منذ بداية الحرب في 7 أكتوبر 2023 وحتى هذه اللحظة تُزهق أرواح لم تحصى بعد. أعلنت وزارة الصحة في غزة مع دخول الشهر الخامس للحرب إن عدد الضحايا تخطى الـ 30000، كما أسفرت الحرب عن اصابة أكثر من 70000 انسان. وفي السياق نفسه، أعلنت اليونيسف (منظمة الأمم المتحدة للطفولة) أن قطاع غزة أصبح أخطر مكان في العالم على الأطفال، الذين يعانون من مستويات كارثية من الجوع ونقص الاحتياجات الإنسانية. كيف لا، وقد أصبحت غزة كاملة تعاني فجيعة الفقدان والثكل حيث باتت خسائر الأرواح أمر بديهي.
شاركتني و.ع. أخصائية اجتماعية في مركز حياة لقضايا النساء، التي أكملت عقدها الخامس من العمر، عزباء تعيش مع عائلتها في مخيم البريج، وكانت شاهدة على الحرب في المنطقة الوسطى من قطاع غزة، وأفرغت مكنونات صدرها المشتعل أسىً وألماً وحزناً قائلة: "سرقوا منا أحلامنا وحياتنا وأهلنا. تاني يوم الحرب كنا في بيتنا المكون من 4 طوابق، يشمل عائلة موسعة كل أخ مع زوجته وأبناؤه في طابق. بلّش الضرب المسا، فتجمعنا كلنا في شقة واحدة سوا. تاني يوم كنا نايمين عالساعة 2 بالليل قصفوا بحزام ناري 7 بيوت ما يعادل 100 شخص بدون تحذير، والبيت نزل علينا، الي قدر هرب بدون ما يوخذ معو اشي، لكن فقدنا القسم الأكبر، الي الكبر غلبوا واللي ما لحق يطلع من البيت، وبعد هيك بأسبوعين طلعوهن أشلاء من تحت الهدم".
طرحت و.ع. قضية قصف بيوت وأحياء ما هي سوى أهداف مدنية لم يَنُبها سوى خسائر أبرياء. راح ضحية القصف 63 شخصاً من عائلتها على مدار فترة الحرب. قالت: "فقدت أهلي، واختي وأخي الاثنين وعائلاتهم كلها زوجاتهم وأولادهم واحفادهم، وأولاد عمامي وعمتي، ولاد خالي وخالاتي". تصف و.ع. أحد أكثر المشاهد إيلاماً: "حملت 2 بنات أخوي الي مات وصرت أجري في الشوارع، باتجاه بيت أختي بمنطقة امنة، بالعادة المسافة 10 دقائق مشي لكني حسّيتها وكأنها 10سنين من الخوف والرعب".
باتت كل لحظة تعيشها نساء غزة مجرد ترقب لأهوال وجروح أبدية لا تزول، فلم تبقي الحرب طعما للحياة بل خطفت منهن الحياة، واجتاحت بيوتاً كانت لهن يوماً مصدر الأمان. تقول و.ع.: "كمية الناس اللي فقدتهم كبير، القصف مخلاش حدا، في غزة ما كان في وقت للحزن والالم، كانوا ذابحينا قصف، وندوّر عالأكل، لدرجة صرنا نازحين عايشين حياة تشرد بوطننا، بطّلنا نلاقي الأكل إلنا ولا حليب الأطفال، وكأنه خلص من الوجود، يعني إذا ما متنا من الحرب بنموت من الجوع". وأضافت: "لحد الآن مخي مشلول واقف على يوم 7.10 بحلم إنو إذا رجعت ع بيتي رح ألاقيهن كلهن، مش قادرة أصدق هذا الكابوس اللي صار، ما بدي أسلّم بالواقع إني فقدت اهلي الي فعلياً هم حياتي كلها".
معاناة العيش في غزة صارت رمزاً للخوف والقهر، وعيوناً ينهمر دمعها يبكي المفقودين جمراً حارقاً لن يجف يوماً، بعدما رأت حجم الدمار الذي حلَّ بعائلاتها المنكوبة، تعاني ألماً لا يُوصف، فكانت وجهة النزوح إلى رفح. تحكي (و.ع) بعدما أفقدتها الحرب عائلتها ومنزلها ووطنها: "النزوح يعني تتفكك احلامك وتصير خيال"، وما بين كوابيس الحقيقة رأت (و.ع) كيف دبَّ الخوف والرعب في عيون كل من حولها من كهول وأطفال، ورجال ونساء، جراء ما ألحقته الحرب من دمار ومجاعة. وتابعت (و.ع) :"الحرب بشعة كثير، كان الموت يلاحقنا بكل مكان ويعيش داخلنا حتى مع اللجوء لرفح"، حتى أصبح لا بد من مواجهة الحقيقة بضرورة لجوئها إلى مصر. فكانت مصر للنزوح أماناً ومأوى، فلم يعُد من الفرار خيارُ ولم يعد لروح الفاقد أغلى من الذكرى. فتقول و.ع. والبكاء يخنق صوتها المرتعد وتكمل حديثها لتقول: "حتى بعد أن لجأت إلى مصر مع أخوي عن طريق عمله كمدير بنك وهذا بحد ذاته استثناء. لم تعد هناك مكالمات عادية تهدف إلى الاطمئنان أو السؤال عن الحال، بل أصبح وراء كل مكالمة خبر مفجع ومصيبة وفقدان عزيز آخر، فنبادر راساً في أسئلة عارمة تملأ أذهاننا "بعدهم عايشين؟ مين ضل عايش؟".
وعن معنى اللجوء كشفت (و.ع) تفاصيل دقيقة لمعاناة اللاجئ من مشاق هائلة في التعاطي مع الذاكرة الأليمة التي تلازمه، ومعاناته جراء وضعه الراهن. حيث قالت: "لا يكفي طلب الإغاثة سبباً للدخول إلى أرض امنه، قدمت لأخوي طلب بكشف التنسيقات بالسفارة وما وافقو، لازم ندفع مبلغ 9000$ وما معنا إياه، وبصيرو يقولو ما بنقدر نستوعب أعداد أكثر". كمن يُمنع من ركوب قارب النجاة بحجة عدم إتساعه للمزيد!! تروي (و.ع): "في مصر بتصير مجرد رقم لاجئ منبوذ في وطن غير وطنك، غريب ما لك حدا ولا حياة". كم معاناة إنسانيته المُحمّلة بالقهر والمآسي التي يعيشها اللاجئ حين يجد الإنسان نفسهُ يسكن مدينة غير مدينته، وخيمةً غير منزله، وتحيطه شوارع لا يعلم إلى أين تؤدي فيدرك حينها أنهُ بات لاجئاً. فبحكم الواقع المرير الذي لا يُبدي تعاطفاً مع اللاجئ ويرغمه العيش ضمن حدود عازلة ويحول دون اندماجه اجتماعياً، تعلو الضرورة لدى المؤسسات الفاعلة في قضايا اللجوء لعدم إهمال اللاجئ من قِبل المجتمعات المضيفة ليتمكن من العيش بنمط حياة يسد احتياجاته النفسية قبل المادية. فيتوجب النظر بتعميق العلاقات واستعادة حياة اللاجئ من جديد، فيعيش حاضره القلق باحثاً عن الأمان.
قصة (و.ع) تنطق بحكاية شعب بأكمله يعيش حالة من الصدمة المستدامة لضحايا لجوء لم يشفع لهم أن تركوا بيوتهم لينجوا، كما قالت "نزوحنا كأنه موتنا لما طلعنا من بيوتنا حتى لو كانت كوم تراب". فكل تلك الأحداث في غزة هي مجرد حقبة زمنية مُروعة أُخرى على وطن اشتدت عليهِ أيامهُ حتى صار اللجوء مصطلحاً عابراً، على الرغم من الإجماع الدولي أن المأساة والمعاناة جليّة لهذا المجتمع المنكوب، الذي أغرقتهُ نزاعات الحروب. فقد انشغل الرأي العام وحكومات عدة بمختلف التسميات والمفاهيم الأيديولوجية عن واقع مرير لمجتمع مهجّر، مُرحّل، لاجئ، نازح، ونفت حقهُ الإنساني في حملات إغاثة تمكنه العيش، فلا أطعموهم من جوعٍ ولا آمنوهم من خوف! ونسي العالم تبني هذا التهجير ذو التسميات باختلافها، في رفح جنوب غزة ومصر أرض الخلاص!
حين تخونني التعابير لوصف حقيقة فظة، لا أجد من الكلمات ما يُسعفني للحديث عن هذه التجربة القاسية وما كنت لأُحسن قصها إلا بكلمات (و.ع) "ما في مكان بالأرض بقدر يحسس قلبي الأمان الي غرسه بيتي في نفسي مع عيلتي". تقول و .ع: "إحنا عيلة بنحب الحياة، وبيوتنا الآمنة، بحلم أرجع لحضن عيلتي وبيتي الي في حب ودفا". حظيت هذه الانسانة بتجربة واقعٍ مرير في ظل إنسانيةٍ بغضاء، وقد أنهكها الفقدان. والمفارقة التي تطرحها و.ع. أن الموت يصيبك في كلا الحالتين، فموت الجسد وموت الروح هو ذاته لكن التسميات تختلف. فلا استمرارية لمن بقوا على قيد الحياة فاقدين.
المقالات المنشور تأتي كجزء من مشروع الصحافة الجندرية، المدار من قبل إعلام وبولتكلي كوريت، بدعم من السفارة البريطانية، المقالات تعبر عن موقف اصحابها وليس بالضرورة آراء الجهات الداعمة والمبادرة للمشروع.
[email protected]
أضف تعليق