نتوسل إليك يا أمنّا العزيزة، أن تتقبلي استلام رسالة من ابنيك الاسيريْن، اللذين استدرجهما الأمل في كل عام على التأخير. لكن بعد مضي 30 عاما من أسرنا، ومن غوايات الوعود اللذيذة، كان لا بد لنا أن نبعثها لحضرتك الكريمة، ولزوجتي الحبيبة، والخجل مستبد بنا وبحروف كلماتنا، من أن ترفع رأسها بوجهك الجليل. معذرة منكما على انتظاركما الطويل. كل المعذرة، وصفحكما نرجو، على كل هذا التأخير.
يا أمي، دعينا نناديك يا أمي، فأكثر من 30 عاما ونحن نحترق شوقا لتتشرب أرواحنا صدى صوتك العذب حينما تجيبيننا: نعم يمّا.
أكثر من مرة يا أمي يسقط القلم من يدي كلما هممت بالكتابة، بعد أن حسمنا أنا وأخي قرارنا وعزمنا لأن نكتب لك: لأنني لم أعرف من أين أبدأ معك الحكاية، أو كيف أصف لك شكل النهاية، التي لم تكتب فصولها بعد. ولأن حروف شوقنا وحنيننا وعبق التاريخ تندفع جملة واحدة من خلايا أجسامنا جميعها، تتدافع نحو الأعلى متحاشدة عند حلقي محدثة فوضةً وإرباكا في أفكاري وخواطري، فأشعر في الحال بالانسداد والاختناق الذي لطالما كنت في كل محاولة أجتهد لأن أتفاداه؛ فيفلت القلم من يدي مسرعة مسعفة عنقي لتدليكها وتليينها، ولتسليك حلقي طمعا لأن يتحرر للهواء مجراه.
لكننا يا أمي نقسم برب العرش، أننا لم نكتب لنقول لك: أمّاه اصبري. فدون صبرك الجميل قمم الجبال، ويعجز عن إدراكه أو تصوره أي خيال؛ فأنت الصبر بالكمال.. وأنت الأمل.. وأنت الجمال.
أتذكرين يا أمي زيارتك الأولى لنا في سجن الرملة، ذات صباح
أتذكرين يا أمي زيارتك الأولى لنا في سجن الرملة، ذات صباح، إذ كنت أمشي نحوك كسنبلة الحقل المثقلة بحبات لوعة فراقكم والقلق عليكم واشتياقنا المطرد لكم، فجلست مستسلما بين يدي حضرتك كما تستسلم خاشعةً السنبلة الحاملة مطمئنة كمن وجدت أمانها في قبضة يد الفلاح.
لكنك يا امي ظننت بنا للوهلة الأولى غير ذلك، فأنشبت بكلتا يديك الشبك البليد، الذي يفصل بيننا، وقلت لنا معلمةً كما تعلم اللبوة شبلها: خليك يا ابني كما ربيتك عنيد، معنويات عالية وإرادة صلبة حديد.
فقلنا لك: يا أمّاه، ليس القيد في المعصم نشكوه، ولا حقارة السجان. فنحن هنا منجزين وعدا لوطن قطعناه، وليعلم يوما شعبنا الحر أننا أبدا ما خذلناه، وفي سبيل الله، لا نبتغي غير رضاه. إنما هو يا أمي قلق عليكم عانيناه، وعلى إرث بارك الله حوله من آلاف السنين عن كنعان والفاتحين ورثناه، فقلت راضية والبسمة المشرقة ترتسم جَذِلةً على وجهك الوضّاح، توشكي ان تطيري من الفرح: الحمد لله.. الحمد لله. أبناء أبيكم يمّا.. عليه رحمة الله.
ألا تذكرين يا أمي يوم تسنى لنا في سجن بئر السبع أن نلتقي بشوق السنين العابرة
وألا تذكرين يا أمي يوم تسنى لنا في سجن بئر السبع أن نلتقي بشوق السنين العابرة، بعد جهد وعناء، كشوق الزهرة لخيوط الشمس الناعمة، وتحضنينني بلهفة الأرض العطشى لغيث السماء، وأخذت تتحسسينني وتملسين شعري بكف يمناك، وتشعشعين ابنيك بفيض حبك وحنانك، كما تفعل الأم الرؤوم مع طفلها المولود للتو. ولمّا سألنا عنك بعد أيام قالوا لنا، إنها لم تنهض من فراشها منذ الزيارة ولا ندري لماذا. لكننا أنت ونحن يا أمي ندري.. نعم ندري، وقلوب البشر تدري ونبض الكون يدري، والدم في عروقنا يدري: ندري لأنك أم.. لأنك أمنا.
وألا تذكرين يا أمي في إحدى زيارتنا قبل بضعة سنوات لما سألتك عن أحوال البلد؟ فقلت لي عن مشيرفة موطن ولادتك، أم عن أم الفحم عرين أخوالك تسأل؟ فقلت: عن الوطن أسأل يا أمي! سكتي برهة، حسبتها دهرا، ثم بدمعك الصامت أتاني الجواب. وإلى الآن يا أمي لم أعلم أعلينا بكيت أم على الوطن؟!
فاستطردت بعدُ سائلا! كيف شعبنا يا أمي؟ أجبتِ: شعبنا بخير يمّا.. قلتُ مستغربا: كيف شعبنا بخير يا أمي وجرائم القتل تمزق مجتمعنا في الداخل مخترقة مدننا وشوارعها؟! وكيف شعبنا بخير يا أمي وأوغاد المستوطنين يتغولون ويعربدون في شوارع وكروم الضفة راسمين للمعازل حدودها.
حينها قلت لنا: إذا عندنا يمّا حكم علي بابا وقانونه شوارعنا، فلا تستغرب أن يصل القاتل ابن جلدتنا، للأسف، حتى عتبات الأبواب. وهناك يمّا في الضفة الحزينة لما نام عن واجبهم الأمناء انفلتت مزهوة من عقال خوفها، الذئاب والكلاب.
يا أمي، لم أرك في حياتي غضبت يوما قط كغضبك لأجل زوجتي إذا ما صدر عني نكته لا تروق لها أو كلمة مستفزة قطبت لها جبينها، فعلمني حبك وعلمني قلبك أن ضوء الشمس أوسع وأكرم من أن يستفرد به إنسان.
أيا زوجتي، “كنت إذا ما ضاقت بي الدنيا كان يكفيني منك رؤياك”
أيا زوجتي، “كنت إذا ما ضاقت بي الدنيا كان يكفيني منك رؤياك”، ودوما “أناجي ربي خالقي صباحا يكون فيه لقياكِ”. أيا غاليتي، لطالما كدحت باحثا في كل قواميس الأرض لأجد ما يليق بك من الكلمات أو بيت شعر في كل كتب الأشعار. ما وجدت شيئا يا زوجتي يناسب منك ولو واحدة من دمعات الانتظار. فاسمحي لروحي أن تقول لك بإخلاص: أحبك يا زوجتي للأبد.
أمّا الآن، بعد 30 عاما، فلن نسألك يا أمي ما شكل الضياء وما شكل القمر، ولكننا نسألك عن حصيرتنا البنية وليالي السمر، وعن مصطبة دارنا وعن قعداتنا أيام زمان، وعن بستاننا المليء بالملوخية والخضار، وعن شجرتي التين والرمان، وعن ليمونتنا الشهيرة خلف الدار، وعن موزتنا العنيدة وشجرة الصبار. لا نريد أن نطيل عليك يا أمي غير أنه بالأمس واجهني سجان، بعدما عرف أنني أكملت 30 عاما في الأسر، سؤال مشحون كله بخباثة الاحتلال وحقارته: من بقي لك في هذه الدنيا له قلبك محبة بعد هذا الغياب الطويل؟؟ صمت للحظة، ولوهلة شعرت يا أمي أن صخرة الزمان الطويل أسقطت كلها بلؤمه على رأسي. غير أن روحي لم تتردد في الإجابة طرفة عين، إذ داهمتني من فوري باندفاعة لا تباري صورتك يا أمي وصورة زوجتي، فقلت له بحزم أسلافي الفاتحين ودون تردد أو تلعثم: فلسطين.
ربما يا أمي لأنني أحسست، أو رأيت من عينيه تنبعث شماتة الأعداء الغاصبين، فإحساس التاريخ والحق والعدالة أقوى من أي صولة للغرباء العابرين.
فمعذرة منك يا أمي، فأنت لنا فلسطين وأنت الوطن وأصل الحنين. أنت الفرحة تمحو الشجن… وأنت دفئي وقت المحن.. وأنت أغلى ما في الوجود.. بوسة على جبينك يمّا تسوي وجودي.
فيا إلهي، ألهمني كيف نحب حبا يليق بجلال أمي، وامنحني يا إلهي وزوجتي أن نجدد عهدا بالحب عشناه. وعلمنا يا إلهي كيف نشكرك ونحمدك على نعمة انتماءٍ لوطنِ قد عشقناه. محباكِ المشتاقان ابناك الأسيران إبراهيم ومحمد اغبارية.
[email protected]
أضف تعليق