بدأت القصة منذ أن بدأ التهجير، المرأة البدوية في وقت من الاوقات وجدت نفسها مضطرة للتشبث بأعمدة خيمتها البسيطة خوفا من اجبارها على هدمها والرحيل منها عنوة عندما بدأت عمليات الترحيل القسرية للمواطنين البدو من النقب الشمالي والغربي وتركيزهم فيما يسمى منطقة السياج، لكنها في ذلك الوقت كانت لا تخرج الى الساحات والميادين، لا ترفع الشعارات ولا تردد الهتافات، كانت فقط تصمد في بيتها بقدر استطاعتها والصمود بحد ذاته حكاية .
بدأت الاوضاع في النقب تتغير عاما بعد عام وبدأت المرأة تجد نفسها واقفة وحدها في ساعات الصباح الباكر مع صغارها امام الجرافات التي تحضر اما لتهدم بيتها المكون من الصفيح او من بناء اسمنتي بسيط وربما احيانا مجرد عرائش لا تمنع بردا ولا تقي حرا، او لتحرث زرعا يمدها واسرتها وماشيتها بالغذاء ،وطبعا كان الرجال في تلك الاوقات التي تختارها السلطات الاسرائيلية بدقة على رأس العمل ، والنساء على خط المواجهة الاول ، وغالبا ما كن يتلقين الصدمة الاولى بعد ان ترى احداهن بيت احلامها البسيط امام عينيها اصبح ركاما !
اليوم قررت النساء تغيير المعادلة، فبدأن بالخروج من دائرة الاحتجاج الصامت الى كافة انواع الاحتجاج السلمي المشروع -الا في هذه البقعة من الارض -ومع ذلك باتت النساء تصور وتوثق الحدث ، تقف في المظاهرات، تهتف بصوت عال وترفع الشعارات وتطالب بحقها في الارض والمسكن، بل بدأت ايضا تتلقى التعليم العالي وتصل الى اعلى المراتب وتتعلم اللغات المختلفة لتوصل رسالتها ومظلمتها الى ما بعد حدود هذه الدولة، واليوم صارت المرأة البدوية شريكة النضال وشريكة الاعتقال !
في احداث قرية سعوة خرجت النساء والفتيات جنبا الى جنب مع الرجال - الذين بدأت السلطات باعتقال معظمهم اولا- للتصدي لتجريف اراضي القرية وتحويلها الى احراش غير مثمرة ،في هذه الاراض تقول زوجة احد اصحاب الاراضي :" عمر شجر الزيتون والتين الي قلعوه اكبر من عمر الدولة"، ورغم انهن قررن الاحتجاج بصورة سلمية بجانب بيوتهن تساند احداهن الاخرى ويخففن الم الحزن على ارضهن التي هي مصدر رزق العائلات هناك ، يرفعن اصواتهن بالتكبير والهتاف لا اكثر من ذلك، الا ان البعض منهن تعرضن للاعتداءات اللفظية البذيئة ،السحل والعنف ، بينما عدد من فتيات القرية كان لهن نصيب من الاعتقال .
من بين القاصرات دون جيل 18 عاما كانت اولى الاعتقالات ، المعتقلة الاولى قاصر تبلغ من العمر (16) عاما تعرضت للاعتقال ايضا دون أي سبب يذكر، قالت عما تعرضت له :" انا طالبة ثانوية عامة في الصف الحادي عشر ، كنت موجودة في الارض ذاتها التي تعرضت للتجريف ، كنا مجموعة من الفتيات نمسك ايدي بعضنا البعض نتصدى للهجمة نواسي بعضنا ونتحدث ونهتف بالله اكبر، كنا نقف بعيدا عن الجنود ولم نقترب منهم، بدأوا بالاقتراب منا ودفعنا ، تم سحبي وقامت المجندة بمعاملتي بعنف ، حاولت الدفاع عن نفسي فتم سحبي وادخلوني لسيارة السجناء بعنف، حاولا انزالي للتصوير ورفضت وقاموا برفع حجابي عن رأسي عنوة ، وضعت في السجن لليلة كاملة ، وتم الافراج عني بعد اتهامي بالاعتداء عليهم وهذا غير صحيح ، فرض علي الحبس المنزلي لعشرة ايام ودفع غرامة مالية وكوني طالبة شهادة ثانوية عامة طلب المحامي السماح لي بتقديم الامتحان وسمح لي بذلك بعد دفع الغرامة المالية ".
لم نشكل أي خطر على القوات كما ادعوا
شقيقتها تروي الحادث بتأثر شديد بسبب ما رأت امامها وبأم عينها :"رأينا القوات دخلت القرية وبدأت في التجريف في ساعة مبكرة جدا من النهار، وبعدها كانت وقفة احتجاجية للشباب على مفرق القرية على شارع 31 وبقيت النساء فقط في القرية، خرجنا ووقفنا بجانب البيوت ولم نشكل أي خطر على القوات كما ادعوا، ولكنهم دخلوا القرية وهاجمونا وبدؤوا بدفعنا ، وقاموا بسحب اختي واعتقالها اولا ثم ابنة عمي القاصر ايضا زميلتها في الصف ، يفترض ان تقوم مجندات باعتقال النساء لكنهما اعتقلتا على ايدي مجندين رجال والذين قاموا باستخدام الفاظ بذيئة ضدهن، لاحقا في اليوم التالي افرج عن اختي للحبس المنزلي وابنه عمي بكفالة طرف ثالث وابعاد عن بيتها للحبس لدى كفيل لعشرة ايام والتهمة الاعتداء على الشرطة رغم ان ما حدث هو العكس تماما".
الناشطة الشابة سجى عودة الاطرش (18) عاما ، والدها صاحب ارض خسرها بسبب التجريف قالت سجى :" معاملة الجنود كانت همجية ، دخلوا البيوت والقوا القنابل الصوتية على الاطفال والنساء داخل البيوت ، الارض مصدر دخل والدي واعمامي وجدي ، اشجار الزيتون التي تم اقتلاعها كانت مصدر دخل لنا ، وبالمقابل زرعوا مكانها اشجار حرجية لا يمكن ان تفيدنا في هذه الصحراء التي نعيش فيها ، اعيش في اسرة مكونة من 8 افراد اخوتي واخواتي جميعا دون جيل 18 عاما وجميعهم كانوا داخل البيت بعد ان تقرر الاضراب في مدارس القرية وبالتالي شاركوا جميعا في الاحتجاجات السلمية" ، سألنا سجى كيف تمكنت النساء والفتيات من الخروج والاحتجاج رغم ان الوضع لسنوات مضت لم يكن يسمح بمشاركتهم فقال:" كان هنالك وجود للرجال اليوم لا توجد وحدة صف بين الناس وتم اعتقال معظم الشباب والرجال وبالتالي ان لم نقف نحن فعلينا ان ننتظر من ؟! ، والمثلج للصدر اننا لاحظنا اليوم تغطية اعلامية عالمية لقضيتنا ولا مانع من وجود المزيد حتى لا تتعرض قضيتنا للتعتيم ".
ولدى السؤال عن اعتقال النساء وهل هذا اثر سلبا على عزيمتهم للمشاركة في احداث قادمة قالت سجى :" لم تؤثر علينا الاعتقالات ابدا، وعلى العكس تماما عادت الفتيات المعتقلات اكثر عزما واصرارا على الوقوف والتصدي لاليات الجريف من جديد ، لن يصلوا الى هدفهم باسلوب القمع الذي اعتمدوه لترهيبنا ، وقد عاد المتطرفون بعد المظاهرة لمحاولة الاعتداء على قريتنا ليلا ولكننا فوتنا عليهم الفرصة لذلك ، خلال احتجاجاتنا حاولنا الاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي للبث المباشر حول الاحداث ، وكانت محاولة لاعتقالي خلال قيامي ببث مباشر ولكن تم اخلاء سبيلي لأنني لم اقم بما يخالف القانون وسأعود مرة اخرى للاحتجاج ان عادت التعديات على ارضنا ، لقد تعاملوا معنا وكأننا حيوانات ، لأول مرة يستخدمون معنا القنابل الغازية واساليب القمع التي استخدمت كما صرحت الوزيرة الاسرائيلية ايلييت شاكيد كان هذا استخدامها الاول على اهالي قريتنا ومع ذلك اكرر مرة اخرى بأننا لن نتنازل عن حقنا وستشارك النساء الى جانب الرجال في كل المواقع النضالية ".
تحدثنا الى سليمان الاطرش والد المعتقلة القاصر جنين (16) ، طالبة في الصف الحادي عشر ، قال سليمان :" كنت في عملي كسائق شاحنة ومضطر للخروج مبكرا جدا للعمل ، وبالتالي لم يكن لدي علم بأن القوات عادت لمهاجمة القرية وتجريف الاراضي ، كانت جنين مع زميلاتها جاراتها في السكن ، الناس في هذه الظروف تقف مع بعضها العض ، ابلغوها ان صديقاتها يقفن خارج البيوت ، ذهبت ووقفت معهن دون القيام بأي خطوة مثيرة للقلق ، لم تقم سوى بالاحتجاج السلمي ورغم ذلك اعتقلتها المجندات واقتدنها الى سيارة المعتقلين المغلقة لمدة ساعتين ، ولكونها قاصر على ما يبدو اضطرت القوات للافراج عنها " ، جنين قال :" كنت اقف مع صديقاتي للاحتجاج ، لم نقم بما يخيف الشرطة ، الشرطة كانت تطارد الشبان المتظاهرين على مفرق القرية ، اعتقلوني لأنني اقف مع المحتجين ، اقتادوني للتفتيش معتقدين ان لدي ما يهددهم كسلاح او غيره واحتجزوني لحوالي ساعتين ، رأيتهم يضربون الشبان المحتجزين بطريقة وحشية مؤلمة ، اطلق سراحي وعدت الى المنزل بسلام وبمعنويات عالية "
سليمان اكد انه يشعر بالفخر بهذه الابنة فهي لم تفعل الا ما يجب على اي انسان القيام به في مثل هذا الظرف ، فالارض لها كما هي لابيها واعمامها وجدها وعائلتها، ومن حقها ان تغضب اذا ما سرق هذا الحق.
في بداية عام 2015 انطلق في النقب مشروع يصورون الحياة برعاية منتدى التعايش السلمي في النقب ، المشروع كان في القرى مسلوبة الاعتراف والمشاركات في هذا المشروع هن النساء النقباويات في هذه القرى، احدى فتيات النقب الناشطات هي صابرين ابو كف كانت مدربة تصوير في هذا المشروع قالت:" كانت النساء توثق الانتهاكات الموجودة قي قراهن ، بالاضافة الى توثيق الحياة في القرية في ظل غياب الحقوق والمتطلبات الاساسية للمواطنين هناك ، تصوير معاناة اطفالهن وهم يقومون بالسفر يوميا من اجل الحصول على حق التعليم ، تصوير بيوتهن في غياب الكهرباء والمعاناة التي يتكبدنها خلال فصول السنة خاصة في الصيف والشتاء حيث كنا نرى ان المعاناة تزداد اكثر فأكثر، غياب الشوارع و مؤسسات الصحة والتعليم وغيرها ، كل هذا كانت النساء تقوم بتوثيقه ويعبرن عنه من خلال كاميراتهن، كذلك كانت الكاميرا هي السلاح للمرأ والعائلة في حال كان هناك هدم بيت ، الكاميرا كانت تردع القوات ان يعيثوا خرابا في البيوت عندما ياتون لالصاق اوامر هدم ، وكذلك كانت تمنعهم من الاعتداء على العائلة ، بالاضافة لذلك تعلمت النساء حقوقهن والقوانين الخاصة بهن في كل الظروف وهذا عمل على تنمية الوعي لديهن في حال اعتداء القوات الشرطية او عمليات الهدم او لاي امر اخر بواجهنه في القرية ".
الان وفي هذا الوقت رسمت النساء في النقب طريقهن الجديد ، طريق ليس ممهدا ولا مفروشا بالورود ، انما طريق كان صعبا وما يزال ، فمحاولة انتزاع حق بالتصدي بالكف للمخرز لن تكون نتيجته سعلة ميسرة ،وهن على دراية بذلك جيدا ، الا ان المعاناة التي يعشنها والظروف القاسية التي فرضت عليهن في الوقت الذي تتنعم فيه النساء في العالم بكل وسائل الراحة والرفاهية والكماليات، حتمت عليهن انتزاع الخق في الحياة الكريمة والخروج لكل ساحات النضال وتحمل كل الضغوطات مقابل البقاء والصمود على الارض، وعيش حياة ادمية كريمة.
[email protected]
أضف تعليق