في يوم السبت الموافق 2.12.23 قصفت إسرائيل في حي الشجاعية في مدينة غزة. حسب ادعاء الناطق الرسمي بلسان الجيش الإسرائيلي، كان الهدف من هذا القصف قتل وسام فرحات الذي وُصف بأنه "قائد كتيبة الشجاعية في حماس" و"قاد الكتيبة إبان عملية الجرف الصامد"، شارك في تخطيط عمليات و"ساهم في تخطيط الهجوم الوحشي على الأراضي الإسرائيلية في 7 تشرين الأول وأرسل مسلحي النخبة في ذلك اليوم نحو كيبوتس وموقع ناحل عوز العسكري".
وفقاً لتقارير أولية، فقد أسفر الهجوم عن تدمير عشرات المباني السكنية وقتل العشرات. ولا يزال المئات مدفونين تحت الأنقاض. بالنظر إلى هذه النتائج، لا يبقى أي شك بشأن عدم قانونية هذا الهجوم: على أي هجوم ـ حتى لو كان لتحقيق هدف عسكري شرعي ـ أن يحقق مبدأ التناسبية، الذي يقضي بوجوب الامتناع عن تنفيذ الهجوم إذا كانت المعلومات المتوفرة تدل على أن الضرر الذي سيلحق بالمواطنين المدنيين من جراء الهجوم سيكون مبالغاً فيه مقارنة بالفائدة العسكرية المتوقع تحقيقها. أي تفسير يقول بأنه من الممكن اعتبار نتائج هذا الهجوم تناسبية من شأنه أن يُفرغ هذه القاعدة من أي مضمون.
ثمة ادعاءان مركزيان تستخدمهما إسرائيل لتبرير المس الواسع جداً والإجرامي بالمدنيين نتيجةً لهذه السياسة، وكلاهما لا أساس لهما من الصحة ولا يمتّان بصلة إلى أحكام القانون الإنساني الدولي وإلى غاياته:
الادعاء الأول هو أن إسرائيل تبذل كل ما في وسعها لتجنب المس بالمدنيين، لكن حماس تختبئ خلف المواطنين وتستخدمهم دروعاً بشرية، ولذلك فإن أي مسّ إسرائيلي بحماس يستتبع بالضرورة ـ وليس بذنْب إسرائيل ـ مساً بالمواطنين. إلا أن معنى هذا الادعاء هو أن إسرائيل لا تخضع لأية تقييدات وأن أية عملية تقوم بها، مهما كانت نتائجها مرعبة، تُعتب شرعية. صحيح أن حماس تنتهك أحكام القانون الإنساني الدولي، وخاصة واجب التمييز بين الأهداف المدنية والأهداف العسكرية، من خلال إطلاقها الصواريخ من بين السكان المدنيين نحو المدنيين الإسرائيليين ومن حيث أن مسلحيها يخبئون الأسلحة في منازل السكان المدنيين ويحفرون الأنفاق تحتهم. إلا أن هذا السلوك لا يعفي إسرائيل من واجبها بشأن العمل بموجب هذه الأحكام. التفسير الإسرائيلي يلغي تماماً القاعدة التي تنص على أن حقيقة انتهاك أحد الأطراف هذه الأحكام لا تعفي الطرف الآخر من واجبه في تطبيقها والالتزام بها.
الادعاء الثاني الذي تستخدمه إسرائيل هو أنها تُبلغ كل المدنيين في الأماكن التي تقوم بقصفها بضرورة مغادرة منازلهم والتوجه إلى المناطق التي تعتبرها "مناطق آمنة". في قولها هذا تلمح إسرائيل إلى أنه من جهتها لم يتبق مواطنون مدنيون في هذه الأماكن ولذا فإن بإمكانها العمل هناك دونما حاجة إلى التحذير من مغبة المس بالمدنيين. هذا الادعاء مقطوع عن الواقع. أولاً، هذا الادعاء يتجاهل حقيقة أن مواطنين كثيرين قد ظلوا في منازلهم ـ بعضهم لأنه لا يستطيع الوصول إلى جنوب القطاع لأسباب مختلفة وبعضهم الآخر لأنه اختار عدم المغادرة إلى الجنوب. الافتراض بأن المنطقة أصبحت خالية من المدنيين هو، إذاً، افتراض مغلوط واقعياً. ثانياً، حتى لو كان المواطنون قد غادروا فليس معنى هذا أنه بالإمكان قصف المنطقة بصورة شاملة وبدون تحييد منازلهم، التي هي أهداف مدنية، طالما لن يُثبت خلاف ذلك.
منذ بداية الحرب، كان رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو قد أوضح أن إسرائيل سوف تنتقم بشدة، كما سارع الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي إلى التوضيح بأنه في هذه الحرب "سيكون التركيز على كمية الضرر وليس على الدقة". تبدو هذه التصريحات بوضوح تام في سياسة القصف التي تطبقها إسرائيل في القطاع منذ بداية الحرب. هذه السياسة، التي ألقيت في إطارها مئات الأطنان من المتفجرات على قطاع غزة، أسفرت حتى الآن عن قتل مرعب لأكثر من 15,000 إنسان، من بينهم أكثر من 6,000 من الأطفال والأولاد والفتيان ونحو 4,000 من النساء. أحياء سكنية بأكملها انهارت، من بينها أبراج سكنية، والعديد من الشوارع أصبحت خرائب. كما لا يزال كثيرون مدفونين تحت الأنقاض ولا يزال مصيرهم غير معروف. نحو 1,8 مليون إنسان هُجّروا من منازلهم حتى الان وهم محشورون في ظروف غير إنسانية، بدون مياه ولا غذاء ولا أدوية.
المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، كريم خان، الذي زار إسرائيل والضفة الغربية في الأيام الأخيرة، أوضح بصورة جلية أن إسرائيل مُلزَمة بالتصرف وفقاُ للقواعد والأحكام التي تسري دائماً على النزاعات المسلحة. وأشار إلى أن القتال في المناطق المأهولة بالسكان بكثافة عالية، والتي زُعم بأن مسلحين يختبئون فيها بصورة غير قانونية بين سكان مدنيين، هو أمر معقد ومركّب في جوهره حقاً، لكن ليس ثمة في هذا ما يبرر تجاهل أحكام القانون الإنساني الدولي. وشدد خان على أن إسرائيل ملزمة بالعمل بموجب المبادئ القانونية الواضحة بشأن التمييز، اتخاذ وسائل الحذر والتناسبية، وذلك "لكي تكون الحماية القانونية ذات معنى وفاعلية تجاه أولئك المحتاجين إليها". وأضاف إنه يجب الانصياع ليس للنص الحرفي للقانون فحسب، وإنما لروحه أيضاً: "القانون الإنساني الدولي والمواد في ميثاق روما ترمي إلى حماية الضعفاء، بل الأضعف".
في المقابل، تصر إسرائيل على التشبث بنص القانون فحسب، فتفسره بصورة منزوعة تماماً عن سياقه وأهدافه: فهي تدّعي بأنها تقوم بتحذير السكان المدنيين قبل القصف، لكنها تتجاهل واقع أن ليست لديهم أية إمكانية حقيقية لحماية أنفسهم؛ وهي تدّعي بأنّها تهاجم أهدافاً عسكرية فقط، لكنها تتجاهل قصفها آلاف منازل السكان المدنيين منذ بدء الحرب؛ وهي تدّعي بأنه تطبق مبدأ التناسبية، لكن التفسير الذي تعطيه هي لهذا المبدأ بعيد عن أي تفسير منطقي ومعقول وإن ما تصفه هي بـ "الضرر الجانبي" قد تجسد حتى الآن بآلاف القتلى من الأطفال.
منذ انتهاء وقف إطلاق النار، تهدد إسرائيل بتصعيد وتيرة وشدة القتال في جنوب القطاع. وتدّعي بأن استمرار القتال ضروري لتتمكن من حماية مواطنيها. لا خلاف على أن من واجب إسرائيل توفير مثل هذه الحماية، طالما واصلت حماس إطلاق الصواريخ نحو إسرائيل وبقي قادتها يتعهدون بأن 7.10.23 "لم يكن سوى ترويجة". لكنّ إسرائيل تستند إلى هذا الادعاء لكي تبرر سياسة القصف الإجرامية التي تطبقها في القطاع، والتي تمس أساساً بالسكان المدنيين.
في هذه الأثناء، أصبح يتزاحم في جنوب قطاع غزة أكثر من مليونيّ إنسان ليس لديهم أي مكان آخر يتوجهون إليه. الاستمرار في تطبيق سياسة القصف هذه قد يؤدي، على نحو شبه مؤكد، إلى قتل آلاف أخرى من المدنيين. في مثل هذه الظروف، من الواضح أن على إسرائيل التوقف فوراً عن تطبيق هذه السياسة التي تؤدي إلى زرع المزيد والمزيد من الموت، إلى المزيد والمزيد من الفظائع وإلى تعميق الكارثة الإنسانية في القطاع.
[email protected]
أضف تعليق