كانت بهية شقور (أم عيسى) تهوي بفأسها بقوة وصلابة ،لتحفر حفرة داخل بيت اهلها في كفر برعم ، كي تغرس فيها شتلة الزيتون ، كنت أرقبها وكأنها تأبى الاستسلام للمغتصب حتى بعد 64 عاما من التهجير والاقتلاع ،لم تكل ولم تتعب الجدة(80عاما) حتى بلغت مرادها ،وانتهت لتغرس فيها شتلة الزيتون، دلالة على العودة المحتومة ولو بعد حين.

أما ابنها عيسى "الزجال الشعبي" فكان يردد الاشعار من خلفها ويقول :

إم الكل بحنية ختيارة وبعدك صبية
جينا نزرع زيتونة وبكرا بنقعد بالفية
جينا نزرع زيتونة وطول عمرك انت حنونة

وبعد ذلك راح عيسى ينظم اشعارا لبرعم ويقول:

حلوين بلاد الجليل لكن مثلك مستحيل
لبرعم نحنا مشتاقين لكروم العنب والتين
القلب لغيرك ما بميل ونحنا بحبك مغرمين
برعم يا اخواني بالحلا مالها تاني
ست الدنيا خلقاني ما في مثلا بالتكوين
عبرعم نحنا جينا والأشجار بايدينا
جينا نزرع اراضينا نزرعها ومنا خايفين
شوفوا برعم يشباب محلا سهولها والهضاب
ما في اغلى من لتراب ونحنا الها مش بايعين
عبيعا منك مجبور لو بضلا ارضك بور
بكرا بنرجع نبني قصور ونمحي صورة اللاجئين

نبذة عن كفر برعم واحتلالها وتهجير اهلها وهدمها

كفر برعم كانت قرية صغيرة في شمال الجليل الأعلى، وتقع على بعد 4 كم جنوب الحدود اللبنانية الإسرائيلية، عمل غالبية أبناؤها العرب المسيحيون بحراثة أراضيهم والعيش من خيراتها، وعاشوا بسلام مع جيرانهم، خلال 400 سنة من الحكم التركي وتسعة وعشرين سنة تحت الانتداب البريطاني على فلسطين.

عندما احتلت القوات الإسرائيلية قرية كفر برعم في 29/10/1948 أصر الأهالي على البقاء في بيوتهم وفوق أرضهم ومواصلة حياتهم العادية.

لكن وبعد مرور ثلاثة أسابيع على احتلال القرية ، أُمر الأهالي وبحضور وزير الأقليات بمغادرة قريتهم بشكل مؤقت وبضمانة رسمية لعودتهم إليها بعد أسبوعين، وترك الأهالي قريتهم إلى قرية الجش المجاورة.

تهجير وتشريد ووعود بالعودة

بالرغم من الوعود المتكررة التي قدمتها الحكومة في إسرائيل، بما في ذلك رئيس الوزراء الأول ووزير الأقليات والشرطة، والمستشار الرسمي لشؤون المسيحيين، لم يستطع مهجرو كفر برعم العودة إلى قريتهم، ومع مرور الأشهر أصبح واضحًا بأن الحكومة الإسرائيلية لا تنوي السماح لأبناء كفر برعم بالعودة إلى قريتهم، وأن الوعود التي يقدمها ممثلو الدولة لم تحقق العودة.

ورفع مهجرو كفر برعم دعوى إلى المحكمة  العليا في سنة 1951 لاستعادة حقوقهم، وقد ادعت الحكومة أن المنطقة التي تقع فيها كفر برعم هي "منطقة عسكرية مغلقة"، وقامت بنشر إعلان بذلك يشرع بشكل تراجعي ما قد تم بشكل غير قانوني، حيث قامت في شهر1951/11 بإصدار أمر لأبناء كفر برعم بمغادرة المنطقة العسكرية المغلقة (كفر برعم)، مع العلم أنهم قد غادروها فعليـًا في 20/11/1948 على وعد والتزام رسمي بعودتهم بعد أسبوعين، وقد أصدرت المحكمة قرارها في 18 كانون الثاني 1952 جاء فيه: "يحتاج المدعون كي يعودوا للقرية إلى تصريح خاص من الحاكم العسكري". لم يعط الحاكم العسكري تصريحـًا من هذا النوع حتى هذا اليوم. وفي الشهر التالي، (16-17 أيلول 1953) قامت القوات العسكرية بقصف ونسف القرية بالديناميت أمام عيون أبناءها وهم ينظرون لما يجري من موقع قرب قرية الجش. عرف فيما بعد باسم "المبكى".

كان وما زال أبناء كفر برعم يأملون تنفيذ الوعد الذي أعطي لهم منذ أكثر من ستة عقود، وخلال السنين الطويلة ما زال أبناء كفر برعم يطالبون بالعودة، وقد بحثت كل الحكومات المتعاقبة مطلبهم، ولم تنف أي سلطة في إسرائيل وعلى مدى 64  عاما حق أبناء كفر برعم بقريتهم وبيوتهم وأراضيهم، ومن جهة أخرى لم تجرء أي حكومة من اتخاذ قرارا بإعادتهم، وما زالوا ينتظرون حتى يومنا هذا.

مراسل "بكرا" تجول مؤخرا في برعم مع الاباء والأبناء والأجداد ،حيث عادوا مجددا اليها للبيعة والوفاء، وغرس اشجار الزيتون كما جرت العادة في كل سنة ،لكن المستوطنون اقتلعوا هذه الاشتال من ارض برعم كما اقتلع الانسان البرعمي في عام النكبة ....

على مرمى حجر من بيتك...لكن لن تصله!

وعودة إلى بهية شقور، فبعد ان انهت مهمتها في غرس شتلة الزيتون، راحت اناملها تداعب الشتلة وتحتضنها، وكأنها تداعب طفلة بريئة تخاف عليها من غدر الزمان والمكان، وبدأت الجدة ام عيسى تروي حكاية التهجير في عام النكبة ،...خرجنا من برعم على امل العودة بعد اسابيع كما وعدونا !!

لكنها كانت مسيرة من المعاناة بدأت في تهجيرنا الى منطقة الضفة الغربية في نابلس، ومن ثم الى الاردن فسوريا ولبنان، وهذه المسيرة استمرت زهاء شهر لنعود بعدها الى البلاد كلاجئين على ارض الوطن، كنا على بعد مرمى حجر من برعم في الجش ولم يسمحوا لنا بالعودة الى بيوتنا ،وحين سألتها عن حلم العودة الى كفر برعم تنهدت الجدة ام عيسى لتقول : يبدو الامر مستحيلا ....".

منذ الطفولة تربينا على حب برعم كما يرضع الطفل من صدر امه

أما الياس جريس ابن المهجرين فقد قال :" لم نولد في برعم، لكننا تربينا على حب تراب برعم كما يرضع الطفل صدر امه ،كيف يمكن نسيان قرية عمرها اكثر من 500 عام؟ كيف لنا ان ننسى معاناة ومأساة قرية وادعة بأهلها؟ قرية تم تدميرها واقتلاع اهلها من ترابها وقذفهم ليصبحوا لاجئين في الوطن والشتات، هذه الرواية احدثت تغييرًا في مفاهيم الاهل والأبناء والأحفاد، واليوم نحن نتمسك بقضيتنا وبتراب وحجارة برعم اكثر من ذي قبل ،الانسان دائم الحلم ،وفي حال لم يتسنى لجيلنا العودة فسنقوم بتسليم هذه الشعلة لأبنائنا في الاستمرار حتى تحقيق العودة".

حبي لبرعم أكبر من حب قيس لليلى

أما الحفيدة سحر شقور فقالت:"شعوري بحب برعم لا يوصف، وان قلت ان حبي لبرعم يفوق حب قيس لليلى فلا ابالغ، امل العودة الى برعم نقش وحفر في نفوسنا وقلوبنا ولا رجعة عنه مهما طال الزمن ،ورغم انني لست من مواليد برعم إلا انني سأكون اول العائدين اليها لو تحققت العودة ".

أما الحفيدة الاخرى رلا شقور فقالت:" زياراتي المتكررة الى برعم تعبر عن مشاعري وحبي لهذه البلدة" ،وفي قضية العودة تتابع رلا: "العودة الى برعم قضية محسومة مهما طال الزمن ،فالظلم لن يدوم الى ابد الابدين ،والعودة الى برعم ستصبح حقيقة وواقع في احد الايام .....".

العودة للاموات لا للاحياء

لكل بداية نهاية ونهاية رحلة الانسان تنتهي بالموت، وقد اصر ابن قرية برعم المهجرة يوسف زهرة، أصر على اصطحابنا الى مقبرة القرية ،حيث تسمح المؤسسة الاسرائيلية بعودة اهالي برعم الى قريتهم امواتا..لكن ليس احياء ...  من جهة اخرى فقد اصطحبنا عيسى شقور ابن بهية الى منزل العائلة القديم في الجش ،حيث حافظ شقور على تراث برعم ،وحين دخلنا الى البيت الصغير اختلطت المشاعر لرؤية متاع ومعدات العائلة التي استعملت في قرية كفر برعم قبل النكبة .....

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]