الثّورات العنيفة لا تحقّق أهدافها أبدًا. في البداية تلتقي قوى ثوريّة مختلفة لتقوّض النّظام القائم، ومع نجاحها بتقويضه، ينشأ وهم قد يوحي بأنّ قوى النّظام القديم يُمكن سحقها تمامًا، وهو أمرٌ خاطئ. بعدها تبدأ مرحلة فراغ السُّلطة، الّتي بسببها يبدأ الصّراع بين القوى الثّوريّة المختلفة ودخول القوى السّابقة على الخط، تتبعها الفوضى والقلاقل. والمرحلة الّتي تليها، هي مرحلة ظهور الرّجل الّذي تلتقي عنده روافد القوّة فيستلم زمام السّلطة الّتي يتنازل فيها له الجميع، إمّا طواعية لتجنّب استمرار الكوارث، وإمّا مرغمين.
النظرية الاجتماعيّة عن الثّورات العنيفة المذكورة أعلاه ليست من تأليفي، هي من دروس التّاريخ الّتي تحدّث عنها الفيلسوف البريطانيّ بريان مغي. ومن ضمن الثّورات الّتي ذكرها كانت الثّورات في إنجلترا الّتي جاءت بأوليفر كروميل، والثّورة الفرنسية الّتي جلبت نابليون بونابرت، كرجال استلموا زمام الأمور بعد الفوضى. ويمكنك أن تأتي بهذه النّظرية لتطبّقها في شرقنا لتقول إنّ الخميني كان الرّجل القويّ في إيران، وإنّ عبد الفتّاح السّيسي كان الرّجل القويّ في مصر. المغزى أنّه وبعد كلّ مرحلة من الفوضى والصّراع السّياسيّ تُفضي السّلطة إلى شخص واحد تترسّب عنده القوى المختلفة.
بالتّأكيد في هذه المرحلة المتقدّمة من التّجربة البشريّة، أصبحت بعض القوى العظمى تتعلّم من تاريخها نفسه لتستفيد من مراجعاتها، فما يحدث اليوم في عالمنا العربيّ هو ما حدث في بريطانيا وفرنسا قبل مائتي عام وأكثر (الحرب الأهليّة الإنجليزيّة حدثت في القرن السّابع عشر). فمن يرى الثّورات أمامه، سيقرأ الصّورة ليحاول الاستفادة منها، فهو يعلم أنّ بعد سقوط النّظام، يحدث الفراغ وتأتي القلاقل، ومن بعدها تبدأ مرحلة صراع القوى المختلفة، التي ستفضي إلى بروز الرّجل القويّ، ومَن يراقب هذه المراحل ويعلم بها، بالتّأكيد سيحاول الاستفادة منها عن طريق التّدخّل المباشر وغير المباشر، سواءً في دعم القوى المتصارعة أم في المساهمة بأنْ تميل الكفّة لرجل يُستفاد منه في مرحلة الصّراع المتقدّم ليكون هو رجل المرحلة، ولا ننسى أنّ لكلّ بلد ظروفه، ولكلّ شعب تحدّياته.
هل أحمد الشّرع هو رجل المرحلة في سوريا؟
هل أحمد الشّرع هو رجل المرحلة في سوريا؟ هل هو ذلك الرجل القويّ الّذي جاء بعد مرحلة القلاقل؟ وهل أصبحت هذه المرحلة من خلفنا، بعد أن حاولت كلّ القوى في الصّراع أن تسيطر على مجريات الأمور؟ لا أدري، ولكن ما هو مؤكّد، أنّ سوريا تعيش إحدى أكثر المراحل حساسية في تاريخها الحديث. ما يُحسب له، أنّه لم يبطش بخصومه ولم يمارس خطابًا طائفيًّا أو مذهبيًّا، وأعلن أن سوريا لجميع السّوريّين، بعيدًا عن ردّات فعل انتقاميّة غرائزيّة من قبل الفئات المسيطرة. وهذه إحدى الخصال التي ميّزت سابقًا الفئات الّتي نجحت في السّيطرة وبسط الاستقرار.
كما أنّ من أهمّ التّحدّيات الّتي تنتظر الفئة المسيطرة، كامتحان لنجاحها، أن لا تجعل من نفسها فئة فوق القانون، وأن تطبقّه على نفسها قبل تطبيقه على معارضيها. حتى اللّحظة، هذا ما نراه في سوريا، وأملنا أن يستمر ذلك، وأن لا تكون هذه المرحلة، مجرد نزوة بين مرحلتين من الفوضى.
لذلك، فإنّ المسؤوليّة الكبرى، في أن لا تدخل سوريا إلى مرحلة فوضى جديدة، تقع على الطّرف الأقوى وعلى الأغلبية الّتي يتوجّب عليها أن تفوّت الفرصة على كلّ من يحاول أن ينتهز الوضع ليتصيّد ويزعزع الاستقرار، ومنعه من تعطيل عمليّة تحوّل سياسيّ تثبّت مرحلة الاستقرار وتنقلها إلى ازدهار البلد وتعميره. والمهمة ليست سهلة، فقد علّمتنا التّجارب البشريّة أنّ أشخاصًا وفئات مشبّعة بأطماع وغرائز السّيطرة موجودون دومًا، وقد تجد مصادر التّمويل دائمًا حاضرة. والطّرف القويّ هو من يفوّت الفرص، ليس من خلال البطش والقوّة، بل من خلال المشاركة أيضًا. فعندما تشعر كلّ الفئات والطوائف أنّها شريكة في صنع سوريا المستقبل، سيكون ذلك أهمّ خطوة نحو تحقيق النّجاح.
وعلى ضوء ما ذكرته في بداية هذه المقالة، ماذا يمكن أن نتعلّم من نظريّة الفيلسوف بريان مغي؟ وإلى ماذا يريد أن يصل من تنظيره؟ بأيِّ مفهومٍ محالٌ للثّورات العنيفة أن تحقّق مبتغاها الّذي قامت من أجله؟ وهنا الإشكاليّة الّتي لابدّ من أن نلحظها من خلال التّجارب السّابقة وعلى مرّ التّاريخ، فعندما تأتي مرحلة الاستقرار تجد الشّعوب نفسها أمام تحدّيات أخرى جديدة، لتعي بعدها أنّ الأحلام الورديّة، ما هي إلا أحلامٌ ورديّة، وأنّ الحياة البشريّة وبُنية المجتمعات تأخذ مساراتها بطرق لم تكن متوقّعة ولا يمكن التنبّؤ بمآلاتها، بغضّ النّظر عن كونها إيجابيّة أو سلبيّة، فتذكّرنا بقول الإمام عليّ كرّم الله وجهه: "عرفتُ الله بفسخ العزائم".
[email protected]
أضف تعليق