"اذا استطعت الاستقرار في الخارج، لا بأس، سأربي أولادي بشكل طبيعي، لكن إذا لم استطع واضطررت إلى العودة إلى البلاد، سأجعل من أولادي خارجين عن القانون، ففي واقعنا اليوم، يجب ان تكون خارجًا عن القانون حتى تصمد، وواضح أن الواقع سيصبح أسوأ في السنوات القادمة" – هذه كانت كلمات (أ)، وهو شخص كان ملاحقًا من قبل إحدى المنظمات الإجرامية ويحاول الآن الاستقرار مع عائلته في إحدى دول المنطقة (نفضّل عدم نشر اسمه).
قد يقول البعض أن في هذه الكلمات مبالغة، وأن الفلسطينيين في الداخل يعيشون حياة عادية، رغم ظاهرة العنف والجريمة ورغم التمييز العنصري ضدهم، وحتى قد يقول البعض أن وضعهم أفضل من معظم الفلسطينيين والعرب، هذه غالبًا يرددها بعض الإسرائيليين، وربما بعض العرب أيضًا، ولكن في الحقيقة، أنه وبجانب التمييز العنصري في الخدمات والميزانيات وفي كل تفاصيل الحياة، وبجانب أمور عديدة، مثل محاولات كم الأفواه والملاحقات على خلفية سياسية التي ازدادت مؤخرًا، فإن أعداد القتلى جراء العنف والجريمة، المستمرة بالارتفاع بوتيرة عالية، بل مخيفة، والتي وصلت إلى معدلات تنافس مناطق معروفة بالجريمة المنظمة مثل كولومبيا والمكسيك، وفق دراسة لمعهد "طاوب" نشرت قبل عام.
"هنالك حرب حقيقية، في كل البلدات العربية، بلا استثناء تقريبًا، قليلة هي البلدات التي لا تشهد أعمال اطلاق نار، وليس فيها عائلات مهددة، وخاوة واعتداءات، غالبًا ليس هنالك أي بلدة لم تعش مشهد الجريمة والعنف في السنوات الأخيرة،"، تقول راوية حندقلو، مديرة غرفة الطوارئ لمتابعة ظاهرة العنف والجريمة التابعة للجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية، وتضيف: "الأمر لا يتعلق بعدد القتلى فحسب، بل بأمور عديدة أخرى، لا تتحدث عنها وسائل الاعلام في معظم الأحيان، فهنالك عائلات كاملة هاجرت من البلاد، وهنالك عائلات غيرت أماكن سكناها، وهنالك عائلات مختبئة لا تخرج من بيوتها، ناهيك عن المصابين وعن الاعتداءات اليومية والقاء القنابل وإحراق السيارات، التي قد قدر أحيانًا دون ذكر في الإعلام".
92 قتيلًا
منذ بداية العام قُتل 92 مواطنًا عربيًا، وفي العام الماضي في مثل هذا الأيام كانت الأرقام مشابهة، وقد وصل العدد في نهاية العام إلى أكثر من 250، ولكن هذا العام هنالك ظواهر جديدة، مثل اختطاف اشخاص وقتلهم واخفاء جثثهم، ونشر قوائم لأهداف للقتل، فبعدما تكررت في العام الماضي الجرائم المزدوجة والثلاثية وحتى الخماسية، تطور عمل المنظمات الاجرامية في هذا العام بشكل أكبر، والتطور مستمر: "اليوم مثلًا لم نعد نسمع عن جريمة اعتداء بسكين، اليوم هنالك صواريخ لاو، وحتى قذائف هاون! وقنابل وطائرات مسيرة مفخخة، واليوم هنالك حالات اختطاف وقوائم اهداف للقتل، الأمور تتطور بشكل مرعب دون الشعور بوجود سلطة قانون، وغالبًا السبب هو عدم قيام سلطة القانون بدورها".
"كل شيء يحصل وكأنه مخطط له"، يقول (أ)، ويضيف: "قيادات منظمات الإجرام، يعرفون تمامًا كيف تعمل الشرطة، ويخططون وفق عملها، فتشعر أن الأمور منسقة، ولكنهم يرفعون وتيرة ممارساتهم أكثر كل مرة، بسبب عدم وجود رادع حقيقي، فبعدما كانوا يهربون بالمركبة التي يطلقون النار منها ويحرقونها في منطقة نائية لإخفاء الأدلة، الآن باتوا يفجرونها قرب موقع الجريمة، وبعدما كانوا يستهدفون الشخص المطلوب، باتوا يستسهلون استهداف عائلته، ولا أعجب أن هنالك بعض القتلة، قد قتلوا 10 أو 20 شخصًا في الأعوام الأخيرة، ولا يواجهون أي خطر بملاحقتهم، فمعظم جرائم القتل تنتهي بإغلاق الملف أو بالمماطلة الطويلة، وكل الأدلة من كاميرات مراقبة وشهود وبصمات وآثار، تذهب هباءً، ثم يأتي أحدهم ويستغرب من قراري الهجرة لحماية نفسي وعائلتي، أو يستغرب من قولي أني سادفع أولادي بعدما يكبرون لدخول عالم الاجرام اذا بقيت هنا، فليس هنالك أي أمل لتحسن الأمور، بل انها تتجه إلى الأسوأ والأخطر وسنصل إلى واقع، لن يحميك فيه إلا ذراعك".
في الأشهر الأخيرة، ارتفعت وتيرة الجرائم بشكل ملحوظ في القرى الدرزية، في يركا وفي عسفيا وفي أبو سنان وبلدات أخرى، وبينما في الواقع الدروز هم جزء من المجتمع الفلسطيني العربي، إلّا أن دولة إسرائيل، بشكل خاص الإعلام والسياسيين، يتعاملون معهم كمجتمع منفرد، وكأنهم من قومية منفصلة خصوصًا في الفترات الحساسة أمنيًا، كون الدروز يخدمون في الجيش والأجهزة الامنية، وبعض الدروز، يكررون ذلك أيضًا، ولكن في ظاهرة الاجرام المنظم، الدروز هم جزء من المجتمع العربي، كما هم جزءً منه في مخططات الهدم والتضييق على الأرض والمسكن.
قرية عسفيا، شهدت لوحدها 5 جرائم قتل خلال شهر مؤخرًا، قتيلان من بين الـ5 تم العثور على جثتيهما بعد فترة طويلة من خطفهما، وقد نظمت مؤخرًا بعض النشاطات الاحتجاجية ضد العنف والجريمة، يقول وسام غوطاني، وهو صحافي وناشط اجتماعي من عسفيا: "5 قتلى خلال شهر هذا أمر مرعب، كابوس حقيقي، وأنا خائف على بلدي، على الشباب والأولاد، وبلا شك نحن نحمل الشرطة المسؤولية، فبالإضافة إلى المسؤولية المجتمعية، هنالك مؤسسة واجبها أن تضمن أممنا وأماننا، تركت الأمور تتدهور على هنا منذ سنوات، بالتقصير في مكافحة الجريمة، فعلى سبيل المثال، في عسفيا، 5 قتلى دون أي اعتقال، فقط نسمع عبارة أن الشرطة تباشر بالتحقيق".
لا يتعلق بالثقافة
"الأمر لا يتعلق بعائلة دون غيرها أو عشيرة دون غيرها، الجريمة تضرب الجميع، كل المجتمع" يضيف غوطاني:" صحيح أن هنالك دور لمكافحة الجريمة متعلق بالثقافة والتعليم والرياضة والتشغيل والبنية التحتية، أي بعمل السلطات المحلية وبمؤسسات أخرى، لكن السلطات المحلية وهذه المؤسسات، تقوم بجزء من هذا الدور، بشكل متفاوت، لكن الحرب بين منظمات الإجرام اليوم في المجتمع العربي والفوضى القائمة، أكبر من أي شيء آخر، وتحتاج إلى الشرطة كجهاز أمني قوي ورسمي لمعالجها، بالإضافة طبعًا إلى أمور علينا كمجتمع تحسينها، مثل العمل الوحدوي والتعاون بين مؤسسات المجتمع المدني وإعادة تفعيل لجان الحصل وإعطائها التقدير والسلطة التي تخدمها في مكافحة الجرائم".
بعد السابع من أكتوبر، ومن ضمن أمور كثيرة تغيرت، وبينها ارتفاع منسوب العنصرية ضد العرب في الشارع وفي المؤسسات، وازدادت الملاحقات ومحاولات كم الأفواه، وانخفاض الاهتمام الإعلامي بما يحصل في المجتمع العربي بسبب الاهتمام بالحرب، وامور أخرى، قرر وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، تسهيل توزيع السلاح بين المواطنين اليهود "كضرورة أمنية"، تقول راوية حندقلو أن هذا أيضًا سيسهل من انتشار السلاح غير المرخص بين منظمات الجريمة: "بعد التسليح الذي جلبه بن غفير، صارت الأسلحة أكثر في الشارع، وبالتالي ووفق المعلومات التي تصلنا فإن معظم الجرائم لم تعد تنفذ بأسلحة مصنعة محليًا، بل بأسلحة عادية، بالإضافة إلى القنابل والصواريخ وما إلى ذلك، بالتالي السلاح الذي يوزع اليوم بحجة الأمان للمجتمع اليهودي، سيستخدم ضدنا كعرب، خصوصًا مع تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد والفوضى القائمة بسبب الحرب، سيسهل على منظمات الجريمة شراء الأسلحة.
على عكس وزير الأمن الداخلي السابق، عومر بارليف ونائبه يوآف سيغالوفيتش، اللذان كانا متعاونان مع أعضاء الكنيست العرب ورؤساء السلطات المحلية، فإن التعاون مع وزير الأمن القومي الحالي، إيتمار بن غفير، شبه معدوم، تقول راوية حندقلو: "عملنا كمقر لمكافحة الجريمة نقوم به مع عدة وزارات، وليس وزارة الأمن القومي فحسب، علمًا بأننا على تواصل مع موظفين ومسؤولين مهنيين فيها كونها الوزارة المركزية في هذا المضمار، مع أن وزيرها للأسف إما أن يحرض على المجتمع العربي أو يستخدم الجريمة المنظمة كذريعة لمهاجمته وملاحقته وحتى الخطط الحكومية التي كانت، أفرغها من مضمونها، ولكن وكون عملنا مركز على طرح الحلول ووضع الخطط والعمل على تنفيذها فإن لدبنا طاولة مستديرة لمؤسسات المجتمع المدني مع مندوبين عن عدة وزارات، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تعمل مع السلطات المحلية، وبالتعاون مع الوزارات والمؤسسات المختصة لتحسين الاستجابات في السلطات المحلية في كل ما يتعلق بالجريمة، بالعائلات المتضررة أو المهددة، بالإضافة إلى مسار آخر مع السلطات المحلية يتعلق بالتنظيم، فجزء من مكافحة ظاهرة الإجرام والظواهر الأخرى هو أن نتعامل كمجتمع منظم، وهذا يساعدنا في الضغط على الشرطة والمؤسسات، وعلى معالجة القضايا بشكل مهني، وكل هذا بجانب مسار التواصل مع الإعلام لإبقاء قضية العنف والجريمة في العناوين".
نجتمع مع الشرطة
"نجتمع مع الشرطة ونحاول ترتيب الأمور وتنسيق المسائل معهم" تقول حندقلو: "رغم معرفتها بتقصير الشرطة إلا أننا لا نستطيع إلا أن نتعاون معها، موقفنا معها مركب، هنالك عدم ثقة ولكنها المسؤولة عن أمننا وأماننا، ونسعى لتغيير الواقع عبر طرح الخطط المهنية واستمرار الضغط طوال الوقت، لكننا نعرف أن الشرطة تتحرك وفق سياسات عليا، والسياسات تسنها الحكومة، مثل قانون مكافحة الإرهاب لمحاربة الجريمة التي مُنحت الصلاحيات لبن غفير فيه مؤخرًا، تخيلوا لو أن هذا القانون كان موجودًا قبل 7.10، ربما كان الوزير سيعلن عن كل المجتمع العربي كإرهابي، وهو الذي يستخدم موضوع العنف والجريمة لخدمة مخططاته السياسية".
وبينما ختمت حندقلو أقوالها بوصف صعب للواقع في المجتمع العربي: "كونك مواطن عربي في بلدة عربية، في كثير من الأحيان لديك ضريبتين، الأولى للدولة، والأخرى للخاوة، وهذا يلخص شيء كبير من واقعنا"، قرر وسام غوطاني توجيه رسالة إلى الشباب المنخرطين في عالم الإجرام:" ألا تخافون على أنفسكم؟ حسنًا، خافوا على قلوب أهاليكم، إن ما شهدته مؤخرًا من ألم للعائلات الثاكلة، أصعب من أن يصفه المرء حتى، أنا فقدت والدي قبل فترة قصيرة، بسبب مرض وإدارة الرب، لكن أن يفقد الشبان حياتهم بهذه السهولة، هذا أمر يغضب الرب، صحيح أن الموت هو قدر مقدّر من الله، لكن القتل بهذه الطريقة، هو حتمًا يغضب الرب".
[email protected]
أضف تعليق