لقد بعث الله عزّ وجلّ الرّسول عليه أفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم هادياً للنّاس أجمعين، وقدوةً لهم، فهو أفضل البشر والأنبياء، ففضّل الله عزّ وجلّ الرّسول - صلّى الله عليه وسلّم - واختصّه برحلة الإسراء والمعراج، إذ أنّه عليه الصلاة والسلام كان قد مرّ قبل رحلة الإسراء والمعراج بالعديد من المحن، فماتت زوجته خديجة رضي الله عنها، وعمّه أبو طالب، واشتدّت عليه المحن، فكانت هذه الرّحلة عوناً وتثبيتاً من الله عزّ وجلّ لنبيّه محمّد عليه الصّلاة والسّلام، واختباراً جديداً للمسلمين لتثبيت إيمانهم بدعوة النّبي محمّد عليه أفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم.
ففي ليلة السّابع والعشرين من رجب، جاء جبريل عليه السّلام إلى رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - بينما هو نائم في مضجعه، ومعه البراق، وهي دابّة عجيبة، فركبه الرّسول - صلّى الله عليه وسلّم - وانطلق هو وجبريل عليهما السّلام إلى القدس، فالتقى هنالك رسول الله بالأنبياء عليهم السّلام في المسجد الأقصى، فدخل هو وجبريل عليه السّلام إلى المسجد الأقصى، وصلّى بالأنبياء إماماً بهم، وبعد أن انتهى صعد عليه الصّلاة والسّلام على متن البراق ومعه جبريل إلى السّماء، ورأى عجائب قدرة الله عز وجل في الفضاء، وقام جبريل عليه السّلام بأخذ الإذن عند كلّ سماء، وذلك وسط ترحاب شديد من الملائكة لقدوم محمّد إمام الخلق أجمعين.
ماذا رأى الرسول في رحلة المعراج
لقد تعدّدت الرّوايات حول الإسراء والمعراج في السّيرة والأحاديث النّبوية الصّحيحة، ولا يوجد حديث واحد يجمع ما ورد من أحداث خلال هذه الرّحلة المباركة، وإنّما هناك مجموعة من الأحاديث، والتي يشير كلّ منها إلى جانب أو جزء من تلك الرّحلة المباركة، وقد أورد السيوطي: (أنّ الإسراء ورد مطوَّلاً ومختصرًا من حديث أنس وأُبَيِّ بن كعب وبُرَيْدَة، وجابر بن عبد الله وحذيفة بن اليمان وسَمُرة بن جُنْدُب، وسهل بن سعد وشدَّاد بن أوس وصُهَيب، وابن عباس وابن عمر وابن عمرو، وابن مسعود وعبد الله بن أسعد بن زرارة وعبد الرحمن بن قُرْط، وعلي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب ومالك بن صعصعة، وأبي أُمَامَة وأبي أيُّوب وأبي حبَّة، وأبي الحمراء وأبي ذَرٍّ وأبي سعيد الخدري، وأبي سفيان بن حرب وأبي ليلى الأنصاري وأبي هريرة، وعائشة وأسماء بنتي أبي بكر، وأم هانئ وأم سلمة .. وعدَّ الإمام القسطلاني في المواهب اللدنِّيَّة ستَّة وعشرين صحابيًّا وصحابيَّة رَوَوْا حديث الإسراء والمعراج، لذا فهو حديث متواتر مع نصِّ القرآن عليه في سورتي الإسراء والنّجم).
وقد رأى النّبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ خلال رحلته المباركة نهر الكوثر، وهو النّهر الذي اختصّه الله لنبيّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وذلك تكريماً له، فعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أنّ النّبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ قال: (بينما أنا أسير في الجنّة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدرّ المجوّف، قلت ما هذا يا جبريل، قال هذا الكوثر الذي أعطاك ربّك، فإذا طينه أو طيبه مسك أذفر) رواه البخاري .
وقد رأى النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - الجنّة وما فيها من النّعيم، وفي المقابل رأى أيضاً بعض أحوال النّاس الذين يعذّبون في نار جهنّم، ومنهم من يقعون في الغيبة، والذين يخوضون في أعراض المسلمين، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (لما عُرِجَ بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟، قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم النّاس ويقعون في أعراضهم) رواه أبو داود .
وقد رأى كذلك - صلّى الله عليه وسلّم - أقوامًا وقد تقطَّعت ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من نار (1)، فقال له جبريل عليه السّلام: (هؤلاء خطباء أمّتك من أهل الدّنيا، كانوا يأمرون النّاس بالبرّ وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب، أفلا يعقلون؟) رواه أحمد وصحّحه الألباني .
الإسراء والمعراج
إنّ الإسراء يعني إذهاب الله لنبيّه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من المسجد الحرام بمكّة إلى المسجد الأقصى بإيلياء ـ مدينة القدس ـ في جزء من الليل، ثمّ رجوعه في نفس اللية إلى فراشه، وأمّا المعراج فهو إصعاده ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ من بيت المقدس إلى السّموات السّبع، وما فوق السّبع، حيث فرضت حينها الصّلوات الخمس، ثمّ عودته إلى بيت المقدس في جزء من الليل.
وقد ثبت الإسراء بالقرآن الكريم، والأحاديث الصّحيحة المتكاثرة، فأمّا ما جاء في القرآن ففي قوله سبحانه وتعالى: (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) سورة الإسراء،1 ، وأمّا المعراج فهو ثابت بالأحاديث الصّحيحة التي رواها الثّقات العدول، وأمّا بعض العلماء فإنّهم يرون أنّ المعراج لم يثبت في القرآن الكريم على وجه الصّراحة، ولكنّه قد أشير إليه في سورة النّجم في قوله سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى * عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى * ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى * لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) سورة النجم، 13-18 .
قال ابن كثير: وقد رأى النّبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ جبريل عليه السّلام، على هيئته التي خلقه الله سبحانه وتعالى عليها مرّتين، حيث كانت الأولى عقب فترة الوحي، عندما كان النّبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ نازلاً من غار حراء، فرآه حينها على صورته، فاقترب منه، وأوحى إليه عن الله عزّ وجلّ ما أوحى، وإليه أشار الله بقوله: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى * ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى * فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى * فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) سورة النجم، 5-10 ، والثّانية في ليلة الإسراء والمعراج عند سدرة المنتهى، وهي ما أشير إليه في سورة النّجم بقوله سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى) سورة النجم، 13-148 .
وإنّ جمهور العلماء يرون أنّ الإسراء والمعراج كانا في ليلة واحدة، وأنّهما كانا في حالة اليقظة بجسده وروحه ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وهذا ما يدلّ عليه قول الله سبحانه وتعالى في بداية سورة الإسراء: (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ)، أي بروحه وجسده.
قال الطبري: ولا معنى لقول من قال: أُسْرِيَ بروحه دون جسده، لأنّ ذلك لو كان كذلك لم يكن في ذلك ما يوجب أن يكون دليلاً على نبوته، ولا حجةً له على رسالته، ولا كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشّرك كانوا يدفعون به عن صدقه فيه، إذ لم يكن منكراً عندهم ولا عند أحد من ذوي الفطرة الصحيحة من بني آدم أن يرى الرائي منهم في المنام ما على مسيرة سنة، فكيف ما هو مسيرة شهر أو أقل. وقال ابن حجر: إنّ الإسراء والمعراج وقعا في ليلة واحدة في اليقظة بجسده وروحه، وإلى هذا ذهب جمهور من علماء الحديث والفقهاء والمتكلمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول عن ذلك، إذ ليس في العقل ما يحيله، حتى يحتاج إلى تأويل.
الحكمة من الإسراء والمعراج
لقد كانت رحلة الإسراء والمعراج إيناساً وتعويضاً للنّبي - صلّى الله عليه وسلّم - وذلك بعد أن نالت قريش منه ما لم تكن تطمع به بعد عام الحزن، وعام الحزن هو العام الذي توفّيت فيه زوجة النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - الوفيّة خديجة بنت خويلد، وكذلك عمّه أبو طالب الذي كان يدافع عنه ويحميه.
ثمّ جاء بعدها موقف أهل الطائف من النّبي صلّى الله عليه وسلّم، والتي لقي فيها ما لقي من الأذى، جاءت هذه الرّحلة المباركة كي تعوّضه عمّا فعله به أهل الأرض، والذين أغلقوا الأبواب أمام دعوته، وذلك لكي تقول لهم: إنّ الآفاق مفتوحة أمام الدّعوة، وأنّ الله سبحانه وتعالى سوف ينصر نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، فإنّ من حكم الإسراء والمعراج أنّ النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - عندما توفّي الشّخصان الأقرب إليه، ومناصراه، عمّه أبو طالب وزوجه خديجة، وحزن قلبه لفقدهما، وقد سمّي ذلك العام بعام الحزن، سلاه الله تعالى بالإسراء، فكلمه كفاحاً، وأراه إخوانه من الأنبياء والذين عانوا قبله في دعوة النّاس ما عانوا.
وقد أراه الجنّة والنّار أيضاً، فظهر له عياناً جزاء الله لمن أطاع وآمن، وعقوبته لمن عصى وكفر، وأكرمه بالصّلاة التي هي عون للعبد على تحقيق جميع الطموحات.
[email protected]
أضف تعليق