نشر هذا المقال في جريدة السفير اللبنانية اليوم السبت 2015-06-13.
حين بدأ الشاعر الفلسطيني مروان مخول (مواليد العام 1979، في بلدة «البقيعة» أعالي الجليل الفلسطيني) الكتابة وهو في عمر صغير نسبياً، لم يكن يعرف أن ما يخطّه، يمكن له أن يندرج في خانة كتابية معينة، على الرغم من أن أساتذته في المدرسة كانوا يطلقون عليه لقب «شاعر»، بينما كان أهله وأقرباؤه وحتى بعض أصدقائه لا يتوقفون عن «السخرية» منه وعلى إضاعته الوقت في أشياء لن تنفعه.
مثله مثل غالبية المراهقين، الذين هم في عمره، وجد يومها في نزار قباني وكلماته معيناً لحالات كان يرغب في قولها، من دون التفكير كثيراً بمعنى ما كان يخطه. لم يكن قد قرأ غيره في تلك الحقبة، فاطلاعه على الشعر، بقديمه وجديده، جاء في وقت لاحق حين بدأ يعرف شهرة ما ضمن محيطه، وحين بدأت قصيدته تتكوّن جدياً وتأخذ لها موقعاً، على الأقل عند المستمعين الذين صاروا يزدادون كلما كانت له أمسية معينة. يومها تفرّغ للقراءة الشعرية وإن كان يجد أنه مشدود اليوم أكثر إلى قراءة الشعراء المترجمين إلى العربية، فهذه الترجمات فتحت له أبواباً وآفاقاً على قصيدة لم يكن يعرفها في البداية.
لا تشذّ حالة مروان مخول عن حالة الشعر الذي يبدأ بخفر في اللحظات الأولى قبل أن يسجل حضوراً لافتاً. هي طريق ربما سلكها كل الذين يكتبون، والذين ينحازون في النهاية إلى هذا المشروع الذين يصرفون عليه حيوات بأسرها. ربما يمكن القول إن حياة مروان مخول اليوم تقع في الشعر، ربما اختار حياة الشعر على الرغم من دراسته للهندسة المدنية، إلا أنه في النهاية يقدّم وجهاً على وجه آخر: وجه الشاعر الفلسطيني الذي ينخرط عميقاً في القول الذي لا يريد أن ينسى هذا الشرط التاريخي الذي وجد نفسه أسيراً داخله.
مصائر مشتركة
هذا الشرط يتلخص في أنه ولد في الجليل الأعلى. تبعد قريته عن الجنوب اللبناني مسافة «خمس دقائق». قبل النكبة العام 1948 لم تكن هناك أي حدود بين البلدين. يومها جاءت أخت جدّه إلى لبنان لتتزوّج لبنانياً من رميش ولتبقى هنا، حيث أسست عائلة لا يزال الكثير من أفرادها يعيشون فيها. هي قصص القرابة والحياة المشتركة بين البلدين. وكأن تاريخاً يعيد نفسه في حياة مروان، إذ بعد الاجتياح الاسرائيلي الأول للبنان العام 1978، ووقوع رميش ضمن منطقة الشريط الحدودي، تقرّر إحدى بنات هذه العائلة التي تكونت هنا، الذهاب إلى الداخل لتزور عائلتها وأخوالها، فيشاهدها رجل فلسطيني ويتزوّجها. هذان الزوجان أصبحا والدَيْ مروان الذي يحمل في داخله كل هذه الحكايات المتشابكة بين البلدين والعائلتين.
من هنا، كان المجيء إلى لبنان وإلى بيروت تحديداً، يمثل له حلماً كبيراً: «زيارة بيروت هي حلم كل فلسطيني في الداخل وهي بالنسبة إلينا مدينة أكثر من مجرد مدينة جميلة جداً والسبب أنها ممنوعة عنّا، إذ كما نعرف من الممنوع علينا أن نزورها ونأتي إلى هنا، وهي جزء من تكويننا وبخاصة لأهل الجليل».
هذا الحلم الذي تحقق الآن يشكّل له «حالة استثنائية» في مسيرته كإنسان وكشاعر. بالنسبة إليه كانت أكثر اللحظات تأثيراً، والتي لا يزال يتذكرها بقوة، «هي اللحظة حين لامست دواليب الطائرة، الآتية من عمان، أرض مطار بيروت. تحقق الحلم بالنسبة إليّ. لو سألت كل طفل أو شيخ من منطقة الجليل ما هو حلمك في الحياة لوجدت أن حلمه الأول أو الثاني في إجابته هو زيارة بيروت».
جزء منّي هنا
صحيح أن المجيء إلى بيروت كان «فكرة مؤجلة على الدوام»، مثلما يقول مروان في حديثه مع «السفير» وذلك «من أجل أن تكون زيارة صحيحة كي أقيم فيها أمسيات مثلما أرغب أنا في إقامتها. لم يكن هناك أي سبب ملحّ كي أزور بيروت من أجله. وبخاصة أن زيارة لبنان ممنوعة ولا أعرف فعلاً ماذا ينتظرني بعد العودة» (جاء بعد أن منحته السلطة جواز سفر). لذلك يرى أن وقوفه اليوم في هذه المدينة التي سبقته قصيدته إليها منذ أكثر من 15 سنة، تشعره بالكثير من الرضا. «الرضا لأنه كان يُقال لي دائماُ في بداياتي مع الكتابة ما نفع الشعر، ما بطعمي خبز». لكن على ما يبدو «أعطاني الشعر أكثر من الخبز، جعلني أزور أهلي وامتدادي الطبيعي الذي هو لبنان. أمي لبنانية وأبي فلسطيني ومن الطبيعي جداً أن أتواصل مع هذا المحيط العربي بشكل عام واللبناني بشكل خاص، إذ من المفروض أن يكون جزءاً مني. لماذا يجب أن أحرم من أهلي وأقاربي ومن هذا الجزء اللبناني الذي بداخلي لأني أعيش في الداخل؟». وعلى السؤال الذي يطرحه على نفسه يجيب: «أعتقد أن هذا الأمر هو فوق كل سياسات العالم، فوق كل شيء. أضف إلى ذلك، أننا نحن كفلسطينيين في الداخل، علينا أن نشكل جزءاً لا يتجزأ من العالم العربي، وعلى الجميع أن يعملوا لإبقائنا جزءاً من هذا العالم العربي لا تهميشنا والتعامل معنا كأننا جزء من الاحتلال الذي ليس لنا علاقة به. لسنا نحن الذين جئنا إلى هذه الدولة، بل هذه الدولة هي التي جاءت واحتلتنا. من هنا لا أشعر دائماً أنني بحاجة إلى الدفاع عن نفسي بقدر ما أشعر بحاجة إلى التعبير عن عتب معين على العالم العربي الذي يقول من دون هذين المليونين، إنهم رقم صغير ضمن الـ 200 مليون. ثمة إجحاف بحقنا. هذه الأرض هي التي خلقت أهم فلسطينيي العالم العربي من إميل حبيبي إلى توفيق زياد وصولاً الى سميح القاسم ومحمود درويش وسالم جبران.. كلّ هؤلاء الناس من الداخل. من غير المفيد أن تتغنى بهؤلاء في العالم العربي ونستثني الناس والبيئة وهذا الجزء الطبيعي الذين ينتمون إليه».
في أي حال يقف مروان مخول على خشبة المسرح في بيروت ليلقي شعره بدءاً من مساء اليوم (*)، وهي الأمسية الأولى ضمن سلسلة أمسيات مشتركة مع الفنانة أميمة الخليل. كانت بداية هذا التعاون منذ أشهر حين كتب قصيدة بعنوان «خطبة الأحد». في تفاصيل كتابة هذه القصيدة يرى الشاعر الفلسطيني أنه ووفقاً لما يجري اليوم في العالم العربي «وما ترتكبه الجماعات التكفيرية من مجازر بحق الأقليات، تدخلت إسرائيل لتلعب دورها في إخافة الأقليات عندها، والإيحاء بأنه تدافع عنها. من ضمن الأفكار التي طرحتها تجنيد المسيحيين في جيش الاحتلال. فكتبتُ نصاً من أجل التعبير عن إحساسي بهذا الأمر بعد أن حاولنا إفشال هذا المشروع بالطرق السياسية والمهرجانات. كانت إسرائيل قد خلقت، بتعاونها مع كاهن عميل لها، لوبي أسمتْه اللوبي المسيحي لمحاولة إقناع الشباب المسيحي بالخدمة، وصرفت من أجل ذلك ملايين الدولارات».
بعد أن قرأ قصيدته هذه أمام أصدقائه قالوا له: «حرام أن لا نستغلّ هذه القصيدة لتكون جزءاً من نضالنا ضد هذا المشروع»، فتحوّلت إلى مغناة، وتم اختيار الفنانة أميمة الخليل «لتكون شريكة معنا، بصوتها، في إطلاق هذا العمل». ويضيف: «وقع اختيارنا على أميمة لأكثر من سبب. من المعلوم أن أميمة صوت فني مهم وهو ذو قيمة إبداعية، والسبب الثاني الدور التاريخي لأميمة ورمزيتها كلبنانية، مع القضية الفلسطينية. أما السبب الثالث والأهم رمزية وجودها كمغنية عربية في هذا العمل للتأكيد على أن هذه الأقلية جزء من هذا الامتداد العربي، ولكي تكون الصرخة عربية لا فلسطينية فقط». من هنا، سجلنا هذا العمل، قبل أشهر، في عمان وأطلقناه في الداخل. في اليوم التالي لبثه، تمّ التحقيق معي في مخفر عكا لساعات طويلة لأن العمل تمّ بثه على الفضائيات العربية كافة وكُتب عنه في الصحف والإعلام الغربي اهتمّ بالموضوع. فالمشروع الذي حاولت إسرائيل، بهدوء وخبث، أن تسوقه للعالم، جئنا وأسدلنا الستار عليه. عرّيناه وحاولنا فضحه لإيقافه لأن له هدفين سياسيين كبيرين: الأول أن يقتحموا الداخل المسيحي والثاني التأثير على الرأي العالمي بالقول إن المسيحيين هم مع اليهود. لكن الأهم هو إرادة اسرائيل تحويل الصراع في الداخل من صراع إسرائيلي - فلسطيني الى صراع يهودي ـ إسلامي، في ظلّ حياد الأقليات وحمايتها. من هنا كانت رغبتها في أن تظهر بأنها تصارع الإسلام السياسي لا العرب ككل ولا الفلسطينيين كأصحاب حق تاريخي».
لكن بعيداً عن هذه المغناة، سيقف مروان مخول كشاعر أولاً وأخيراً، ليقرأ في بيروت للمرة الأولى في حياته، شعره، إذ سيقدّم مختارات من تجاربه كلها، التي تحمل آلامه ورؤاه وأفكاره.. التي يحمل فيها صوت فلسطين الآتية من الداخل.
إسكندر حبش
(]) الأمسية الأولى: اليوم السبت 13 على مسرح بابل ـ الحمراء الثامنة والنصف مساء (حيث تشاركه الفنانة أميمة الخليل ببعض أغنياتها).
الأمسية الثانية، 16 الحالي، دعت إليها سفارة فلسطين في لبنان، على مسرح قصر الأونيسكو، الساعة الثامنة مساء، حيث تقدّم الفنانة أميمة الخليل حفلاً موسيقياً غنائياً، يشارك فيه مخول ببعض قصائده.
الأمسية الثالثة، 19 الحالي، مسرح مونو، التاسعة والنصف مساء، وهو استعادة لمفهوم الحفل الأول.
الأمسية الرابعة والأخيرة، 25 الحالي، في مركز الصفدي في طرابلس، التاسعة والنصف مساء، وهو استعادة لمفهوم الحفلة الثانية.
[email protected]
أضف تعليق