نسمع الكثير من الأخبار حول العالم، عن قيام بعض المؤسسات الكبيرة بتخصيص مليارات الدولارات كتبرعات لجهات عدة، والذي تأتي في إطار ما يسمى "العمل الخيري"، ما يطرح في أذهان كثير من الناس سؤالاً: ما الذي يدفع هؤلاء الأشخاص بالتخلي عن هذه المبالغ الهائلة، وما الذي يعود بالنفع عليهم؟
مثال ذلك، مؤسس موقع فيسبوك مارك زوكربيرغ وزوجته، كلنا سمعنا عن إعلانه وزوجته بريشيلا تشان، خططهما للتبرع بمعظم ثروتهما التي تقدر بـ45 مليار دولار للأعمال الخيرية، وذلك بمناسبة قدوم طفلتهما التي أطلقا عليها اسم "ماكس" إلى العالم.في غضون سنوات، كسرت مجموعة جديدة من الأميركيين الأكثر ثراء هيمنة عمالقة العمل الخيري. مثل سوروس، غيتس، بلومبرغ، ميرسر، كوخ زوكربيرغ، هؤلاء المتبرعون الجدد تفوقوا على المعايير الراسخة في عالم العمل الخيري الكبير.
لقد راكموا ثروات هائلة في وقت مبكر من حياتهم. إنهم ينفقونها سريعاً ويكتبون شيكات بمبالغ كبيرة. وهم على استعداد متزايد للتعامل مع القضايا الاجتماعية والسياسية الساخنة -يميناً ويساراً- والتي تدفعهم إلى مركز المناقشات المثيرة للجدل.
لا يزال الكثير من المليارديرات يشترون الفرق الرياضية ويبنون اليخوت ويتبرعون للمتاحف والمستشفيات. ولكن العديد من المتبرعين الجدد يبدون أقل اهتماماً بتسمية كلية إدارة الأعمال بأسمائهم مقارنة بتغيير العالم.
قد يدفعنا ذلك للتساؤل عن طريقة تفكير هؤلاء الأشخاص، وهنا تنقل صحيفة نيويورك تايمزالأميركية عن ديفيد كالاهان، مؤسس موقع إنديان فيلا نثروبي، ومؤلف كتاب "الواهبون"، وهو كتاب عن المتبرعين الأساسيين اليوم قوله: "لديهم عقلية حل المشكلات بدلاً من عقلية الإشراف". وأضاف: "إنهم لا يخبئون أموالهم للأيام السوداء. بل يريدون أن يكون لها تأثير الآن".
أعلن جورج سوروس، ملياردير صندوق التحوط والمتبرع الديمقراطي، مؤخراً نقل ما يقارب 18 مليار دولار لمؤسسته الخيرية المسماة المجتمع المفتوح، وهو جهد مترامي الأطراف لتعزيز الديمقراطية ومكافحة التعصب في جميع أنحاء العالم.
الهدية، التي منحت لمؤسسات المجتمع المفتوح إلى الأبد، جعلتها ثاني أكبر مؤسسة من ناحية المدخرات في البلاد. والعمل الخيري الوحيد الذي يحظى بمزيد من الموارد هو مؤسسة بيل وميليندا غيتس.
"نحن نرى تغييراً حقيقياً"، قال السيد كالاهان. "المؤسسات الأفضل وخاصة تلك التي تقاس بعطائها السنوي، تتم إدارتها من قبل أشخاص ما زالوا على قيد الحياة".
بعد أن حصدوا مليارات وشكَّلوا العالم بشركاتهم، يضع المسؤولون الجدد أهدافاً نبيلة وهم مستعدون للتبرع بثرواتهم. مبادرة تشان زوكربيرغ، التي أنشأها مؤسس فيسبوك مارك زوكربيرغ وزوجته بريسيلا تشان لا تتطلع إلى تحسين الصحة في العالم النامي فقط، بل تهدف إلى المساعدة على "علاج أو منع أو إدارة جميع الأمراض بحلول نهاية القرن".
وتنقل الصحيفة الأميركية عن إيلين هيسمان، المديرة التنفيذية للصندوق الاستئماني الوطني للأعمال الخيرية، وهي مؤسسة غير ربحية تعمل مع المؤسسات قولها: "هذه ليست الحكومة التي تجمع الضرائب وتقرر المشكلات الاجتماعية التي تريد حلها من خلال عملية ديمقراطية". "هذه مجموعة صغيرة من الناس، الذين شكلوا الطريق بالمال الذين لا يحتاجون إليه، وحدَّدوا القضايا التي يهتمون بها. وهذا يؤثر علينا جميعاً.
نماذج أخرى
فيما يتعلق بكيفية توزيع ملياراته، فلا شك أن زوكربيرغ يستمد إلهامه من صديقه ومعلمه مؤسس مايكروسوفت بيل غيتس. منذ تأسيسها في العام 2000 أثبتت مؤسسة غيتس أنها مؤسسة لا مثيل لها في عالم الأعمال الخيرية. لا تمتلك المؤسسة فقط أكبر صندوق هبات بمبلغ يقدر بـ40 مليار دولار، بل إن إنفاقها يزيد عاماً بعد آخر، حيث بلغ 5.5 مليار دولار في 2016 وحدها.
جهود الزوجين غيتس مترامية الأطراف، تمتد في جميع أنحاء العالم، وتعبر كل الحقول. وتسلِّط المؤسسة جهودها للحد من تعاطي التبغ، ومكافحته. وتحسين التعليم في ولاية واشنطن. وقد أنفقت المليارات للحد من انتشار الأمراض المعدية والملاريا. وقد ساعدت جهود المؤسسة بالتعاون من المنظمات الصحية العالمية على القضاء على شلل الأطفال.
تختلف مؤسسة سوروس بشكل مهم. بدلاً من محاولة حل مشكلات منفصلة مثل المرض، تهدف مؤسسة المجتمع المفتوح إلى تعزيز قيم مثل الديمقراطية والتسامح والإدماج، سوروس، الناجي من الهولوكوست، عزيز. عملياً هذا يعني أن تمويل البحوث الطبية في مراحل مبكرة احتمال ضعيف، ومن المرجح أن يساعد اللاجئين النازحين بسبب النزاعات.
ولكن في حين أن القضايا التي يعالجونها متميزة، فإن الخطوط العريضة لجهود هؤلاء المليارديرات لها الكثير من القواسم المشتركة: تشكيل العالم في صورة أخلاقية.
تسييس الأعمال الخيرية
عندما أُعلنت بعض الأنباء عن تحويل سوروس ثروة قدرها 18 مليار دولار إلى مؤسسات المجتمع المدني، كان رد فعل المحافظين سريعاً ومتوقعاً. ووصفته "فوكس نيوز" بأنه "ملياردير ليبرالي متشدد". وقال بريتبارت نيوز، إن تلك المنحة "تجعل منظمته أكبر لاعب على الساحة السياسية الأميركية"، مضيفاً أن "عمل المؤسسة دعم المجموعات اليسارية المتطرفة والعدوانية التي تعطل الديمقراطية الليبرالية وتخنق أصوات المعارضة".
أصبح سوروس محور نقد المحافظين بسبب مساهماته السياسية بصورة أساسية، ناهيك عن جوانب إنفاق مؤسسته. كما أنه كان المانح والممول الرئيسي لحملة هيلاري كلينتون، وأنفق ملايين الدولارات لتستطيع هيلاري هزيمة دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة في العام الماضي، وهو الأمر الذي لم يتحقق في نهاية المطاف.
ومع ذلك فقد جنى سوروس الكثير من النقد من بعض الدوائر المعينة لعمله وإنفاقه الخيري. ومنذ التسعينيات، استخدم سوروس مؤسسات المجتمع المفتوح من أجل النهوض بقضايا لا تحظى بشعبية كبيرة لدى الكثير من الجمهوريين، بما في ذلك تخفيف قوانين المخدرات، وتعزيز حقوق المثليين، ولفت الانتباه إلى الانتهاكات التي ترتكبها الشرطة.
هذا، وقد طال النقد أيضاً مايكل بلومبرغ، عمدة نيويورك السابق. إذ كان الغرض من تأسيسه، مؤسسة بلومبرغ الخيرية، هو "ضمان حياة أفضل، أطول لأكبر عدد من الناس". في الواقع، وهو ما دفع بلومبرغ لإنفاق مئات الملايين من الدولارات على قضايا تشمل السيطرة والحد من انتشار الأسلحة والوقاية من السمنة، ما شكَّل جبهة معارضة غاضبة من الجمهوريين الذين يعتبرون أنشطة المؤسسة ضرباً من التنظيم المفرط.
حتى مؤسسة غيتس، التي كرَّست أعمالها لتحسين نوعية الحياة للأفراد في جميع أنحاء العالم، تجد نفسها في بعض الأحيان مدفوعة إلى نوع من الحروب والمعارك الثقافية. وقالت منظمة العدالة العالمية Global Justice Now، وهى منظمة حقوقية يقع مقرها في لندن، في تقرير لها، إن مؤسسة غيتس "ليست مؤسسة استراتيجية وخيرية محايدة بالطريقة التي يجب على العالم أن يكون شاكراً لها"، وإنما "لها استراتيجية أيديولوجية محددة، تعزز السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة النيوليبرالية". (النيوليبرالية هي فكر أيديولوجي مبني على الليبرالية الاقتصادية التي هي المكوّن الاقتصادي لليبرالية الكلاسيكية، والذي يمثل تأييد الرأسمالية المطلقة وعدم تدخل الدولة في الاقتصاد. وللفظ "النيوليبرالية" مدلول قديم انقرض استعماله حالياً، وهو الذي أطلقه الاقتصادي الألماني ألكسندر روستوف على الليبرالية الاشتراكية، وهو أول من اقترح الشكل الألماني لهذا التوجه الاقتصادي).
يقول السيد كالاهان: "لقد أصبح الأثرياء أكثر استقطاباً، كذلك بقية الأميركيين"، ويضيف: "لدينا العديد من الأثرياء الليبراليين، أكثر من أي وقت مضى. ولكن في الوقت نفسه، لدينا الكثير من الأغنياء المحافظين. والآن هناك سباق متزايد بين هؤلاء المانحين الكبار".
نفاد صبر بعض المتفائلين
في معظم الأحيان، الأجيال السابقة من المليارديرات قرَّرت فقط التخلي عن ثرواتها في وقت متأخر من حياتها، وهو الأمر الذي تغير الآن. وقال بنيامين سوسكيس، الذي يدرس تاريخ العمل الخيري في المعهد الحضري Urban Institute، وهو مركز أبحاث في واشنطن "ما نراه في هذه الأيام هو أن الكثير من الأشخاص قد حققوا الكثير من الأموال مع إطلاق سوق الأوراق المالية، مما دفع بهم إلى الاتجاه للأعمال الخيرية، حتى أصبحت جزءاً من هواياتهم، وهم لا يزالون في أواخر العشرينيات".
الوقت قليل جداً، وثمّة الكثير من المال الذي ينبغي التصرف فيه، وهذه هي معضلة الخيّرين العمالقة. يقول زوكربيرغ والسيدة تشان إنّهما ملتزمان بالتخلّي عن ثروتهما في حياتهما، وهذا هو سبب بدئهما في سنٍ مبكرة. في منشورٍ له على فيسبوك، يقول زوكربيرغ "العطاء مثل أيّ شيء آخر، لكي تحصل على نتيجة، عليك بذل الوقت في الممارسة، لذلك إذا أردت أن تصبح معطاءً بعد 10 أو 15 عاماً، عليك أن تبدأ من الآن".
يقول زوكربيرغ، إنّه حين يبدأ في وقتٍ مبكّر، ستتضاعف أمواله أكثر. "كلّ خيرٍ نقوم به، نأمل أنّه سيتضاعف مع مرور الوقت. إذا كنّا نستطيع مساعدة الأطفال على تلقّي تعليمٍ أفضل الآن، فسيكبرون ويقومون هم كذلك بمساعدة الآخرين، في الوقت الذي كنا سننتظر فيه الوقت المناسب للبدء".
أطلق غيتس والمستثمر الملياردير وارن بافيت (حملة التعهّد بالعطاء)، التي تطلب من الأثرياء الالتزام بالتبرّع بما لا يقلّ عن نصف أموالهم لأغراض خيريّة، خلال حياتهم أو عند وفاتهم. إنّهم يريدون من زملائهم الأثرياء، أن يعملوا بشكلٍ عاجل، ويصفون أنفسهم على الموقع الإلكتروني الخاصّ بهم بـ(المتفائلين نافدي الصبر).
في يونيو/حزيران، حلَّ جيف بيزوس، مؤسّس Amazon.com، بقيمة 84 مليار دولار أو نحو ذلك، محلَّ بيل غيتس لفترةٍ وجيزة، كأغنى شخصٍ في العالم، لهذا العام، وطلب من جمهوره الحصول على بعض النصائح. كتب بيزوس على موقع تويتر "أفكر في فعل الكثير من النشاطات الخيرية لمساعدة الناس في الوقت الراهن وعلى المدى القصير، محققاً بذلك كلاً من التأثير الدائم وتلبية الحاجات الملحة. شاركوني بأفكاركم بالردّ على هذه التغريدة".
حصل بيزوس على 48000 رد. ولم يعلن عمّا سيفعله بثرواته الضخمة، إلّا أنّ طلب الحصول على المقترحات، يذكّر بأنّه يملك ثرواتٍ لا تعدّ ولا تحصى، وغير مرتبطةٍ بأفعالٍ خيرية.
وقّع ما يقرب من 200 شخص، بقيمة تقارب 1 تريليون دولار على (حملة التعهّد بالعطاء). وقد بدأ الأثرياء الجدد في زيادة عطائهم. لورين باول جوبز، أرملة المؤسس المشارك في شركة آبل ستيف جوبز، أسّست مؤخراً منظمة إيمرسون، والتي توظّف المال في قضايا مثل التعليم والهجرة.
ومع ازدياد عدد الأشخاص الذين يوظّفون ثرواتهم في العمل الخيري، سيكون هناك العديد من المنظمات مثل مؤسسات المجتمع المفتوح، وقد يبقون معنا لفترةٍ طويلة. قال كالاهان: "لا تستطيع الشمس أبداً تحديد إمبراطورية جورج سوروس الخيرية، ولن ينفد المال أبداً". وأضاف "أنّ أمواله تستطيع أن تؤثر على السياسة العامة منذ الآن وحتى 300 عامٍ مقبلة".
وتختم نيويورك تايمز الأميركية تقريرها بالقول: "إنّه بزوغ عصر جديد من الأعمال الخيرية الضخمة. مع السرعة الكبيرة في تكوين الثروات وتركيزها، تنشأ مؤسسات ضخمة جديدة، كل منها تعكس أولويات مؤسسيها. والكثير مثل سوروس وغيتس وزوكربيرغ، والآخرين من نفس الجيل، قد تغلبوا على جبابرة العصر المذهب، فمن المرجح أن يتغلب عليهم في يوم ما مَن هم أكثر ثراءً منهم".
[email protected]
أضف تعليق
التعليقات
في حاجة ماسة إلى المال لأن ظرفي اقدر على العيش انا والقريه التي نعيش فيها كان الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه المسلم