]ملاحظة: يتوجّه هذا النصّ إلى المجتمع اليهودي في إسرائيل، الذي يعتبر غزة دون تاريخ، ولا يعي أسباب الحرب وجذورها. الهدف الرئيسي من النصّ هو التأكيد أنّه على الرغم من ضرورة المناداة لوقف هذا العدوان والقصف الوحشي، إلّا أنّ ذلك ليس كافيًا. طالما يزال مليونا شخصٍ قابعين تحت الحصار ووراء الأسلاك الشائكة، وطالما تتجاهل إسرائيل حقوق اللاجئين الفلسطينيّين، فإن دائرة سفك الدماء هي مجرّد مسألة وقت.[

قام عام ١٩٤٨ في الجنوب الساحلي لفلسطين التاريخية، على شاطئ البحر، مخيّمٌ ضخم. لم يقم أحدٌ بتخطيط المكان مسبقًا. لم يعتقد أحدٌ بوجود كيان اقتصادي مستقل في ذلك المكان، أو أنّ به من الموارد والمياه ما يكفيه للبقاء لمدة زمنية ما كمنطقة مطوّقة منفصلة - جزيرة أرضية، غيتو، مخيّم معتقلات، او أي تسميّة قد تحلو لكم. وفي الحقيقة، ليس لديه تلك الموارد.

لقد كان في قطاع غزة مُدُنًا وقرى قديمة، كمدينة غزة، لكن تلك المدن قد بُلِعَت، غداة نكبة ١٩٤٨، حين تم إضافة حوالي مئتيّ ألف لاجئ مُهجّر، إلى حوالي ثمانين ألف مواطن غزّي. وبدأت الكارثة الإنسانية تتفاقم بسرعة في ذاك المكان، واستُغرِق الكثير من الوقت حتى بدأوا في صيانة الأزمة - من خلال تأمين الغذاء والمساعدات القليلة للاجئين، فاستقرّ الحال قليلًا، والأزمة مستمرّة حتى اليوم.

منذ أن تم التخلي عن خطط احتلال القطاع بأكمله، والتوسع في ذلك الجزء من فلسطين التاريخية (وتهجير المواطنين - إلى أين؟) استعجلت إسرائيل في حصاره وإغلاقه. طَرَد الجيش عام ١٩٥٠ كل المواطنين العرب الذين كانوا يعيشون حول القطاع، من الجانب الإسرائيلي، وتم محو بلدة بأكملها (مجدل). أُقيمت مساحة مُطهّرة عرقيًا في الغلاف المحاذي للقطاع. تم استقدام مستوطنين يهود: هذا هو الحزام الأمني والاستيطاني الذي يغلّف، أو يخنق، المخيّم المُغلق.
تحوّل الموقع الساحلي ذاته إلى ظاهرة لا مثيل لها: المخيم الأكبر في العالم للاجئين الفلسطينيين الذّين هُجِّروا من وطنهم ولكن بقوا ضمن محيطه. هذا هو السبب الأساسي لضرورة حصارهم فيه.

هذا لا يعني بطبيعة الحال أنه لم تكن أو تقم حياةٌ غنية في المكان: كان الأطفال يلعبون في الشاطئ، والصيادون يحاولون كسب الرزق، شعراء رائعون كتبوا هناك، حركات سياسية قامت ومدارس أيضًا. لكن المخيم بقي مغلقًا خلال معظم تاريخه، كجَيْبٍ من الضيق والمعاناة قام بتذكير كل من أراد أن ينسى أنّ نكبة ١٩٤٨ لم تنتهِ ولا تنتمي إلى الماضي. بقي المخيّم مغلقًا خلال معظم تاريخه، ويُفتح في أحيانٍ قليلة. مقاطعة مطوّقة لأزمة تنفجر، مرةً تلو الأُخرى، هذا هو تاريخه الموجز.

احتلّت اسرائيل القطاع مرتيّن: المرة الأولى عام ١٩٥٦، حيث ارتكبت مجزرتين. وحين قامت في الاحتلال الثاني عام ١٩٦٧، كان الناس ما زالوا يتذكرون الحكم العسكري الذي سبق. لقد كان ذلك المكان الوحيد في البلاد الذي كانت به قاعدة شعبية حقيقية للمقاومة المسلّحة الفلسطينية بعد حرب ١٩٦٧، في مخيمات اللاجئين. لقد كانت المقاومة شرسة، عنيدة، مُرّة، وفي بعض الأحيان قاسية. لم يكن لديها أي فرصة للتفوّق بالطبع، لكن اسرائيل استغرقت حوالي خمس سنوات كي تُخضِعَ القطاع كليًا، وقد فعلت ذلك عن طريق الدم والنار، والجرافات، والتعذيب والسياط، وعن طريق سلسلة اغتيالات. لقد كان ذلك بفعل أريئيل شارون وزمرته.

لم يكن الحال لطيفًا في غزة. انهمك المحتّلون الليبراليون بالتفكير كيف يمكن نقلها إلى مكان آخر، أو إغلاقها كليًا، أو تلوينها قليلًا وإنفاق بعض الميزانيات على الأزمة التي لا تنتهي، أو في أفضل سيناريو، نقل المواطنين إلى مكان آخر - الأردن، سيناء، أو مصر، إلى أي مكان آخر. لقد قاموا أيضًا باختراع ألف فكرة وتسمية متغيّرة ك ”غزة أولًا“ و ”انفصال“ أو ”حكم ذاتي“ - فعلوا كل ما بوسعهم من أجل إبقاء المخيم واحتواء الأزمة دون تلطيخ أيديهم بالقمع اليومي.
فكان الطريق الأساس لتخفيف الضغط هو فتح القطاع - وتمكين المحاصَرين من الخروج من ”سجن“ غزة والعمل لدى المستوطنين: في المستوطنات، في مصانع صغيرة، وبالأساس في البناء. جيلٌ كاملٌ من اللاجئين وأبنائهم بنى منطقة تل ابيب في سنوات السبعينات والثمانينات. وتغيّر وجه تل ابيب.

إنفجر قطاع غزة مجددًا، مع انفجار الانتفاضة الأولى عام ١٩٧٨-١٩٨٨. أغلق المُحتلّون المخيّم مرة أخرى. لقد كان ذلك إجراءً تدريجيًا، لكن اتجاهه كان واضحًا: إغلاق، حصار، فصل - فالفلسطينيوّن ليسوا بشرًا، بل قوى بشرية عاملة. لكنّ الإجراء الأكبر الذي صاغ شكلَ السنوات القادمة كان استبدال العمال اللاجئين بقوى عاملة جديدة - مستوردة من بعيد.
لكن بعدها حاول المحتلّون القيام بسلسلة من الحلول الجزئية: تمكين مجموعات محدّدة من ”أسرى“ مخيم غزة من العمل - مع تصاريح عمل - داخل اسرائيل، وبناء منشآت صناعية خصيصًا في غلاف القطاع، في منطقة عسكرية مراقبة، وتطوير أنظمة مراقبة التي تمكّنهم من السيطرة، والتفرقة، والمعاقبة، والتهديد بقطع الرزق أو سحب تصريح العبور، بتر القطاع إلى مساحات منفصلة تَسهُل مراقبتها والسيطرة عليها.

لكن التجديد الكبير الذي حصل غداة معاهدة أوسلو تمثّل في مسؤولية مواطني هذا المخيّم المغلق في إدارة معاناتهم بنفسهم.
بالنسبة لقوى الاحتلال، كان تشجيع الخلاف بين الأحزاب المختلفة وسط قيادتهم شيئًا مُحبَّذًا ومطلوبًا. وتم إحاطة القطاع كله بنظام أسوار وجدران عام ١٩٩٦.

إنّ الحصار والتجويع والعقوبات الذين فُرِضوا في السنوات الأخيرة، هم امتداد لسياسة بدأت قبل عشرات السنين:
نبذ أزمة اللجوء التي أنتجتها نكبة ١٩٤٨ وسجنها وراء الجدران، ورمي مفتاح السجن في البحر، إن أمكن. لذلك كان الانسحاب من تلك الأراضي خطوةً مطلوبة: لأنها أوجدت حلًّا للتخلّصِ من حالة الشذوذ التي نتجت بعد العام ١٩٦٩ ـ وجود مجمّعات سكنيّة منفردة يقطن فيها المستوطنون اليهود الذين يتمتّعون بحقوقٍ إضافية، داخلَ بحرٍ من أزمات اللّجوء والمآسي الفلسطينية. وتم انقطاع ”سجن غزة“ كليًا عن بقية صلاتِه بالضفة الغربية بعد انتهاء صراعات داخلية مريرة بين قياداته، وبات سجنًا منفصلًا إداريًا، بالشكل الذي نعرفه اليوم.

ومنذ ذلك الحين، يتيحُ الفصل والحصار والجدار نموذجًا أكثرَ فعاليةً في العقاب الجماعي لسجناء القطاع. ”هم هناك ونحن هنا“ - هذا ما يمكن قوله للمواطنين في الناحية الأخرى من جدران السجن، في المكان المحرّم (إسرائيل). في الحقيقة كان من الممكن أن ينعموا (أهالي غزة) بحياةٍ جيدة، لو قاموا بإدارة حياتِهم كما يجب، لو قاموا بتجنيد استثمارات، وعملوا على تحلية مياه البحر كي تصبح صالحة للشرب، وعملوا على تحويل الرمل إلى ذهبٍ خالص. ولكن بدلًا من ذلك فإنهم يعانون (بفعل أنفسهم)، عطشون (بفعل أنفسهم)، يتعذبون (بفعل أنفسهم)، وبين الحين والآخر ينفجرون.
ستفيض المحنة على نفسها مرة تلو الأُخرى. وفي كل فترة سوف يتمرّدون، مجددًا، وعندها ستُتَّخذ إجراء بوليسية فوريّة.

ما الذي تغيّر؟ الأمر الوحيد الذي بقي باستطاعة سكّان المخيّم المسوّر أن يفعلوه هو مضايقة أولئك المكروهين وراء الجدار، أولئك الذين بإمكانهم السماح لأنفسهم بتجاهل مأساتهم (مأساة غزة)، بل تجاهل حقيقة وجودِهم أصلًا.
أولئك الأشخاص هم نحن. إنّ المعاركَ العسكرية الفاقدة لأي توازن او تناسب، هي طريقة لإنتاج علاقة معاناة-ثنائية وهمية، بعد أن انهارت كل الأسس التي كان يمكن أن تتيح لعلاقة ثنائية تعتمد على الاعتراف الإنساني بالآخر. شراكة غير متكافئة في المعاناة، في الخوف الفظيع من الانفجارات، رغم أنه لا توجد أي منافسة أو مقارنة بين غارات القوة الإقليمية العظمى وبين الصواريخ التي تطلقها مجموعات مختلفة من ”السجناء“.

هنالك العديد من الإيجابيات في العمليات البوليسية (”الحملات العسكرية“) المتجددة لقوى الاحتلال. الحقيقة هي أنّ الاحتلال قادرٌ على، بل مُضطرٌّ إلى المبادرة إلى تلك الحملات بنفسه بين الحين والآخر، بشكلٍ مباشر أو التفافي: تتيح هذه ”الحملات“ للجيش إمكانية ”جزّ العشب“، كما يقول الجنرالات أنفسهم، من أجل إرجاع ”أسرى السجن“ إلى ”العصر الحجري“. من الضروري فعل ذلك مرارًا وتكرارً، لأنه في الوقت الحالي، لا يوجد حل عسكري شامل لهذه الأزمة: الغيتو موجود ولن يختفي.

علاوةً على ذلك، تساهم ”الحملات“ في صياغة الوعي العام لدى مجتمع المستوطنين: ”كلنا سويّةً في جبهةٍ واحدة“. وهناك، خلف الجدران، يقبع العدو الفظيع. هناك، خلف الجدران، أشخاص ليسوا بشرًا، خطر صافي محدّق، انفجارات دون سبب… وهنالك ميزة أخرى لل“حملات العسكرية“ المتكرّرة: أنها تقوم بصياغة نموذجًا دائريًا فاقدًا للأمل، غضبًا مجبولًا بالعجز - وهي الميزة الوحيدة المشتركة بين المُحتَلّ (من يحتَلّ) والمُحتَلّ (من يُحتَلّ).

إنّ هذه الحملات تعقِّم كلّ سياسة، وكلّ رؤية مستقبلية من محتواها. مجرّد ”إدارة الصراع“ من اليمين إلى اليسار الصهيوني.
وحتى الآن - ما الذي يمكن فعله او اقتراحه؟ وقف اطلاق نار؟ العودة لل“تفاهمات“ السابقة؟ أزمة أقل حدة ؟ توسيع عدد العمال المرخصّين للعمل في إسرائيل؟ أم توسيع المسافات الزمنية بين الحرب والأُخرى؟
لا يوجد مستقبل إنساني جدير بقطاع محاصَر، مُحكَم الإغلاق يقبع فيه أكثر من مليونيّ شخص. لقد بدأت عقارب ساعة الحرب القادمة تدور حتى قبل انتهاء هذه ”الحملة“ الحالية.
ما الذي يمكن فعله؟ فتح السجن.

إنّ مخيّم غزة يعيدنا بشكلٍ مباشر إلى عام ١٩٤٨، إلى “سؤال اللاجئين“، الّذي لا ينتمي للماضي: بل إنّّه حيٌّ معنا في الحاضر، مُتّخِذًا شكل التراجيدية المستمرة في غزة.

إنّ مدى الرعب الذي يصنعه مجردّ التفكير في ”سؤال اللاجئين“ داخل إسرائيل هو السبب الوحيد الذي يمنع حتى اقتراح الحل المطلوب: إلغاء الغيتو، إنهاء الحصار وفتح المخيّم المغلق.

إنها فكرة مرعبة (اللاجئون قادمون!). هل يوجد بديل لفتح البوّابات وإسقاط جدران الغيتو؟ الحقيقة أنّ هنالك أفكار عديدة لبن جفير وبينيت وأمثالِهم: في المدى القصير، بطبيعة الحال، حربٌ موسمية طاحنة. ولكن في المدى البعيد، سيقولون: على الفلسطينيّين الذهاب (إلى مصر، سيناء، القمر، إلى كل مكان: إنهاء المهمة التي بدأت عام ١٩٤٨). وهم من دون أدنى شك مواظبون في ذلك: غزة هي فصلٌ ضخمٌ من تراجيديا ١٩٤٨، وهو فصلٌ غير منتهي.

على كلِّ من يعتقد غير ذلك، ومن يرفض التهجير أو الإبادة، ومن يرتعب من فكرة (اللاجئون قادمون!)، الإجابة عن سؤال مستقبل غزة، وهو لبّ السؤال الفلسطيني، لُبّ الصراع. وعليهم جميعًا تحمّل المسؤولية: لأنّ مسؤولية أزمة اللجوء المستمرّ، هي مسؤوليّتنا.


]عن الكاتب: غادي الغازي هو مؤرخ وناشط سياسي اسرائيلي مناهض للصهيونية. شارك على مدار السنين في حملات عديدة للدفاع عن حقوق الفلسطينيّين، في الداخل وفي المناطق المحتلّة.[

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]