مع بدء الحرب أغلقت إسرائيل على الفور قطاع غزّة من جميع جهاته وسجنت داخلَه 2.2 مليون إنسان هُم مجموع سكّان القطاع بحيث عزلتهم عن العالم. ومنذ ذلك الحين فاقت الظروف المعيشيّة هناك حدود الاحتمال، والأزمة أو الكارثة الإنسانيّة تتفاقم يوماً بعد يوم. الكهرباء في القطاع مقطوعة بعد أن أوقفت إسرائيل إمدادات الكهرباء ومنعت إدخال الوقود علماً أنّه يلزم لتشغيل محطّة التوليد المحلّية هناك. نقص الوقود أدّى كذلك إلى نقص حادّ في المياه لأنّ مضخّات المياه ومحطّات التحلية أصبحت شِبْه معطّلة.
وفقًا لمعطيات وكالة الأمم المتحدة لتنسيق الأنشطة الإنسانيّة (أوتشا) نحو 1.5 مليون إنسان اقتُلعوا من منازلهم منذ بدء الحرب، وأنّ نصف هؤلاء يمكثون في مرافق تابعة لوكالة الغوث. هذه المرافق باتت مكتظّة جدّا إذ بلغت أعداد الملتجئين إليها أضعاف أضعاف سِعَتها، وهؤلاء جميعاً يعيشون في ظروف لا تُطاق. بالمعدّل، يتوفّر مرحاض واحد فقط لخدمة 160 شخصاً وحمّام واحد لخدمة 700 شخص. هذه الظروف تزيد من خطر انتقال العدوى وتفشّي الأوبئة. وبالفعل، التقارير الواردة تُبلغ عن آلاف من حالات الإصابة بأمراض مُعدية. يلتجئ نحو160,000 شخص في مرافق وكالة الغوث في شمال القطاع لكنّ الوكالة عاجزة عن تقديم الخدمات لهم ولا تتوفّر معلومات عن أحوالهم هناك.
نقص الكهرباء والوقود يؤثّر أيضاً على المستشفيات فهي تعتمد على المولّدات، لكنّ الوقود اللّازم لتشغيلها ينفد شيئاً فشيئاً. معطيات وكالة الأمم المتحدة لتنسيق الأنشطة الإنسانيّة (أوتشا) تفيد بأنّه منذ بدء الحرب توقّف عن العمل 14 من المستشفيات الـ 35 في القطاع، وكذلك 46 من أصل 72 عيادة للإسعاف الأوليّ. أمّا عن المستشفيات التي ما زالت تعمل فهي مُنهارة تحت وطأة آلاف الجرحى ضحايا القصف الإسرائيليّ. إنّها تجابه نقصاً حادّاً في الأدوية - بما في ذلك موادّ التخدير والمعدّات الطبيّة والطواقم العاملة. ويفيد الأطبّاء أنّهم يضطرّون إلى فرز المُصابين ليقرّروا أيّ المصابين يتلقّى العلاج ويخضع للعمليّات الجراحيّة في ظروف مستحيلة. وفي واقع نقص المياه وموادّ التنظيف والمعدّات الطبيّة يستحيل الحفاظ على بيئة معقّمة ويزيد خطر انتقال العدوى بين المرضى والجرحى وأفراد الطواقم الطبيّة.
يعاني قطاع غزّة من نقص في الغذاء أيضاً. مخابز قليلة تواصل العمل والطوابير أمامها تمتدّ بحيث يضطرّ السكّان إلى الانتظار ساعات لأجل شراء الخبز، حتى بات الكثيرون يتخلّون عن ذلك مسبقاً. وكالة الأمم المتحدة لتنسيق الأنشطة الإنسانيّة (أوتشا) تفيد بأنّ المنتجات الأساسيّة على وشك النفاد من الأسواق، وحتى لو توفّر بعضها في القطاع فإنّ القصف ونقص الوقود يمنعان توصيلها إلى الحوانيت.
بعد انقضاء أسبوعين على بدء الحرب وعقب ضغوط شديدة مورست عليها وافقت إسرائيل على السّماح بإدخال مواد الإغاثة الإنسانيّة عبر معبر رفح. في 21.10.23 دخلت أوائل الشاحنات المحمّلة بالغذاء والماء والموادّ الطبيّة. وتفيد (أوتشا) بأنّ 756 شاحنة قد دخلت إلى القطاع حتى تاريخ 8.11.23. لكنّ هذا العدد يُعادل قطرة ماء في محيط وهو بعيد كلّ البُعد عن تلبية احتياجات السكّان هناك.
قبل أن تبدأ الحرب كان معدّل الشاحنات الدّاخلة إلى القطاع 500 شاحنة يوميّاً. إضافة إلى ذلك، كميّات المياه التي تنقلها الشاحنات تكفي لتلبية 4% فقط من احتياجات السكّان اليوميّة، بحساب 3 لتر يوميّاً للفرد الواحد يُفترض أن تكفيه للشرب والطبخ والنظافة الصحيّة. الجدير بالذكر أنّ الحدّ الأدنى الذي توصي به منظمة الصحّة العالميّة هو 100 لتر يوميّاً للفرد الواحد. وتفيد (أوتشا) أنّ الإغاثة تكاد لا تصل إلى شمال القطاع وأنّها تُنقل أساساً إلى النازحين في جنوب القطاع.
رغم الوضع الحرج في قطاع غزّة فإنّ سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة، جلعاد أردان، قد أنكر بالمُطلق وجود أزمة إنسانيّة في القطاع. هذا الادّعاء ينافي الواقع، ليس فقط إزاء المعطيات الخطيرة بخصوص الوضع الحاليّ، وإنّما أيضاً إزاء حقيقة أنّ القطاع ومنذ ما قبل الحرب يعاني منذ سنين أزمة إنسانيّة مستمرة من "صُنع إسرائيل". بعد استيلاء حماس على الحُكم في قطاع غزّة، في العام 2007، فرضت إسرائيل حصاراً على القطاع وخلال وقت قصير انهار الاقتصاد هناك: منذ ما قبل الحرب، يعتمد 80% من سكّان القطاع في معيشتهم على الإغاثة ومعظمهم لا يمكنه الحصول على مياه صالحة للشرب فضلاً عن أنّ الكهرباء لا تصلهم سوى ساعات قليلة في اليوم وأنّ معدّلات البطالة قد "طاولت السّحاب" إذ قاربت 45% بالمعدّل العامّ وبلغت أكثر من 60% في أوساط الشباب ممّن هُم تحت سنّ 29.
الهدنة الإنسانيّة أصبحت ضرورة حيويّة لإتاحة إدخال الموادّ الغذائيّة والمياه والأدوية والوقود بكميّات تكفي احتياجات السكّان في جميع أنحاء القطاع. تعارض إسرائيل تماماً وقف القتال بحجج مختلفة، منها أنّ هذا سوف يُتيح لحماس إعادة تنظيم نفسها وأنّه لا مبرّر لمثل هذه الهدنة قبل استعادة المخطوفين. غير أنّ هذه الحجج لا يمكنها تبرير المسّ الفادح بنحو 2.2 مليون إنسان يعيشون في القطاع ويخوضون حاليّاً وبشكل يوميّ صراع بقاء، ليس فقط نتيجة للقصف الإسرائيليّ المستمرّ وإنّما أيضاً بسبب النقص الحادّ في الغذاء والماء.
إدخال الإغاثة الإنسانيّة إلى قطاع غزّة الآن ليس حسنة يُطلب من إسرائيل أن تمنّ بها على السكّان المدنيّين في القطاع وإنّما هي واجب عليها وفقاً لأحكام القانون الإنسانيّ الدوليّ. بموجب هذه الأحكام، على الأطراف المتحاربة أن تتيح إيصال الإغاثة الإنسانيّة للسكّان المدنيّين على وجه السّرعة، بما في ذلك الغذاء والدواء. وهذا واجب بالتأكيد حين يكون أحد الأطراف قد فرض على المنطقة حصاراً من شأنه أن يودي بالسكّان إلى مجاعة محقّقة. رفض إدخال الإغاثة الإنسانيّة لا يمكن أن يكون قراراً تعسّفيّاً - وفقاً لتأويل الصّليب الأحمر، في حال وجود خطر محقّق يحيق بالسكّان المدنيّين ووجود هيئات مستعدّة لتقديم الإغاثة، على الدّول أن تُتيح ذلك. في الماضي، حين فرضت أطراف متحاربة في مناطق أخرى من العالم مثل هذه القيود قوبل ذلك بتنديد فوريّ من قبل دول عديدة ومجلس الأمن في هيئة الأمم المتحدة والصليب الأحمر الدوليّ.
تنطبق هذه الأحكام على إسرائيل أيضاً، مثلها مثل أيّة دولة أخرى تخوض حرباً فكم بالحريّ حين تكون هي التي تمنع السكّان المدنيّين من مغادرة القطاع وتوفير احتياجاتهم بأنفسهم. الادّعاء بأنّ إدخال الإغاثة الإنسانيّة يُساعد حماس أيضاً لا ينفي هذه الأحكام ولا يمكنه أن يبرّر منع الغذاء والماء والدواء والوقود عن 2.2 مليون إنسان، هُم سكّان القطاع. مُواصلة هذا المنع هي بمثابة إلحاق الأذى المتعمّد والّلاتناسبيّ بالمدنيّين، وعليه فهو مخالف للقانون.
خلافاً لتصوّرات أصحاب القرار السياسيّ في إسرائيل، ليس كلّ قطاع غزّة "حماس". هناك يقيم 2.2 مليون من السكّان المدنيّين. كلّ واحد وواحدة منهم إنسان، له وجه واسم وعائلة، ويحتاج الآن إلى غذاء وماء ودواء ومستشفى وكهرباء وملجأ آمن لكي يتمكّن من البقاء بشكل ما. الادّعاء بأنّه لا يمكن إدخال الإغاثة إلى القطاع "لأنّنا الآن نقاتل حماس" يتضمّن فرضيّة مفادُها أنّه يمكن، حاليّاً على الأقلّ، تجاهُل هؤلاء المدنيّين وتركهم ليفتك بهم الجوع والمرض والموت. هذه فرضيّة شرّيرة تدير ظهرها للواقع وللأزمة الإنسانيّة الحاصلة أمام أعيننا.
أحكام القانون الإنسانيّ الدوليّ صيغت بالضبط لمثل هذه الأوضاع، والواقع الذي تواجهه إسرائيل لا يخصّها حصريّاً. إنّها أحكام تعكس تصوّراً أخلاقيّاً ينبغي بموجبه الحفاظ على سلامة وأمن المدنيّين أيضاً في أثناء الحرب. رسميّاً، تدّعي إسرائيل أنّها تؤمن بهذا التصوّر، وهي تعود وتكرّر أنّها تعمل بموجب هذه الأحكام. لكنّ رفضها لهُدنة إنسانيّة تتيح إدخال الإغاثة الحيويّة للمدنيّين تثبت عكس ذلك.
[email protected]
أضف تعليق