خميس الفصح، ويدعى أيضاً خميس الأسرار. وتحتفل به الكنيسة المقدسة بإقامة القداس الإلهي وتتلو فصولاً من الكتاب المقدس، تذكّر بها المؤمنين بالحدث الخطير، الذي هو اجتماع الرب يسوع مع تلاميذه في العلية حيث أكل الفصح اليهودي معهم، ثم سلّم إليهم سرّ جسده ودمه الأقدسين. فقد جاء في الإنجيل المقدس حسب الرسول متى ما يأتي: «وفيما هم يأكلون أخذ يسوع الخبز وبارك وكسّر وأعطى التلاميذ وقال: خذوا كلوا هذا هو جسدي. وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلاً: اشربوا منها كلكم، لأن هذه دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا» (مت 26: 26 ـ 28). اصنعوا هذا لذكري (لو 22: 19).
ويدعى هذا السر، سرّ الأسرار، وكان الرب قد مهّد له إذ قال عن ذاته إنه «الخبز الحي الذي نزل من السماء، إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد» (يو 6: 51) كما قال: «الحق الحق أقول لكم: إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم من يأكل جسدي ويشرب دمي، فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير، لأن جسدي مأكل حق، ودمي مشرب حق. من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيّ وأنا فيه» (يو 6: 53 ـ 56).
والمسيح الذي وُلد تحت لناموس، كمّل الناموس. فأكل الفصح اليهودي مع تلاميذه ليلة آلامه، ثم أعطاهم الفصح المسيحي، الذبيحة غير الدموية، عندما سلّمهم سرّ جسده ودمه الأقدسين قبل أن يسلّم جسده للصالبين باختياره. وهكذا ألغى الذبائح الحيوانية، ورسم الذبيحة غير الدموية التي كانت تقدمة ملكيصادق ملك ساليم رمزاً إليها، إذ كان يقدّم خبزاً وخمراً، ولذلك دعا الرسول بولس الرب يسوع «كاهناً إلى الأبد على رتبة ملكيصادق» (عب 5: 6) واعتبر المسيح فصحنا الجديد.
أما احتفال الرب يسوع بالفصح القديم فقد كان ليكمّل الناموس، وكانت ذبيحة خروف الفصح رمزاً إلى المسيح يسوع الذي يقول عنه الرسول بولس: «لأن فصحنا هو المسيح أيضاً» (1كو 5: 7). وكلمة فصح العبرية تعني العبور، وهي تشير إلى عبور الملاك المهلك عن دور شعب العهد القديم بدون أن يمسّ أبكارهم بأذى وذلك عند رؤيته دم خروف الفصح وقد رُشّ على شكل صليب على قائمتي باب الدار وعتبته العليا. وهو يرمز إلى دم المسيح الذي يسفك على الصليب. ويقول الكتاب على لسان الرب «فأرى الدم وأعبر عنكم» (خر 12: 13). وقد وقف المسيح وتلاميذه بين الفصحين، فأكلوا الفصح القديم مع الحشائش المرّة وأحقاؤهم مشدودة، كعادة شعب النظام القديم. ثم أكلوا الفصح الجديد بمرارة النفس نتيجة إعلان الرب لهم عن قرب تقديم ذاته ذبيحة عن البشرية.
والمسيح فصحنا، أنقذنا من الخطية الجدّية، بسفك دمه الكريم على الصليب وبرّرنا وقدّسنا وأهّلنا لنكون أولاداً لأبيه السماوي بالنعمة وورثة لملكوته.
وفي عيد الفصح، يفرض على المؤمنين الاعتراف القانوني أمام الكاهن والتوبة الصادقة. ثم أن يشتركوا بالقداس الإلهي ويتناولوا القربان المقدس، ليثبتوا في المسيح.
كيف نحتفل بخميس الأسرار أي خميس الفصح في أيامنا هذه؟
يشرح لنا ذلك المثلث الرحمة العلامة البطريرك أفرام الأول برصوم في جواب لسؤال أحدهم فيقول:
صباح الخميس تقدم الذبيحة الإلهية، ويتناول القربان المستعدون بالاعتراف القانوني، ويتناولون فطورهم طعاماً صيامياً، ثم غداءهم. هذا هو الجاري اليوم في الكنيسة (السريانية) كلّها. أما في الزمان القديم فقد كان قداس خميس الفصح يقام بعد الساعة التاسعة أي بعد العصر. فيتناول المؤمنون القربان المقدس نحو غروب الشمس وبطبيعة الحال يأكلون غداءهم.
أما الذي قرأتموه في القانون الرابع الذي وضعه مجمع اللاذقية على ما ورد في الفصل الأول من الباب الخامس من كتاب الهدايات، فليس معناه كما ظننتم، الأكل العادي أي الإفطار على طعام الصيام، لكن قديماً كان بعض المؤمنين يجعلون خميس الفصح مثل عيد القيامة أعني أنهم يكفون فيه عن الصوم.
وقد نصت القوانين الكنسية لدينا على عدم جواز ترك أي جزء ولو كان يسيراً، من القربان الذي قدّس في قداس خميس الأسرار إلى اليوم التالي الذي هو جمعة الآلام العظيمة، ذكرى تقديم الرب يسوع ذاته اختيارياً للموت على عود الصليب.
وكانت رتبة غسل أقدام التلاميذ، التي يحتفل بها في خميس الفصح، تسبق إقامة القداس الإلهي، وكان القداس يقام بعد العصر. غير أنه لما جرت العادة مؤخّراً أن يقام القداس قبل الظهر لطول الصلوات الفرضية، ثم لأجل إتمام تقديس الميرون المقدس قبل رتبة القداس الإلهي، عندما تقتضي الحاجة إلى تقديس الميرون، الذي لا يقدّسه إلا قداسة البطريرك، لذلك جرت العادة في أيامنا أن يحتفل برتبة الغسل عصراً حيث يوضع كرسي لرئيس الكهنة، واثنا عشر كرسياً للكهنة أو الشمامسة أو التلاميذ المعينين ليمثّلوا الرسل في هذا الطقس. ثم يوضع الإنجيل المقدس في المذبح على نصبته المسماة الجلجلة كوغولتو ويتلو أحد الكهنة أو الشمامسة الفصل المخصص من الإنجيل المقدس لهذه الرتبة.
وبعد أن يجلس رئيس الكهنة، ينادي بأسماء الرسل الاثني عشر، داعياً كل واحد من المعيّنين للغسل باسم أحد الرسل الاثني عشر فيتقدّمون تباعاً حيث يحنون رؤوسهم أمام المذبح والإنجيل المقدس ثم أمام رئيس الكهنة ويجلسون على كراسيهم وهم متّشحون كل واحد بهمليخه (بطراشيره) إن كان كاهناً، أو قميصه وهراره إن كان شماساً بحسب رتبته، أو بقميص أبيض يتّشح به عادة المرتلون أثناء الخدمة في المذبح.
ثم يبدأ رئيس الكهنة بالصلاة، وترتل الترانيم المختصّة بهذه الرتبة بلحن الحاش أي (الآلام) ثم يقرأ الشمامسة القراءات من الكتاب المقدس، المخصصة لهذه الخدمة، ويبدأ رئيس الكهنة بقراءة فصل الإنجيل الخاص لهذه المناسبة ويكمّله أحد الكهنة أو الشمامسة... وبحسب العادة وعندما يصل إلى الموضع الذي يقال فيه عن الرب يسوع أنه قام عن العشاء وأخذ منديلاً واتّزر به، يقوم رئيس الكهنة، ويأخذ المنديل المعدّ مع محزم لهذه الغاية ويتّزر به ثم يأخذ منشفة ويصب ماء في مطهرة، ويبدأ بغسل أقدام التلاميذ مبتدئاً بآخرهم.
ولما يبلغ رئيس الكهنة إلى الشخص الذي يمثّل بطرس ويكون أحد الكهنة على الأغلب، يمتنع هذا أولاً عن أن يغسل له رئيس الكهنة قدميه. ويحاوره رئيس الكهنة، وأخيراً يرضخ لأمره. ويجري الحوار بينهما بالعبارات التي تبادلها الرب يسوع مع تلميذه سمعان بطرس، كما هو مدوّن في الإنجيل المقدس. ثم إن الكهنة أو الشمامسة الذي غسل رئيس الكهنة أقدامهم اليمنى ونشّفها ومسحها بالزيت البسيط، يجتمعون حول رئيس الكهنة، ويغسلون قدمه اليمنى ويمسحونها بالزيت البسيط أيضاً.
وحينئذ يكمل رئيس الكهنة قراءة فصل الإنجيل المقدس بعد أن يكون قد خلع عنه المنديل ولبس ثيابه، ثم يعظ مبيّناً الغاية السامية من إتمام هذه الرتبة المقدسة بحسب أمر الرب، لكي نتأمل بتواضع ربنا الجمّ ونقتدي به. وبعد العظة يتلو المؤمنون قانون الإيمان النيقاوي وبعض الصلوات ويصرف رئيس الكهنة الشعب بالبركة.
[email protected]
أضف تعليق