إنّ واقعة الإسراء والمعراج هي من بين المعجزات العظيمة الّتي جرت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وقد اختلف في أيّ شهر حدثت، فلم يتّفقوا على اليوم والشّهر، لكنّهم أجمعوا على أنّها وقعت بعد رحلة الطّائف والّتي كانت في السنة التاسعة هجرية.
ليس الغرض من هذه الواقعة تحديد اليوم والشّهر الّذي جرت فيه، وإنّما ينبغي أن نعرف الحكمة من هذه الواقعة، والأمر الأهم من هذا أن نؤكّد على وقوعها، لأنّه قد كثر اللّغط والخبط والخلط فيها، حتّى سمعنا عن قوم منّا استثقلوا حادثة الإسراء والمعراج فأنكروها جملة وتفصيلا، والبعض الآخر أقرَّ بوقوعها، لكن اعتقدوا بأنّها وقعت منامًا لا يقظة، وآخرون قالوا إنّها كانت بالرّوح فقط لا الجسد، ولهذا كان لا بدّ من بيان عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة في حادثة الإسراء والمعراج.
إنّ واقعة الإسراء والمعراج ذُكرت في القرآن الكريم وفي الأحاديث الصّحاح وفي كتب السِّيرة المعتمدة، وقد قال القرطبي: “ثبتت الإسراء والمعراج في جميع مصنّفات الحديث، ورواها جمع من الصّحابة، فهي من المتواتر بهذا الوجه”، وذكر القاسمي أنّه رواه عشرون صحابيًا، وتناقلها المسلمون جيلاً بعد جيل؛ فمن أنكر الإسراء والمعراج فقد أنكر أصلاً من أصول اعتقاد المسلمين. والّذي عليه عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة أنّ حادثة الإسراء والمعراج وقعت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم روحًا وجسدًا وفي اليقظة كذلك، ولم تحدث منامًا فقط، أو بالرّوح دون الجسد، واستدلّ الجمهور بعدة أدلّة من بينها: أنّ اللّه تعالى جلّ ذكُره أنزل في الإسراء آية صريحة، وفي المعراج آيات تتضمّن تلميحًا قويًّا قريبًا من التّصريح، فلو كان الإسراء والمعراج حدثت منامًا فقط وروحًا لا جسدًا، لما ناسب أن يعتني ربّنا بها، ويذكرها في كتابه أي القرآن الكريم، بالإضافة إلى أنّ اللّه قال في بداية سورة الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، وبالنّظر إلى كلمة “سبحان” الّتي تعني أنّ اللّه مُنَزّه عن النّقائص وأنّه ليس كمثله شيء لا في قوّته ولا في قدرته المطلقة، ناسبت هذه الكلمة أن تكون حادثة الإسراء والمعراج وقعت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقظة وبروحه وجسده.
وثبت في الصّحيح أنّ قريشًا كذّبَت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا شاع خبر إسرائه ومعراجه، فأنكرت قريشلأنّها فهمت أنّ هذه الواقعة حدثت برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم روحًا وجسدًا وفي اليقظة، ولهذا لماذا تنكر قريش إذا كانت هذه الحادثة حدثت منامًا فقط رآه النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم.
ونحن نعلم أنّ الإسراء والمعراج أجراها اللّه عزّ وجلّ لنبيِّه معجزة وتسلية لهمومه وغمومه، لما أصابه في الطّائف، بعد أن طردوه وأدْمَوا قدميه الشّريفتين وكسّروا رباعيته، فإذا كانت هذه الحادثة حدثت منامًا وحلمًا فأين التّسلية والمُواساة.
وليس في الإسراء والمعراج ما تحيله العقول، لأنّ الإسراء والمعراج عبارة عن انتقال من مكان إلى مكان بزمن قصير غير معتاد وبوسيلة غير معتادة، فالأمر إذًا يتعلّق بالفيزياء والحسابات الرياضية، فلو أتينا الفيزيائي والرياضي وسألناه: هل يمكن أن تقطع المسافة عينها بين النقطة “أ” والنقطة “ب” بزمن أقلّ وبوسيلة أفضل وأسرع؟ لكان جوابه: نعم، طالما أنّ وسيلة النّقل تقبل التّحسين والتّطوير فإنّ ما سألتَ عنه أيّها السّائل ممكن وجائز عقلاً.
وإذا مكّن اللّه تعالى لبعض خلقه في زماننا هذا أن يطوّروا ويحسّنوا من وسائل النّقل والحركة ما به جاوزوا سرعة الصّوت وجابوا الفضاء، وهم مخلوقات ضعيفة علّمها اللّه وقدّرها ربّ العالمين، فهل بقي في الذّهن ما يُشكّك في معجزة الإسراء والمعراج وهي من عمل مولانا الّذي قال: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَاتٌ بِيَمينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}، وكلمة “سبحان” في هذه الآية قد قرأناها في بداية الإسراء فتأمّل.
ومن هنا كانت الإسراء والمعراج حدثت روحًا وجسدًا وفي اليقظة لا منامًا. هذه الحادثة الّتي دلّت حقيقة على حبّ المولى جلّ في عُلاه لنبيّه، وفيها بيان المصطفى صلوات ربّي وسلامه عليه ولمكانته ولمنزلته العليّة.
ووقوع الإسراء والمعراج بعدما جرى في رحلة الطّائف دلّ كذلك على اعتناء اللّه عزّ وجلّ بنبيّه وحبيبه صلّى اللّه عليه وسلّم، وكأنّ اللّه يقول لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم: إذا طردك أهل الأرض وأهانوك فها قد فتحنا لك أبواب السّاء، وأوصلناك إلى رتبة ومنزلة لم يصل إليها لا ملك مقرَّب ولا نبيّ مرسل، حتّى قال جبريل عليه السّلام: “يا رسول اللّه أنا إن اخترقتُ احترقتُ وأنتَ إن اخترقتَ اقترَبتَ”.
[email protected]
أضف تعليق