العلاقة بين السياق الاجتماعي-التربوي والتصور السياسي في ظاهرة العنف وتأثيرها والتعامل معها

ضمن رسالة الدكتوراة في موضوع الخدمة الاجتماعية التي قدّمتها الأكاديمية رغدة النابلسي، حيثُ تناولت في بحثها النساء الفلسطينيات المعنفات على يد أزواجهن والسياق الثقافي-اجتماعي والسياسي لتعديف المشكلة والتداعيات واستراتيجات مواجهتها، والمقدمة للمحاضر بروفيسور محمد حاج يحيى المحاضر في للجامعة العبرية - القدس

صوت المرأة مهم

تأتي أهمية البحث من أجل سماع أصوات النساء العربيات، المعرضات للعنف من قبل أزواجهن، من خلال كشفهن عن تجاربهن وتأثيرها، كما وصفنها. والبحث أيضًا يأتي لفتح الباب أمام معرفة واقع النساء العربيات، المعنّفات، وكيف يصفن العنف الموجه ضدهن، ومدى تأثيره على حياتهن، من خلال كشف زوايا خاصة في حياتهن وفي حياة أبناء العائلة، وكيف يتجاوزن هذا العنف. ويتميز البحث بخصوصيته في التشديد على العلاقة بين المجتمع والتربية والواقع السياسي للمجمع العربي وارتباطه بهذه التشعبات المجتمعية، مِن أجل فهم وتعريف أسباب العنف، تأثيره، التأقلم وطرق البحث عن مساعدة.

ويُساهم البحث أيضًا في تعزيز المعلومات الوصفية والبحثية، وإمكانية فتح أطرٍ جديدة في بحث العنف الموجه ضد النساء العربيات في البلاد، بشكلٍ خاص. إضافة إلى أنّ البحث يمكن أن يساهم في فتح أطر خدماتية ومؤسساتية مجتمعية المتعلقة بالمجتمعي والتربوي والاجتماعي السياسي المطروحة.

وفي دراستها تكشف الناشطة النسوية، د. رغدة النابلسي أنّ المرأة العربية، التي تتعرض للعنف، تعرف مدى التأثير المدمّر للعنف عليها وعلى العائلة الضيّقة والموسّعة، وتعرف أنّها تحيا في مجتمع محافظ، يسمح بتعرضها للعنف، وهي تتحمل جزء من المسؤولية، بل في بعض الأحيان يتم توجيه الاتهام لها، حين يقوم زوجها بتعنيفها، من جهة أخرى يتساهل المجتمع تجاه الرجل المُعنِّف. ويرضى المجتمع العربي برفض النساء للعنف الموجه ضدهن من قبل الزوج، وقد يدعمهن في التغلب على الواقع، ومنع تصرفات الزوج المُحطِّمة والمعنِّفة، في المقابل يقوم المقربون من الزوجة بمرافقتها أو رجال في مكانة محترمة، لن يُرفض رفضًا باتًا التوجه لمكاتب الشؤون وللشرطة للحصول على دعمٍ وحماية من الزوج العنيف.

تأقلم المرأة الفلسطينية مع العنف

وأوضحت الدراسة أنّ طريقة تأقلم المرأة مع العنف لا تسير بوتيرة واحدة، بل إنهن يتعاطين مع الواقع بصور مختلفة خلال علاقتهن مع زوجهن العنيف. وأكثر من ذلك ففي بحوث كثيرة، على مدار سنوات، يتضح أنّ ردود واستراتيجية تأقلم المرأة المُعنّفة مع العنف، لا تسير بوتيرة واحدة، بل هي متحركة ومتغيرة ومختلفة.

ويجيب البحث عن الأسئلة التالية: كيف تصف النساء العربيات المعرضات للعنف تجربتهن مع العنف الموجه ضدهن من قبل الزوج؟ وما هي وجهة نظر النساء العربيات المعرضات للعنف على المستوى الشخصي وغير الشخصي الذي يعشنه، نتيجة العنف الذي يتعرضن له من قبل الزوج؟ وكيف تصف النساء العربيات المصابات تأثير العنف عليهن؟ كيف يتأقلمن مع عنف الزوج؟ وهل هناك أثر للمجتمع والتربوي والاجتماعي السياسي هناك ارتباط بين تعريف العنف، تأثيره، طرق التأقلم والبحث عن مساعدة النساء العربيات المعنّفات في البلاد.

البحث شمل 23 سيدة عربية

وقد أجرت د. رغدة النابلسي، بحثًا شمل 42 مقابلة أجريت مع 23 سيدة عربية تعرضن للعنف، والمقابلات تظهر عينة بحث واسعة من ناحية الأجيال، والمستوى التحصيلي، الدين، العمل، منطقة السكنى، عدد الأولاد، عدد سنوات الزواج، عدد سنوات التجربة مع العنف من قبل الزوج، طريقة العنف، العلاقة مع الجانب العلاجي.

وفي وقفة مع الباحثة رغدة النابلسي أكدّت أنّ هناك معطيات مقلقة جدًا من بينها أنّ "امرأة واحدة من ثلاث تمر بتعنيف، وعلى الأقل بنوع من أنواع التعنيف من قبل الشخص، زوجها، قريب في العائلة أو البيئة المحيطة بها، وقد يكون أكثر من نوع من العنف، والمقصود الجسدي، النفسي، العاطفي، المجتمعي، وحتى الاقتصادي.

الإساءة المؤسساتية للمرأة

تؤكِدّ د. نابلسي أنّ الإساءة لا تأتي فقط من الزوج أو العائلة، بل أيضًا من المؤسسة نفسها، وهي أهم نقطة في البحث، حيثُ يشير إلى أنّ المؤسسة الإسرائيلية تُساهم في تعنيف وإيذاء المرأة العربية الفلسطينية، ولا مبالاة في مسألة تعنيفها.

والأمر الثاني الهام في البحث أنّ النساء في البحث بدوْن قويات ومحصّنات، رغم ما يتعرضن له من عنف، وواحدة من القضايا التي تطرقت لها النساء هن أنهن معنّفات ولسن ضحايا، وتعاملن على أساس أنهن قويات وقادرات ويملكن موارد ذاتية وشخصية، وهذه نقطة إضافية مهمة.
وتوجهت النساء إلى الآخرين مطالبةً بالتعامل معهن على أنهن "لسن بمستضعفات، ويملكن القدرات والاستراتيجيات في المواجهة"، لكنهن في الوقت نفسه يصرحن: "نريد أن نبقى داخل العلاقة الزوجية لأنه ليس في اليد حيلة، ونريد أن نعيش في السياق الفلسطيني، وداخل السياق العائلي الذي يعني البقاء في البيت».

"تموت البيوت إن غابت نساءها"

خلال بحثها، ركّزت د. النابلسي على البيت ليس بالمفهوم الملموس للمكان، وإنما بالمفهوم العاطفي والانتماء للمكان والأرض والهوية، بينما لا تتطرق الكتابات الغربية لمثل هذا الأمر، كون الأقلية الفلسطينية في الداخل، والنساء جزء مهم منها، يتطلعن إلى أهمية البيت، الذي يُشكّل حصنهن المنيع، وتحدثن عن البيت بمفهومه الشامل.

والنساء في البحث أكدن أنهن لا يردن تغييب هويتهن عند اللجوء للمؤسسات الإسرائيلية المختلفة (الرفاه الاجتماعي، الاستشارة في المدارس، ومؤسسات حكومية أخرى)، لا يعني تغييب قصتهن وتاريخهن وتأثير ذلك على خياراتهن الاستراتيجية داخل الأسرة والمجتمع وداخل الحيز الإسرائيلي.

ويبقى البيت بالنسبة للمرأة الحصن الأمين، حيثُ تسعى المرأة إلى الحفاظ على أبنائها وبناتها بكل ما أوتيت من قوة، لكن في ذات الوقت ترى المرأة ضرورة في حماية المجتمع الفلسطيني من المؤسسة الإسرائيلية المُستهدِفة، وترى نساء البحث أنّ المؤسسة الإسرائيلية تتعامل معهن عندما يتوجهن لطلب الخدمات بطريقة لا تتلاءم مع احتياجاتهن ولغتهن وهويتهن واقتصادهن، وبالتالي يرى البحث أنّ المؤسسة لا تُساهم في إخراج المرأة من دائرة العنف، بل إنها تُساهم في بعض الأحيان بهذه الزيادة وتسعى لبسط الفقر والتجهيل في المجتمع الفلسطيني في الداخل".
وتقول النابلسي: "حاجة المرأة لا تقتصر على الدعم الجسماني أو النفسي أو العلاجي، بل إنّ هناك نظرة شمولية تكاملية، تشمل السياق الاجتماعي الذي تحياه النساء، إضافة إلى السياق السياسي الذي يعرض المرأة لضغوطات نفسية وصعوبة في مواجهة الأزمات التي تمر بها المرأة المعنّفة.
وتبقى الخيارات محدودة على العائلة، أما بما يخص الرجُل، فإنّ ما يمر به من ظروف صعبة تضعه في مقابل معاناة المرأة، ويشكّل نوعًا من الشفقة على مكانته السياسية والثقافية والاجتماعية والسياسية.

شحنة دعم للنساء

ويعطي البحث للمرأة الفلسطينية شُحنة من الدعم حين يتعلق الأمر بمدى صمودها ودورها الأمومي في البيت، حيثُ تتحدث الأدبيات عن تعنيف المرأة كقوة إضافية، تزيدها صمودًا وثباتًا وحفاظًا على العائلة، بينما لا ينظر الغرب إلى الأمور بهذا الشكل، ولا ينشغل بالعلاقة مع الزوج والثقافة والعادات والتقاليد والسياق السياسي المؤسساتي.

ونقطة أخيرة لفتت الباحثة نظرنا إليها أنّ النساء يرفضن التوجه للشرطة وهي ذات المؤسسة التي تهدم البيوت وتضرب بالمجتمع العربي، ولا يريْن أنّ هذا الجسم يساعد في تطبيق القانون الحقوقي، وأنّ الشرطة هي جزء مرفوض في المجتمع العربي، حيثُ لا ترى النساء أنّ هذه الجهة تمثل العائلات، ويطالبن أن تقدم الخدمات والحقوق، مثلما يتم فرض الالتزامات. وأنهت النابلسي بالقول: "إنّ المرأة المعنفة يهمها الحفاظ على بقائها وصمودها ولغتها، في إطار الحفاظ على الهوية.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]