تواعدتُ أنا والسيدة سلوى سالم قبطي، هذا الأسبوع، فالتقينا على تراب قرية معلول المهجرة، حيثُ لم يكن سوانا في المكان، في بقعةٍ لا نسمعُ فيها سوى عواء الكلاب وفرامل عجلات الجيش، الذي مرّ مِن المكان وغاب...
كان يُمكن أن يبدو المنظر ساحرًا، والجلوس تحت هذه الأشجار الوارفة الظلال آخاذاً، وسكون الكنيسة وحجارتها الجليلة، عظيمًا، لولا آلامُ النكبة التي تعتصرُ قلب السيدة سلوى قبطي، وهي تروي حكاية استشهاد والدها فارس سالم قبطي، بالدموع والشجن.
بدأت قصتها كما قالت: "قصتي ابتدأت قبل أن أولد بأربعة أشهر، كان ذلك، كما حدثتني والدتي وجدي، يوم الرابع والعشرين من شهر آذار من عام 1948، حينما غادر والدي، المولود عام 1923 في قرية معلول المهجرة الواقعة الى الجنوب من مدينة الناصرة الجليلة، رافقه يومها أعمامي: فوزي، فايز، فواز وخليل، متوجهين إلى مدينة حيفا حيث كانوا يعملون هناك، ووالدي كان سائقاً في سكة الحديد.
في يوم المجزرة وقف والدي وإخوانه بانتظار حافلة الباص التابعة لشركة العفيفي، دنا الباص، فسمع أزيز صليات نارية، تبين أن مطلقيها أفراد من التنظيمات الصهيونية. واعتلى والدي الباص، ليحمي السائق ويساعده في السياقة، لاتقاء شر اطلاق النار، لكن عاجلته طلقات النار التي اودت بحياته وحياة السائق، وأصيب اثنان من الحافلة بجراحٍ متوسطة، عادَ أعمامي بالجثة الى معلول حيثُ ووري ثراه الغالي في المقبرة المسيحية في القرية".
"أنا والنكبة توأمان"
تقول سلوى: "استشهد والدي في الرابع والعشرين من آذار 1948، بينما ولدت انا في اليوم الأخير من شهر تموز، في عام النكبة، وهجرنا من معلول في 15/7 التي سوويت بيوتها بالأرض بمرور العشرين من تموز في نفس العام".
وتتابع: "أنا والنكبة توأمان، ولدت واهلي ما زالوا يلملمون جراحهم، في البداية كنت اعتقد ان جدي هو أبي، لكثرة ما كان يحملني بين ذراعيه ويحتضنني، واسمع منه قصص معلول، ويلتقي أبناء معلول في بيته في الناصرة، وأنا أتشبث بحضنه... كان يبكي الرجال على سيرة قريتهم، كنا نسترق الزيارات الى معلول عبر شارع "كفار هحورش"، فكان الحارس عوديد يستوقفنا، تخيلي "بيت ابونا واجو الغُرُب طحونا"، كنا مهددين بالقتل اذا ما اعترض احدهم طريقنا، ولفرط وجع جدي اصيب بالسكري والقلب وتوفي بحسرته على ولده ووطنه".
"عشنا أيام الحكم العسكري في سجنٍ كبير، لم يكونوا يعطونا تصريح مرور، فكنا نستغل استقلالهم لنبكي وجعنا ولنعيش نكبتنا. وأذكر وأنا في الخامسة من عمري رافقت جدي في زيارة تسلل، فحقق الحراس مع جدي لأنه زرع شتلة "بندورة" قرب العين في معلول".
تضيف: "لقد قرأت كثيرًا من الكتب التاريخية، حول حكايا الشعوب، لكنني لم اسمع عن شعب فعل ما فعلته اسرائيل خلال حكوماتها المتعاقبة. كيف نكون حاضرين غائبين ونحن في بلادنا؟! من يقول ان هذه املاك غائبين، انا في الناصرة، وأهلي في يافة الناصرة، عشر دقائق ونكون في ارض معلول، ارضنا، لدينا طابو، والبلاد بلادنا، ومع ذلك حرمونا كامل حقوقنا! أعتقد أن هذا الشعب يكره نفسه، والا لسجلوا تاريخًا مشرفًا، أفضل هذا التاريخ المخزي... ".
سلوى قبطي: مأساتنا لم تنتهِ
تواصل سلوى سرد حكايتها فتقول: "مأساتي لا تنتهي... ولن أغفر ولن أنسى...
كنت جنين في بطن امي، يوم عاد ابي في اسبوع عيد الفصح المجيد، محمولاً على الأكتاف، ترملت الزوجة ابنة ال 22 عامًا، وفي حضنها ثلاثة اخوة الكبيرة 3 سنوات، سلمى سنتين وسلامة ثمانية أشهر... امٌ وأطفالها، لا بيت... لا زوج.. لا جار... غربة وذل ومعاناة... لا دخلَ لها يعينها، حتى أنهم فكروا ببيعي "للدكتور باركين" الأجنبي، ليعيلوا العائلة...
بيتنا كان مغارة صغيرة لا تتعدى مترين بطولها وعرضها، سكنتُ فيها وامي واشقائي، وجدتي وجدي... هذه هي مأساة التهجير ونحنُ في الوطن".
وتتابع سلوى: "انا شارفت على ال 63عامًا، وعلمت ابنائي كل شيء عن قضية فلسطين، وعن قريتي الحبيبة معلول، وعن دم ابي لم ابخل بالشرح، عن جذورنا، وحفنة تراب معلول التي تضاهي كنوز العالم، لا يهمني في هذه الدنيا سوى معلول وفلسطين، ورؤية قبر أبي، ومناجاة والدي الشهيد، أحلمُ بأن المس تراب المدفن، اتحدث الى روح أبي أشكو له وجعي في غيابه، ابكيه طويلاً... اشعره بوجودي".
أشتاق لزيارة قبر والدي!
"نعم ابكي بحرقة على شيء اسمه وطني، اتمنى أن ازور قبر ابي، انه أبسط حق من حقوقي الشرعية!!... هل سمعتِ في كتب التاريخ الماضية والحاضرة عن جيشٍ يقيم معسكره فوق المقابر طوال ثلاثة وستين عامًا؟! بأي حق يسمحون لأنفسهم باغتصابِ مقدساتنا؟! أين الانسانية؟! يتحدثون انهم شعب عريق، لكن تصرفاتهم تثبت العكس تمامًا، وحكوماتٌ تعيشُ من سيءٍ إلى اسوأ، بينما نحلم نحنُ بالعودة الى ديارنا".
وتختم سلوى بزفرةٍ قوية تقتلعُ شغاف القلب: "قضيتنا من اصعب القضايا والمآسي التي مرت عبر التاريخ!!.. أنا واحدة من الالاف الذين فقدوا الأمان في الوطن!! كيف أشعر بالأمان وقد فقدت أبي، وجاري وأرضي وأحبائي؟!! كثيرون من عاشوا في غربة الوطن... بعيدًا عن قراهم عن مصدرِ الأمان في حياتهم، لكنني واثقة أننا سنعود الى مسقط رأسنا مهما طالت يد المحتل...
وكما قال الشاعر: قد يهون العمر الا ساعة وتهون الارض الا أرضًا او موقعًا،
وانا لن تهون ارضي فلسطين ولن استبدل تراب معلول بكنوز الدنيا كلها...
[email protected]
أضف تعليق