لطالما كانت المحاكم في إسرائيل، ورغم ميولها شبه الدائم للمؤسسة فيما يتعلق بالفلسطينيين، حتى في قضايا الأرض والمسكن والقضايا الوجودية للفلسطينيين في الداخل، لكنها لطالما كانت واحد من الأماكن القليلة التي شعر المواطن العربي أنه متساو ومواطن عادي ولديه حقوق طبيعية وينصفه القانون أحيانًا، وقد تعامل بعض المحامون براحة تامة مع جهاز القضاء ودافعوا دائمًا عنه بأنه المكان الوحيد الذي لا يشعرون به بالعنصرية، خصوصًا في القضايا المدنية، مثل قضايا السير والقضايا الجنائية والاقتصادية. ثم جاءت أحداث السابع من أكتوبر، وتغيرت الأمور في المحاكم، كما تغيرت في كل الأماكن تقريبًا.
بخط اليد 7.10.2023
على ملف لائحة الاتهام في قضية تشغيل عامل فلسطيني بمحل تجاري، كتبت ممثلة النيابة العامة بخط يدها "7.10.2023"، تفاجأ المحامي وسألها عن ذلك وأن الحديث يدور عن قضية اقتصادية فما علاقة هذا الأمر، وانتقدت القاضية الأمر أيضًا، لكن ممثلة النيابة أصرت أن كل ما يحصل اليوم متعلق بهذه الأحداث، إصرار النيابة في الملف وتعنتها على موقفها، أكد ذلك فعلًا. وهذا لا إلا نموذجًا من عدة نماذج أخرى.
"التعامل مع قضايا العمال الذين يتواجدون في إسرائيل بدون تصريح، يعكس كل التغيير الحاصل بسياسة المحاكم، فبينما كان العامل الذي لا يحمل تصريحًا ويقبض عليه قبل 7.10، ينقل إلى أقرب حاجز حدود مع الضفة الغربية، في حال كان ماضيه الأمني نظيف واذا كانت هذه المرة الأولى التي يقبض عليه فيها أو حتى الثانية" تقول المحامية عبير بكر، وتضيف: "بعد 7.10، حتى العمال الذين يتواجدون مع بتصريح، يتم سجنهم ومحاكمتهم، بحجة أنهم لم يعودوا عندما بدأت الحرب، يعني عمال بسطاء يتم سجنهم من شهرين حتى 7 دون ذنب".
القضايا الأمنية
واذا كان الأمر بهذا السوء في قضايا العمال الفلسطينيين، فمن الطبيعي أن الأوضاع في القضايا الأمنية أسوأ بكثير "لم تعد هنالك فرص للوصول إلى اتفاقات في المحكمة في القضايا الأمنية للفلسطينيين، الدولة لا تريد انتهاء أي ملف قبل المحاكمة، والحكام يتنافسون فيما بينهم على شدة الأحكام" يقول المحامي خالد محاجنة المختص بالقضايا الأمنية والذي يمثل عدد من الأسرى الفلسطينيين :"كل لوائح الاتهام اليوم يتم ربطها بالحرب وبالسابع من أكتوبر حتى لو كانت لا تتعلق بها، وأنا هنا أتحدث عن قضايا أمنية عادية وليس عن مقاتلي النخبة من حماس المعتقلين، فهؤلاء لا يوجد محامين لهم حتى الآن وباعتقادي هنالك مشكلة أن يمثلهم أي محامي، المحامون العرب لا يجرؤون والمحامون اليهود لا يريدون، قد يتم استئجار محام أجنبي، كما حصل في محكمة آيخمان".
"كان لي حديث طوال الوقت مع محامين حول واقع القضاء بعد السابع من أكتوبر، والجميع يتحدثون عن تغيير كبير، حتى المحامي العربي الذي كان يشعر انه مندمج في كل الجهاز القضائي وعلاقاته بالجهاز والمحامين والنيابة قوية جدًا، حتى هؤلاء يتحدثون عن ادواء متوترة، بعد رغبة الطرف الآخر بالحديث وبنظرة استعلائية وعنصرية، من قبل أطراف عديدة، في كل المستويات، من المحامين اليهود إلى السكرتيرات في المحاكم إلى مندوبي النيابة، وحتى في القضايا التي ليست ذات طابع أمني أو سياسي، في قضايا الأضرار والسير وغيرها" يقول د. يوسف جبارين، عضو الكنيست السابق والمحاضر في الحقوق، ويضيف: "محامون يمثلون شركات إسرائيل، شركات تأمين وغيرها ولديهم علاقات يومية مع محامين يهود يتحدثون عن أجواء متوترة وحديث استعلائي لا يفتح حتى المجال لحوار، بمعنى أو محاولة فرض رأي وموقف أو لا شيء، والشعور لدى المحامي العربي بأن ليس لديه مع من يتحدث، ليس لديه مجال لأن يطرح موقفًا، وهذا أمر غير معتاد، خصوصًا بين جمهور المحامين".
"معظم المحاكم في الفترة الأولى ما بعد الحرب كانت جنائية أو قضايا تعبير عن الرأي، على الأقل التي شاركت بها، وتعامل مندوبي النيابة وبعض القضاة والأجواء بشكل عام كانت تعكس الأجواء في الشارع الإسرائيلي" تقول المحامي عبير بكر، وتضيف: "وأكثر من ذلك، هنالك شعور بأجواء عسكرية، تشعر وكأنهم يريدون أن يظهروا لنا بأنهم في حالة حرب، في إحدى القضايا نصحني أحد المحامين بشكل واضح، وخلال نقاش مع ممثلي الشرطة، ألا أجادل، لأنه قد يصل الأمر بهم إلى التعرض إلي كمحامية حتى، وأن يفهم أي جدال كأنه مخالفة أمنية".
أما بالنسبة للقضاة، الامر ليس أفضل بكثير، يقول د. يوسف جبارين: "بشكل عام في بداية هذه الاحداث كثير من المحامين والحقوقيين اعتقدنا انه القضاة هم الملاذ الأخير، ولكن سرعان ما تبين انه الجهاز القضائي تأثر بالاجواء العامة، تصل إلى القاضي، في قضية تعرف أنها فارغة، فتجده يمدد الاعتقال بحجة المواد السرية التي وصلت، ولا أذكر في تاريخ القضاء حالات كثيرة من تمديد الاعتقال بهذا الشكل على أساس حرية التعبير، ولا حتى في الحروب السابقة، نحن نتحدث عن ملفات حرية تعبير، لا ملفات عنف ولا اعتداء، ملفات مقابل هتافات أو منشور في فيسبوك، يعني مع اغلاق حساب الفيسبوك أو مع انتهاء المظاهرة، ليس هنالك أي داع لتمديد اعتقال المشتبه حتى الانتهاء من الإجراءات القانونية، لكنهم يقومون بذلك، ونتحدث عن هتافات كانت حتى قبل السابع من أكتوبر تردد في كل المظاهرات ولا تؤدي إلى شيء، كالتي اعتقل بسببها شابين من أم الفحم وقد قدمت ضدهم لوائح اتهام خطيرة، هتافات عادية تصبح بنظر النيابة تحريضية وداعمة للارهاب، والقاضي بدوره يتماشى معهم، فجأة غيروا المعايير مما شكل مفاجأة حتى للمحامين والعامين في المجال الحقوقي".
"في بعض القضايا كانت هنالك ادعاءات قانونية جدية تكشف ضعف موقف الشرطة، في السابق كان القضاة يتعاملون مع هذه الادعاءات بجدية، اليوم لا يفعلون ذلك، وغالبية الاعتقالات تأتي تحت بند قانون مكافحة الإرهاب، الذي سن عام 2016، وأذكر أنني كنت بالكنيست وقتها وهذا القانون لا له بكل هذه الاعتقالات، وكان الهدف منه التعامل مع قضايا عنف ومنظمات ونشاط غير قانوني، بمعنى مستوى اكبر من مجرد ستوري ومشاركة، ولكن تم استغلال القانون لتبرير الاعتقالات".
المحكمة العليا
جبارين وجه انتقادات شديدة للمحكمة العليا أيضًا: "حتى المحكمة العليا التي كانت تمثل الملاذ الأخير لحماية الديمقراطية، تساوقت مع طروحات الشرطة غير المقنعة ومنعت المواطنين العرب من الحق بالتظاهر، حتى مظاهرة لقيادة المجتمع العربي، وقد تساوقت المحكمة مع الادعاءات رغم أنها غير مقنعة، ادعت الشرطة عدم توفر القوات الكافية لتأمين مظاهرة يشارك فيها 50 شخصًا، التي تحتاج في أسوأ الحالات إلى 20 شرطيًا، ولكنها جلبت أكثر من 100 شرطي لقمع المظاهرة التي كانت ستجرى دون ترخيص، علمًا بأن مظاهرة لأقل من 50 شخصًا لا تحتاج ترخيصًا، لكن الشرطة لم تكتف بإرسال قواتها، بل أوقفت رئيس لجنة المتابعة في وسط الشارع واعتقلته مع عدد من القيادات وقتها، يمنعون العرب من التظاهر حتى مظاهرات بمشاركة قليلة للمطالبة بوقف الحرب، في الناصرة وغيرها من البلدات العربية، ويسمحون بمظاهرات شبيهة في تل أبيب، ويسمحون للعشرات بالتظاهر في العفولة أمام منزل الفنانة دلال أبو آمنة ومضايقتها، ويسمحون بمظاهرات شبيهة، نحن أمام حالة ابرتهايد قضائي برعاية المحكمة العليا في كبت الحريات الأساسية، حرية التعبير عن الرأي".
"ثقة المواطنين الفلسطينيين في دولة إسرائيل بالجهاز القضائي لم تكن كبيرة في السنوات الماضية، وتصرف المحاكم في الفترة الأخيرة أدى إلى انعدام هذه الثقة بشكل تام، خصوصًا مع هذا التراجع الواضح في المعايير التي يتم الحديث عنها من سنوات حول حرية التعبير" ينهي د. يوسف جبارين حديثه.
[email protected]
أضف تعليق