لايخفى علينا جميعا الهجمة الشرسة التي يشنها الاحتلال على المدن المختلطة والتاريخية في فلسطين مثل يافا، حيفا، وعكا، الذي بدأ منذ أكثر من خمسة عقود في تضيق الخناق على أهالي عكا لإجبارهم على مغادرة المدينة تمهيدا لإخلائها من سكانها الأصليين، بداية بتضيق الخناق على الصيادين وتحديد مناطق الصيد، ولاحقا بعدم السماح للفلسطينيين بالبناء وترميم المنازل (إلا في حالة الخطر المحدق بالعامة)، وصولا إلى هدم البيوت وتشريد سكانها. ناهيك طبعا عن الانفلات وفوضى السلاح التي تعاني منها البلدة القديمة منذ أكثر من عقدين من الزمن.
لقد باتت رؤية المراهقين المسلحين حدثا اعتياديا في المدينة، وحدِّث ولا حرج عن إغراق المدينه بالمخدرات والمتاجرة بها ("على عينك يا تاجر"، أو وبعبارة أوضح "على عينك يا شرطة").
هدم المنازل وتشريد أهلها!
بات هدم المنازل وتشريد أهلها حدث اعتيادي مستمر في فلسطين منذ زمن النكبة بلا توقف أو هوادة. هذا ما حصل مؤخرًا مع عائلة ابو عيشة في عكا القديمة قبل أكثر من شهر.
تعود قصة هذه العائلة الى سبعين عاما تقريبا، حيث قاموا بتشييد بيوتهم على أراضٍ تعود 70% من ملكيتها للوقف المسيحي و30% للدولة.
طوال هذه السنين لم تعترض الدولة ممثلة بمؤسساتها المختلفة على الوضع القائم. لقد كانت عائلة ابو عيشه تدفع ما هو مستحق عليها للدولة من ماء، كهرباء، وضريبة رسوم الأملاك (أرنونا) بانتظام. لكن الدولة استفاقت فجأة في السنوات الأخيرة وقررت (كالعادة) أن البناء غير شرعي وبدأت بفرض غرامات مالية طائله على العائلة. التزمت العائلة بدفع الغرامات المفروضة عليها لكن هذا لم يشفع لها في النهاية. فقد قررت المحكمه هدم البيوت بعد توجه الدولة بكل مؤسساتها الى القضاء (العادل!).
السُلطات الإسرائيلية لم تلتزم بقرار القاضية!
أرفقت القاضية مع قرار الحكم توصية بعدم التنفيذ حتى نهاية شهر آذار بسبب حالة الطقس السيئة ونظرا لوجود أطفال وطاعنين في السن بين السكان. لكن السلطات بادرت بالتنفيذ بعد ثلاثة أيام من القرار غير آبهة بفصل الشتاء وظروف الطقس شديدة البرودة. استفاقت عائلة ابو عيشه بتاريخ 14/2/2023 على أصوات الصراخ والتكسير وخلع أبواب البيوت ثم الدخول اليها عنوة دون مراعاة لحرمة ساكنيها. لقد تمت مداهمة البيوت في ساعات الصباح الباكر (التاسعة صباحا) بعد توجه جميع رجال العائلة للعمل، هنا فلسطين! حيث العيش بلا بيت قانون فرضه الدهر على أهلها. هنا فلسطين! حيث السكن في العراء لا يحتاج إلى زلازل أو هزات أرضية.
تحويل منطقة السكن الى منطقة عسكرية مغلقة!
تمت محاصرة البيوت الأربعة وتحويلها الى منطقة عسكرية مغلقة. أغلقت جميع مداخل عكا تحسبا لوصول الدعم أو المساندة من المناطق المجاورة. أُغلقت ايضا مخارج البلدة القديمة لمنع وصول الأهالي إلى الموقع، لم يبق أمام النساء والفتيات من عائلة أبو عيشة من خيار سوى المواجهة والتصدي لمنع الهدم.
في مقابلة قمت بإجرائها مع إحدى سيدات العائلة قالت: " قمت بتوصيل ابنتي الصغرى الى المدرسة لتشارك في رحلة مدرسية. وبعدها توجهت الى العمل، وما إن وصلت تلقيتُ اتصالاً من ابنتاي وهما تصرخان وتبكيان بحرقة، لم أفهم من كلامهما سوى: شرطة... هدم ... "رمونا بالشارع يَمّا"... وفي الخلفية صراخ باللغه العبرية.
هرعت عائدة الى البيت أو بالأصح إلى الذي كان بيتا وأصبح ركاما الآن، وجدت ابنتاي وجميع نساء وفتيات العائلة في الشارع، والمنطقة محاصرة بأكملها من قبل الوحدات الخاصة المدعومة بالقناصة الذين اعتلوا أسطح المباني المجاورة ".
وأضافت السيدة: " لقد أخرجونا من بيتنا دون انذار مسبق، لم نأخذ معنا أي شيء، لا ملابس أو متعلقات شخصية ولا حتى دواء. كلُّ شيء كان في البيت اختفى تحت الركام ولا نعلم عنه شيئا. عند وصولي طلبت منهم الدخول لإحضار الدواء، أخبرتهم أني مريضة بالسكّري. لكنهم لم يأبهوا بكلامي. بعد برهة، وخلال المواجهات وصدامنا نحن النساء والفتيات معهم أصبت بنوبة سكّر ووقعت على الأرض، لكنهم، وعلى الرغم من ذلك، لم يسمحوا لبناتي بالذهاب للإحضار الدواء من داخل البيت ".
كنت نائمة على سريري، وفجأة طلبوا مني الخروج من البيت لهدمه!
وبدورها قالت ابنة السيدة: " كنت نائمة في سريري واستيقظت فجأة على صوت صراخ أحدهم يقول بالعبرية: قومي اخرجي من البيت نريد هدمه!"
وتابعت: " لم استوعب الموضوع في بداية الأمر وطلبت منه الخروج من غرفتي فأنا فتاة ملتزمة وأريد أن أرتدي الحجاب ولكنه استمر بالصراخ والتنكيل بكل ما كان حوله ".
بعد كل هذه المحاولات تم هدم البيوت وبقيت هذه العائلات (أطفال ونساء ومسنين) تلتحف السماء وتفترش الارض.
خلال في سؤالي لأحد الاطفال عن ماذا يبحث بين الركام أجاب: "خالتو بفتش عن دوا " تيتا " (جدتي) هي كتير مريضة". طفل آخر قال: "أنا أبحث عن ألعاب الفيديو (البلاي ستيشن) التي اشترتها لي أمي أول أمس. لقد أمّنت ثمنها من خلال التوفير في الشهور الماضية".
موقف بلدية عكا!
في سؤالي عن موقف البلدية مما يحدث وفيما إذا ما تم التواصل مع العائلة لتوفير مكان إقامة لهم كما هو متبع في مثل هذه الحالات، قالت العائلة: إنه لم تتواصل معهم البلدية حتى الآن. ونحن الآن في نهاية اليوم التالي للهدم حتى لحظة اعداد هذا التقرير.
يحاولون هدم بيوتنا أحلامنا ومستقبلنا ولكننا كما اقول دائما: نحن ولدنا من رحم المعاناة ولا يليق بنا سوى المقاومة، وان تعبنا أو خُذلنا فإننا نعاود الوقوف شامخين.
[email protected]
أضف تعليق