شيّع آلاف الفرنسيين جنازة الشاب نائل مرزوقي الذي قُتل برصاص شرطي فرنسي من المسافة صفر، في «نانتير» بضواحي باريس، في حادثة انقلبت بعدها الأمور في الجمهورية الفرنسية رأساً علي عقب، حيث خرجت المسيرات البيضاء لدعم الشاب وعائلته ثم تحولت إلي أعمال نهب وسرقة اجتاحت جميع أنحاء فرنسا، إذ تترنح البلاد على حافة الفوضى الكاملة، بعد أربع ليالٍ من العنف والتدمير.

وفي مشاهد تشبه لقطات هوليودية من أفلام حروب العصابات، تجوب الشرطة المدججة بالدروع والأقنعة الواقية المواقع الرئيسية في مركبات مدرعة سوداء ليس فقط في «نانتير» التي بدأت منها شرارة الاحتجاجات، ولكن أيضًا في مدن ليل في الشمال ومدينة مارسيليا بالجنوب.

بعد الهجوم الأول على مراكز الشرطة والمدارس وغيرها من «رموز الجمهورية الفرنسية»، تحول المشاغبون تدريجيًا إلى النهب، حيث تم اعتبار أجهزة الصراف الآلي والمطاعم والصيدليات وصالونات الحلاقة ومكاتب الضرائب ومحطات الخدمة كأهداف.

وعلى الرغم من أن معظم الهجمات وقعت ليلًا، فإن العشرات من الشباب كسروا نوافذ متجر أبل في وسط مدينة ستراسبورغ شرق فرنسا امس الجمعة في محاولة لنهب منتجاته، إلا أن الشرطة تمكنت من طردهم مع سماع دوي انفجارات.

وفي يوم الجمعة، قطع الرئيس الفرنسي اجتماع المجلس الأوروبي في بروكسل لعقد محادثات أزمة، حيث قال إنه لا يوجد «أمر ممنوع» في الإجراءات التي سيتخذها لوقف الشغب.

وأكدت إليزابيث بورن، رئيسة الوزراء، أنه يتم تداول «جميع الخيارات» لاستعادة النظام، بما في ذلك فرض حالة الطوارئ، مما سيمنح السلطات المزيد من الصلاحيات لفرض حظر التجول المحلي وحظر المظاهرات وإعطاء الشرطة المزيد من الحرية في احتجاز المشتبه فيهم وحظر الدعوات من المعارضة المحافظة واليمين المتشدد لفرض حالة الطوارئ.

الإجراءات بين مؤيد ومعارض

وقالت رئيسة الجبهة الوطنية في فرنسا مارين لوبان، إنه يجب إعلان حالة الطوارئ في «بعض القطاعات» وتوسيعها على مستوى البلاد إذا تفاقمت الأوضاع.

بينما قال إريك سيوتي، رئيس حزب الجمهوريين: «فرنسا تحترق، إن بلدنا على حافة الهاوية، يجب أن نشن حربًا لا ترحم ضد العنف وأن نعلن حالة الطوارئ في جميع المناطق المتأثرة».

ومع ذلك، يعارض بعض الوزراء هذا الإجراء، وقال فرانسوا هولاند، سلف ماكرون الاشتراكي، إنه خطأ لأنه يهدف أكثر إلى إدارة التهديدات الإرهابية من الاضطرابات الحضرية.

ماكرون: «التواصل الاجتماعي» السبب

وقد أعلن إيمانويل ماكرون، في مؤتمر صحفي يوم الجمعة، عن دعوته للآباء والأمهات لمنع أطفالهم من الانضمام إلى المظاهرات وأعمال الشغب التي شهدتها بعض مناطق فرنسا.

كما دعا تطبيقات السوشيال ميديا، مثل سناب شات وتيك توك، إلى إزالة المحتوى المتعلق بأعمال العنف، مشيرًا إلى أن الشباب يستخدمون هذه التطبيقات لتنظيم التجمعات العنيفة، وأن الفيديوهات المؤذية للممتلكات العامة تشجع على العنف.

خسائر بالجملة

في ضاحية نوازي لو جراند، تعرضت المدرسة الثانوية المحلية للاستهداف، حيث يمكن سماع أحد المشاغبين يضحك قائلًا «هذا نهاية المدرسة!»، وفقًا لوكالة الأنباء الفرنسية.

لم يقتصر العنف على ضواحي المدينة فحسب، بل ضرب أيضًا المركز التاريخي لباريس، حيث انتشر صوت الألعاب النارية ورائحة الدخان والحرائق في شوارع مدينة الضوء مساء الجمعة.

وتتكدس وسائل التواصل الاجتماعي بمقاطع الفيديو للحرائق والنهب، بالإضافة إلى صور فروع شركات «نايك» و «زارا» الرئيسية التي تم نهبها في شارع «رو دي ريفولي» التاريخي والمملوء بمتاجر ومحال كبرى العلامات الدولية.

لم تختلف الأوضاع من مدينة إلى أخرى، بل تغلغل العنف إلي جميع المدن، حيث اشتعلت مكتبة في مارسيليا واندلع حريق في فندق في روبايكس بالقرب من الحدود البلجيكية.

وبلغ إجمالي الأضرار التي تعرضت لها البنايات في جميع أنحاء البلاد وبحسب الرئيس الفرنسي فإن 492 مبنى تضررت، واحترق نحو 2000 مركبة، واندلع 3880 حريقًا.

خسائر في صفوف الشرطة

وتعرضت قوات الأمن الفرنسية للكثير من الخسائر منذ اندلاع وفاة المجني عليه نائل المرزوقي.

ونشرت قوة شرطة تصل إلى نحو 40 ألف شرطي وجندي، بالإضافة إلى وحدات التدخل السريع والنخبة، في عدة مدن خلال الليل، وأصدرت حظر تجول في البلديات المحيطة بباريس وحظر للتجمعات العامة في «ليل» و«توركوا» في شمال البلاد.

ولكن على الرغم من الانتشار الأمني الضخم، استمر العنف والأضرار في العديد من المناطق دون انقطاع، وأظهرت أرقام وزارة الداخلية أنه تم القبض على 875 شخصًا خلال الليل، في حين أصيب 249 ضابط شرطة دون تسجيل أي إصابات خطيرة.

قلق أممي

تحذر إرشادات السفر من العديد من البلدان من الاحتجاجات وتحث الناس على مراقبة الأخبار والتحقق من منظمي الرحلات السياحية؛ لم ينصح أي منهم بعدم السفر إلى فرنسا تمامًا.

وأصدرت وزارة الخارجية الأمريكية يوم الخميس، إنذارًا أمنيًا يغطي فرنسا، سلط الضوء على التداعيات العنيفة لإطلاق النار على المراهق وحذّرت مواطنيها بالابتعاد عن بؤر التوتر.

وأضافت: «من المتوقع أن تستمر هذه التظاهرات، إلى جانب الاحتجاجات العفوية، وقد تتحول إلى أعمال عنف».

يجب على المواطنين الأمريكيين تجنب التجمعات الجماهيرية ومناطق النشاط الشرطي المهم، لأنها يمكن أن تتحول إلى أعمال عنف وتؤدي إلى اشتباكات.

لا يزال تحذير «المستوى 2» الأمريكي الصادر في أكتوبر 2022 من قبل وزارة الخارجية ساريًا يحث المسافرين على «توخي مزيد من الحذر في فرنسا بسبب الإرهاب والاضطرابات المدنية.

كما أصدرت وزارة الخارجية وشؤون الكومنولث في المملكة المتحدة تحذيرات، لكنها شددت على أن معظم الزيارات إلى فرنسا كانت بدون حوادث.

وقالت على موقعها على الإنترنت:«الاحتجاجات قد تؤدي إلى تعطيل السفر على الطرق أو استهداف السيارات المتوقفة في المناطق التي تشهد احتجاجات، يجب عليك مراقبة وسائل الإعلام، وتجنب الاحتجاجات، والتحقق من أحدث النصائح مع المشغلين عند السفر واتباع نصائح السُلطات».

وكانت ألمانيا أعربت يوم الجمعة عن«قلقها» إزاء أعمال الشغب، في حين نصحت النرويج المواطنين ب«تجنب التجمعات».

وتشهد الفنادق في جميع أنحاء فرنسا«موجة من إلغاء حجوزات في جميع المناطق المتأثرة بهذه الأضرار وهذه الاشتباكات»، وفقًا للاتحاد العام لقطاع الضيافة في البلاد.

إجراءات أمنية مشددة

وأعلنت وزارة الداخلية أن خدمات الحافلات والترام ستتوقف في جميع أنحاء البلاد في الساعة التاسعة مساءً اعتبارًا من الجمعة، وسيتم حظر بيع الألعاب النارية الكبيرة. وذلك بالرغم من عدم إعلان حالة طوارئ.

كما طلبت الشرطة من الحاكمين الإقليميين، الذين يتولون الأمن في جميع أنحاء البلاد، حظر بيع ونقل علب الوقود والأحماض والسوائل القابلة للاشتعال.

وبعد محادثات أزمة، وعد الرئيس الفرنسي ب«وسائل إضافية» للشرطة فوق الأعداد الكبيرة التي كانت في الشوارع يوم الجمعة، وسوف تشمل 14 مركبة مدرعة من نوع «Centaure» تابعة للقوات الأمنية، وعدة إجراءات أخرى، إلا أن تلك الوعود قوبلت بنقد شديد من شرطة التحالف الوطني وشرطة UNSA، وهما اثنتان من أكبر نقابات الشرطة في فرنسا، واصفين الإجراءات بالضعف.

وفي الوقت نفسه، طالبت والدة الشاب الذي قتل برصاص الشرطة بالعدالة، وأكدت أنه يجب العمل على تحسين العلاقات بين الشرطة الفرنسية والمجتمعات المحلية.

وندد مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، بما وصفه بأنه «العنصرية المؤسسية» في الشرطة الفرنسية، ودعا الحكومة إلى معالجة هذه المشكلة، وبدأت مراسم تشييع نائل المرزوقي في نانتير اليوم السبت.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]