في إحدى محاضرات الجامعة قبل سنة أو سنتين أراد المحاضر أن يشرح لنا مبدأ الإستمرارية (Continuity) وأهميّة الهامش (Margin)، فافتتح محاضرته بقصّة تعود الى الحرب العالميّة الثّانية عندما رفض أحد الطّيارين الإنجليز المشاركة في الغارة الجويّة الأولى على ألمانيا خوفا على حياته من الخبرة الجويّة للطّيران النّازي. توجّه الطيّار الى القائد وحاول اقناعه قائلا: "إن لم أشارك فسيكون التأثير هامشيّا للسرب الملكيّ المهاجم لأنّ طائرة واحدة فقط ستنقص من سرب عديده مئات من الطّائرات، أما بالنّسبة لي: فسأضمن حياتي"، فأجابه القائد: "لو استخدم جميع الطّيارين هذه الحجّة لكان تحوّل الهامش الى القاعدة ولم يكن أي طيار سيقلع بطائرته للدفاع عن الوطن وستكون الهزيمة من نصيبنا ونصيب الوطن". كذلك هو الأمر بالنسبة للخطّ المستقيم، رغم أنه يتكون من عدد لا نهائي من النقاط فان فقدانه لأيّة نقطة على امتداده ستفقده ميزة الإستمراريه وهي الميزة التي تجعله خطاً وبالتالي لن يعود بالامكان تعريفه على أنه خطّ مستقيم.
هذا الأسبوع قرّرت لجنة الطّاعة في جامعة حيفا أن تجمّد تعليم طالبين فلسطينّين (أحمد مصالحة من أبناء البلد وطارق ياسين من الجبهة الطّلابية) لأنهما بحسب إدعائها أصرّا على إحياء ذكرى نكبتنا رغم منع الجامعة لأيّ مظاهر للحزن الجماعي داخل حرمها. لم يكن الإحتجاج عنيفا أو مخلّا بالنّظام أو معيقا لتعليم الطّلاب الّذين لم يشاركوا في الفعالية، بل كان فعالية احتجاجية خارج بنايات الجامعة عزف خلالها بعض الطّلاب الموسيقى بينما وضع آخرون الأشرطة السوداء على أفواههم للاشارة الى سياسة كم الأفواه من قبل الجامعة. في موازاة ذلك تمّ على مدخل الجامعة اعتقال أبو أسعد محمدّ كناعنة الأمين عام السّابق لحركة أبناء البلد بينما زجّت إدارة الجامعة بقوّات من وحدات قمع الاحتجاجات والخيالة المدججين بالأسلحة التابعة للشّرطة لينتشروا في ساحات الجامعة ليتحول ما كان مفروضاً أن يكون حرماً جامعياً الى ثكنة عسكريّة تتوعّد وتهدّد طلّاب الجامعة بالضّرب المبرح أوالاعتقال.
قبل ذلك بنحو أسبوعين قامت سلطات جامعة القدس بالتضييق على فعاليات نظّمها التّجمع الطّلابي وهناك أيضا حيث دفعت بقوّات الشرطة الى داخل الحرم الجامعي ما أسفر عن إعتقال ثلاثة طلّاب (خليل غرّة، مجد حمدان وفرح بيادسة من التّجمع الطّلابي). كما تمّت محاولة في الاونة الأخيرة لتجميد عمل كتلة التّجمع في جامعة القدس لكن سلطات الجامعة تراجعت عن هذا القرار بعد شروعها بتنفيذه بعد أن تعرضت للضّغط اثر انطلاق حملات عالمية ومحليّة لمواجهته.
وحتى في جامعة تل أبيب التي كانت الأكثر تساهلا نسبة بأخواتها فيما يتعلق بهامش الحرية الممنوح للطلاب العرب لاحياء المناسبات الوطنية واقامة الفعاليات السياسية والاحتجاجية، فقد بدأت إدارة الجامعة تدريجيّا بالتضييق على الطلاب العرب والرضوخ لمطالب اليمين الفاشي بممارسة سياسة القبضة الحديدية مع الطلاب العرب. برز هذا التغيير في سياسة الجامعة مؤخرا حين تمّ منع إحياء فعاليّة لذكرى يوم الأرض نظّمتها كتلتا الجبهة الطلابية وأبناء البلد، ولكن كما هو معلوم فانه رغم المنع تمّ تنظيم وقفة إحتجاجيّة ضدّ سياسة كم الأفواه خارج الحرم الجامعي على صيحات اليمين الصهيوني التي بقيت خافتة أمام هتافات المئات من الطلاب العرب. الذّريعة التي رددتها جامعة تل أبيب حينها في وسائل الإعلام والشّبكات الإجتماعيّة هي أن ذلك القرار جاء نتيجة لضغط كتل العرق اليهودي اليمينيّة لإلغاء الفعالية بحجّة استضافة الفعالية لأبو أسعد محمد كناعنة أمين عام أبناء البلد سابقا والّذي اتّهم وسجن أمنيّا في المحاكم الإسرائيليّة، ولكنّ مجمل ما يحدث في الفترة الأخيرة في الجامعات الاسرائيلية قد يتكون مؤشّرا لتدخّل أجهزة الدّولة لتغيير قواعد اللعبة في التعامل مع الطلاب الفلسطينيّين في مؤسسات التعليم العالي الإسرائيلية.
كما أن مجد، خليل وفرح اعتقلوا لتلقين كل الحركات الطلابية الفلسطينّيّة درسا دون حصر الأمر بنشطاء التّجمع الطلابي فقط، فإنّ تجميد تعليم أحمد وطارق جاء هو كذلك لتلقين جميع الطلاب العرب وحركاتهم السياسية درسا مشابهاً لا يقتصر على نشطاء الجبهة وأبناء البلد فقط. لذلك فأمام هذا المشروع السلطوي الذي لا يستثني أحدا علينا أن نتوحّد خطواتنا لصدّه وصد الممارسات المجحفة بحقّ طلّابنا، والا فاننا سنخسر القضية الجامعة كي لا يضيع الهامش الذي تتواجد فيه كل حركة. من الضّروري أن نختلف فيما بيننا على ما المسائل العقائدبة: على الموقف من الحركات الأصوليّة، على الاختلافات المتعلقة بقضيتنا الأولى، القضيّة الفلسطينية، وموقفنا من دول الخليج والرّجعيّة العربيّة، فالنقاش والاختلاف ضروري - رغم حدّته أحيانا - لتطوير خطابات كافّة الجهات. ولكن لا يقل أهمية أن نعرف كيف نتّحد في مواجهة الجهاز الإسرائيلي والكتل الطّلابية اليهودية الفاشية، دون أن نترك بعضنا ليخوض كل معاركه أمام تلك الجهات وحيداً فكل معركة كهذه هي هامش ان خسرناه سنخسر القضية العامة، وستكون الهزيمة من نصيبنا ونصيب الوطن.
[email protected]
أضف تعليق