ينطوي الدِّين الإسلامي الحنيف على حقيقتين غيبيتين عظيمتين، تفتقدهما أي مدرسة أو نظرية لا دينية، وهما: الرقابة الإلهية والإعتقاد بالجزاء الأخروي. وهاتان الحقيقتان الكبيرتان، تشكِّلان الأساس الروحي والمعنوي لكل تمسِّك بالأخلاق والقيم النبيلة، وبدونهما تفرّغ القيم والسلوك الخُلقي من مضمونهما الجوهري، ويتحوّلان إلى مجرّد مفردات ميتة لا حيوية فيها ولا حركة.

ماذا نعني بالرقابة الإلهية؟

إنّها الشعور الحقيقي العميق برقابة الله سبحانه وتعالى لنا في السر والعلن. وهي حقيقة حضوره- عزّ وجلّ- الدائم في نفسية الإنسان، وأن هناك رقيباً أعلى، يعلم الأسرار والخفايا وما تضمه الصدور، عالم الغيب والشهادة، المطَّلع على السرائر والقلوب، الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء. يقول تعالى في كتابه الحكيم: "وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ" "الأنعام/ 59".

ولتجسيد الرقابة الإلهية بأبرع صورها، جاءت الآية القرآنية بالفقرة المقدّسة التالية: "وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ" "يونس/ 61".

إنّ الله إذن هو الرقيب الأعلى ومصدر الوجدان والضمير الإنساني... بل هو التفتيش الذاتي الذي يجعل كل حركات الإنسان وسكناته تحت دائرة الرقابة الربانية، فلا يخفى أمام الله منها شيء، وحينئذ فلا بدّ أن تعبِّر أفعال الإنسان وتصرفاته عن تقوى الله ومراعاة تعاليمه السماوية ومرضاته، ولا بد أن يتجنّب فعل السوء وارتكاب القبائح في مثل هذه الحال، التي يملأ قلبه فيها تقوى الله، وعلمه بإطلاع الخالق عليه سراً وعلانية.

لهذا والحق يُقال، كان المؤمنون الحقيقيون، أكثر الناس رقابة ذاتية لسلوكهم وممارساتهم، وهم في عملية مراجعة وحسابات مستمرة... وإذا أخطأوا تداركوا وتذكَّروا الرقيب جلّ جلاله، فتراجعوا عن الخطأ. يقول تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ" "الأعراف/ 201".

فهؤلاء المؤمنون المتّقون، لا يحتاجون إلى رقيب آدمي؛ لأنّهم ملتزمون سلفاً بكل ما يرضي الإله ولا يسخطه، وكل شيء في حياتهم، يأتي في النهاية، من تقوى الله وحبه السرمدي.

وحياة المؤمن أو المؤمنة، لا تتقسَّم إلى أجزاء، يخرج بعضها عن تقوى الله ورقابته، فهذه الرقابة تغطّي كل الحياة الإنسانية، فليس هناك حياة عامة تحكمها القوانين وحياة خاصة متمردة لا تحكمها القوانين، كما هو حاصل في البلدان الغربية المتهافتة. فالعالم الغربي مثلاً يعتبر الحياة الخاصة، حقاً مطلقاً للإنسان، يمارس فيها حرِّيته الكاملة ولو في الفساد والمحرّمات والموبقات ما دام ذلك لا يضايق أو يحدّ من حرِّية الآخرين.

أمّا في الإسلام فكل حياة الإنسان، محكومة بالمسؤولية والرقابة من الله، وهذا لا ينافي الحرِّية، لأنّ الحرِّية في ظل الشريعة الإسلامية هي حرِّية مسؤولة واعية، تتحقق ضمن نطاق الأخلاق والقيم النبيلة، وليس ضمن الفوضى والتخبّط الفكري والعملي.

بيد أنّ المؤمن يضع تقوى الله في حسابه عند كل تحرّك أو موقف، حتى في الأكل والشرب، بل وحتى عندما ينفرد مع نفسه في غرفة مغلقة، وهذا ما يجعله من أعظم الناس مسؤولية وإلتزاماً.. يقول جلّ شأنه: "لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" "المائدة/ 93".

القوانين الوضعية لا تحل مشكلة الرقابة

هذا الشعور الدائم بحضور الله، قوّة عظيمة في نفسية المؤمن تجعله دوماً على الطريق المستقيم، فلا يخضع لإغراءات الشيطان وأهواء النفس الأمّارة بالسوء. ويعترف الكثير من الغربيين بهذه الحقيقة الدامغة. وهي؛ أنّه ينبغي عدم الإستهانة بالإسلام لأنّه عقيدة ثابتة بقيت رغم الأعاصير العاتية، وذلك بسبب الرقابة التي لا تأتي من شخص على شخص، ولا من هيئة على هيئة، وإنما هي رقابة الإنسان لربه، ونضج الضمير الديني.. وهذا وحده قوة كامنة في الإسلام.

أمّا مزاعم الضمير ورقابة الشعب والقانون، والمصلحة المتبادلة التي تنادي بها المدراس التي تنكر وجود الله، فهي ليست بشيء ما لم تنزع إلى الإعتراف بالخالق سبحانه وتعالى، العالم بكل الخفايا، وتطيع أوامره ونواهيه، وتراقبه في كل لحظات حياتها.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]