍ من الأطروحات تتحدث عن صناعة العادات، وأن ثمة من يفكر في التحكم في سلوك الناس ويصنع عاداتهم، والوسيلة إلى ذلك هي التكرار: تكرار الطلب، تكرار المعلومة، صناعة النموذج (المثل) (القدوة) وتكرار عرضه. وبفعل التكرار تم صناعة تسعة أعشار الإنسان المعاصر!.. تم التحكم فيما يأكل، ويشرب، ويلبس، ويسمع، ويشاهد، ويتحدث فيه من موضوعات، بل وما يفكر فيه ويكتب فيه. وبسبب امتلاك الناس لوسائل التواصل التكنولوجية الحديثة سَهُلَ صنع العادات حتى أصبح كثير من الأناسي على ما يقول علي الوردي: بلا عقل، أصبح الحديث عن أن للإنسان عقل مهزلة!أصبح الإنسان المعاصر مصنوع بأفلام ومسرحيات وإعلانات وأغاني، ومناهج دراسية، ومتطلبات وظيفة حكومية.. إلخ.

ثم أتيت الدكتور عبد الوهاب المسيري وهو يتحدث عن رحلته في الحياة، وفي التفاصيل تحدث عن إصرار الشركات العابرة للقوميات على التكرار في الإعلانات وفي تصميم المطاعم، ثم بين أن التكرار هدفه تثبيت عادة من العادات، أو صنع عادة جديدة. ووقف ذات مرة يعرض ورقة قدمها لعدد من النخبة المثقفة عن النماذج كأداة تحليل، يقول في شرحه لورقته: كررت كثيرًا في الورقة كي أثبت الفكرة عندكم. خرجت من عند علي الوردي ومن عند الدكتور المسيري وهؤلاء الذين يصنعون العادات بأدوات التكنولوجيا يستهدفون صنع إنسان علماني استهلاكي، وكالعادة وضعت ما فهمت بين يدي ورحت أعيد النظر فيه وأشخبط بقلمي على أوراقي، وخرجت بشيء أتلوها على حضراتكم في ثلاث نقاط محددة:

أولها: أن التكرار في القرآن الكريم وفي الشعائر مقصود لصنع عادات الإنسان، ففي القرآن الكريم عدد محدود من القصص تمثل كل قصة نموذجًا محددًا، ويتم التكرار غير المخل، وتكرار فيه إضافة- باعتبار السياق-، أو فيه تأكيد على معنى محدد، وفيه إظهار لبيانٍ بهيٍ عطرٍ عالٍ منفردٍ آخاذ، وتكون المحصلة أن الذي يقرأ كتاب الله مرة كل أسبوع (وهو حال عامة الصحابة) يمر عشرات المرات على عدد محدود من المفاهيم والقيم المركزية والقصص الهادفة التي تثبت هذه المفاهيم، والنماذج المثالية (وهم الأنبياء وتابعيهم من ناحية والشياطن ومن تبعه من ناحية أخرى) التي تمثل هذه القيم في أوضح صورها؛ ومن ثم يحدث تنميط للشخصية. ولذات الهدف تم توزيع الصلاة على اليوم والليل، خمس صلوات في وقت النشاط وصلاة الوتر قبل النوم، وصلاة الليل للمجتهدين الراغبين في الرقي، والذكر يثبت قبل طلوع الشمس وقبل غروبها. بمعنى يستخدم التكرار في الآيات والقصص والشعائر من أجل تنميط الإنسان.. من أجل صناعة إنسان بمواصفات ربانية (تراهم ركعًا سجدًا).

وبمزيدٍ من التفكير نجد أن الذين يطالبون بالتدبر ويهملون القراءة يتنطعون، وخاصة حين يطالبون من لا حظ له من التفسير والفقه والدارية بالسيرة النبوية أن يتدبر، فالتدبر الذي يقصدونه لا يصل إليه إلا من عبر بحر المعنى بعلمٍ بالتفسير وقلبٍ حاضر وحالةٍ من الرقي الإيماني. وهو حال خاصة الخاصة. وإلا فهي ظنون وتخمينات. وجل الذين يتحدثون عن التدبر ينقلون نكت أهل التفسير وقدامى المتدبرين، وكثير منهم هارب من المجال السياسي ويقضي وقتًا في ظلال القرآن بعيدًا عن حر السياسة.. بدل أن يتعلم ويتدرب، وهي حالة من الغش والتحرك للسهل وليس لما ينبغي. يكفي فقط التلاوة والفهم لما يتبادر من النص (المعنى الأول من التفسير الذي ذكره ابن عباس)، يكفي ما يحمله النص على جبينه وراحتيه ويراه كل عابر عليه، لا داعي أبدًا أن نستحث العامة للبحث عما يخفيه النص لخاصة القراء، ومن يتدبر يجد أن الله-سبحانه وتعالى ذكره- جعل التزكية على التلاوة "يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ"، ويكون التدبر المطلوب في قوله تعالى: "كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ"، هو فهم المعنى المتبادر من النص وليس القراءة بلا أدنى تفكر.. هذه التي قال عنها ابن مسعود نثر الدقل، وهد الشعر.

ثانيها: أن كثيرين تصنع عاداتهم وتقاليدهم وتحدد لهم الأهداف، سواءً في الثياب، أو الطعام والشراب، أو مواضيع المناقشة على المواقع، أو في مواضيع الكتابة والمشاركة الفكرية.. كل هؤلاء عامة يتحركون حيث يراد لهم.. مجبرين على ما يفعلون، وإن انتفخوا، وإن ظهر أنهم متبوعين. ففي المشهد من يصنع الحدث فالبيئة تصنع.. والهوية تصنع. وكان على الدكتور علي الوري أن يسأل عمن يصنع عادات الناس وتقاليدهم. لا أن يعمم باعتبار الكثرة العددية. كان عليه أن يفهم أن قلة تتحكم في الأكثرية وتستتبعهم، أو تستعبدهم. كان عليه أن يفهم أن الناس فريقان: ملأ وأتباع.. في الخير والشر. ملأ يخطون وأتباع يسيرون. وكل يختار حسب ما أشرب في قلبه، والحياة دائمًا حق وباطل يتدافعان، والعامة ليسوا سكارى في الغالب، وإنما يدعون السكر ليحملوا غيرهم اثم ما تشتيه أنفسنا، وكل مأخوذ بعمله.

ثالثها: أن القوة قوة أدوات، وأن الأدوات الحديثة (التكنولوجيا) تعمل مع صاحبها. وهادفة لا تتحرك بعشوائية، وأن كثيرًا من الذين يظنون أنهم يفيدون من التقنة الحديثة لخدمة دينهم يتحركون حيث يراد لهم.. يخدمون عدوهم.

المصدر: الجزيرة 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]