الدكتور عبد الرازق متاني المختص بالاثار والمقدسات الإسلامية في القدس وارض فلسطين يطلق صرخة ونداء " اغيثوا ما تبقى من مساجدنا ومقدساتنا في الداخل الفلسطيني"

لماذا هذه المناشدة الان: ما الجديد

في الحقيقة تأتي هذه الصرخة بعد زيارتي الاخيرة الى البلاد واطلاعي على سوء أحوال المقدسات ونخص منها المساجد والمقامات، حيث لا يكاد يبقى مسجد او مقام ولم يتم نبشه وحفر ارضيته او تكسير جدرانه، ولك يبقى مقبرة في القرى المهجرة الا وتعرضت لاعتداء فمنها ما حفرت فيه القبور او كسرت الشواهد ومنها ما يتم تجريفها وازالتها عن بكرة ابيها.

عند عودتي الى مكان سكني الحالي في إسطنبول جلست مع نفسي ومع سجلاتي وقمت باستعراض وبكشف سنوي للانتهاكات لأقوم بعمل مقارنة لأحوال المساجد مع التوثيقات التي اعددتها سابقا من خلال مسحي للمواقع ضمن رسالة الدكتوراه لأجد ان حال هذه المساجد يزداد سوء وكثير منها بات معرض للانهيار التام على اثر سوء حاله وعدم السماح بترميمه ، او على اثر الاعتداء المباشر عليه وتكسير بعض من جدرانه او حفر ارضيته وزعزعه بنائه وقد ذهلت من حجم العبث الحاصل ومن عدم اللامبالاة في داخلنا الفلسطيني من اشخاص وقيادات واطر فاعله بما يحدث مع هذه المقدسات، وأيضا على الصعيد العالمي والإسلامي كون الحديث عن اثار ومقدسات إسلامية لا تخص الفلسطينيين وحدهم بل هي لكافة المسلمين.

اين تحدث غالبية الانتهاكات وما نوعيتها

في البداية لا بد ان نذكر ان الحديث ليس عن انتهاك عابر لمقام او مسجد، نحن نتحدث عن انتهاكات منظمه والتي تم من خلالها الاعتداء على غالبية مساجدنا ومقاماتنا في الداخل الفلسطيني، ومنها ما تم الاعتداء عليه مرارا وتكرارا ونبش عدة مرات منذ احداث التهجير عام النكبة(1948).

اما الاعتداءات الحديثة على المساجد والمقابر فهي بالغالب نبش لأرضية المسجد او المقام ، وغالبا ما يتم النبش اسفل المحراب او بالقرب منه مكان المنبر، أيضا في زوايا المساجد والمقامات . أيضا من المساجد ما تعرضت جدرانه للتكسير والتخريب كما هو الحال في مسجد عمقا قضاء عكا.

فيما يتعلق بالمقابر فالحديث عن جرف للمقابر كما حدث مع مقبرة اليوسفية في القدس، نبش لبعضها كما حدث مع قبر الصحابي الجليل تميم الداري في الخليل، او تكسير الشواهد كما حدث في مقبرة بيسان.

الجهات التي تنتهك المقدسات

من اطلاعي ومعاينتي للانتهاكات الحديثة فالحديث ليس عن اعمال شخصية فردانية رغم ان بعض الاعمال كتكسير شواهد القبور لا تخلو من ذلك؛ الحديث هنا عن اعمال انتهاك ونبش منظمه طال معظم المساجد والمقامات التي صمدت بعد عام النكبة والمشاريع الإسرائيلية التدميرية، وغالبا ما يتم الحديث عن "نباشي الذهب" او الباحثين عن الاثار والذهب داخل المقابر والمساجد والمقامات والذين لا يأبهون بقدسية المكان او حرمته.

هل المؤسسة الإسرائيلية الرسمية ضالعه بهذه الانتهاكات

في البداية لا بد ان نستذكر دور المؤسسة الرسمية في تدمير اثارنا ومقدساتنا بدء من عام النكبة وطرد أهلنا من بلدانهم لتترك هذه المقدسات بل البلدات في انتظار أهلها ينتظرون العودة اليها. قامت إسرائيل بحملتها الرسمية عام 1965 والتي تعتبرها الحملة " الوطنية" واسمتها " تسوية الأرض" لتقوم من خلالها بتسوية القرى العربية بالأرض وتدمير غالبية اثارها ولم يتبقى منها الا القليل القليل.. . ذات المؤسسة لم تتوقف يوما عن الاعتداء على المقدسات ونبش المقابر الامر الذي وثقته من خلال كتابي" الرموز اليهودية والمقدسات الإسلامية بين التقديس والتدنيس" والذي استعرضت فيه عشرات النماذج من انتهاكات المقابر وتجريفها وعلى راسها مقبرة مامن الله العريقة في القدس والتي دمرت وجرفت غالبيتها وقد استمر جرف ما تبقى منها في السنوات الماضية من اجل أقامه متحف "التسامح" على ارض مقبرة المسلمين، ولعلنا هنا نسال أي تسامح هذا الذي يريدون، أي تسامح الذ يقام على جماجم المسلمين، واي عدل وانصاف ننتظر من محاكم تبنى وتقام على مقابر المسلمين كما هو الحال في صفد.

إسرائيل دمرت غالب الموروث الثقافي الفلسطيني وهي تسعى لفرض روايتها الصهيونية على ارض الواقع مسخرة في سبيل ذلك كل السبل والطاقات والموارد لهذه الدولة خدمة لمشروع تهويد الأرض والمكان وذاكرة المكان.

في هذا السياق نذكر أيضا تعنت المؤسسة الإسرائيلية ومنعها لترميم المساجد والمقامات التي بقيت وصمدت عمليات الهدم والتي غالبا حالها سيء وتحتاج الى ترميم وحفظ، وبالتالي فهي تساهم في في ذات الوقت انهيار وفقدان هذه المباني مع الزمن الامر الذي وثقته في كثير من المواقع والتي نتحدث فيها عن دمار كبير حل بالمباني. أضف الى ذلك استحلال إسرائيل للعشرات من المساجد كما هو حال المسجد الكبير في بئر السبع ومسجد السوق في صفد الذين حولا لمعارض، ومسجد قيساريا الذي حول لمطعم وخمارة والقائمة تطول..

أيضا وبموجب القانون الإسرائيلي وباعتبار غالبية هذه المواقع اثرية فيجب الحفاظ عليها ومعاقبة من يعتدي عليها، الا ان امر الاعتداء يمر مرور الكرام دون معالجة او حتى اهتمام. وهنا لا بد من توجيه كلمة شكر للأخوة في مؤسسة ميزان لحقوق الانسان على دورهم المتميز ومتابعتهم للعديد من القضايا قانونيا ومساعيهم للحفاظ على المقدسات بقدر استطاعتهم مع تأكيدنا ان الامر يحتاج الى حراك جاد كبير وفوري.

كيف ومن يقوم بتوثيق الانتهاكات وما اخرها او أهمها في العام الماضي:

في البداية لا بد لي من توجيه كلمه شكر للعديد من الأشخاص الغيورين على مقدساتهم ونعتذر عن ذكر أسمائهم لكثرتهم. احيانا اتلقى معلومات انتهاك الموقع الواحد من اكثر من طرف، الامر ان دل فإنما يدل على حرص أبناء شعبنا على مقدساتهم وغيرتهم عليها، الا ان الحديث غالبا عن رحالة وجوالة يوثقون الاعتداءات خلال تجوالهم. ولعلي هنا اشير الى النقص والفراغ الذي حدث بعد حظر مؤسسة الأقصى للوقف والتراث إسرائيليا عام 2016 والتي عملت بها سنين عديده مديرا لوحدة الاثار والمقدسات وقد كانت وبحق درعا حامية للمقدسات ، وكنا نصل الليل بالنهار في سبيل المحافظه على ما تبقى من هذه المقدسات ونسعى للتواصل معها.

اليوم اتحدث عن جهود فردية شخصية أقوم بها، في كثير من الأحيان أقوم بتفقد المواقع عند عودتي وزياراتي للبلاد كما فعلت في زيارتي التي عدت منها الى إسطنبول قبل أيام وبها وثقت وتحققت من انتهاكات مباشره لمواقع ووثقت سوء حال البعض الاخر..

اخر الانتهاكات التي وثقتها هذا العام كانت لحفر أرضية المسجد العمري في بيت جبرين بعد ان وصلتني المعلومات من الأصدقاء، ومن معاينة المكان تبين انه تم نبش ارضيته في ما يزيد عن ثلاث مواضع: اسفل المحراب، حفرة واسعه عميقه اسفل المنبر في وسط الجامع وحفر أخرى متفرقه، علما ان المسجد لا يبعد عن مقام الصحابي تميم بن اوس الداري الذي نبش أيضا قبل مدة من الزمن(عام 2020) وهو في حال سيئة جدا ويحتاج الى ترميم فوري. نبش وحفر أرضية مقام النبي هوشان بالقرب من شفاعمرو والذي أخبرنا بنبشه قبل أيام وقد حفرت ارضيته بشكل بربري، أيضا تكسير قبور ونبش مقبرة بيسان، جرف مقبرة اليوسفية في القدس، وأيضا إتمام بناء " مبنى التسامح " على ارض مقبرة مأمن الله في القدس بعد ان نبشت المقبرة لسنوات عديده.

كيف تقيم النشاطات والفعاليات التي تعنى بالمقدسات

اقولها وبكل اسف، معظم الفعاليات الحاصلة تصب في خانة رفع العتب... لا يوجد دور جاد للسياسيين والأحزاب والقادة على مستوى الداخل العمل شبه مغيب ويقتصر غالبا على نشاطات ومبادرات لمجموعات صغيره او مبادرات فردية كما هو الحال مقبرة القسام في بلد الشيخ في حيفا والمسجد الصغير ومحاولات الاخوة هناك الحفاظ عليهم بحسب امكانياتهم المتواضعة. أحيانا بتنا نرى اعمال ترميم لمقبرة هنا او هناك على استحياء والتي اصنفها ضمن نشاطات رفع العتب او النشاطات الموسمية ...
- لا يعقل ان زيارة المساجد والمقدسات والقرى المهجرة تكون موسمية تقتصر على مجموعه صغيره..
- لا يعقل ان الاهتمام بالتراث والارث الفلسطيني أصبح غالبا احياء للذكرى والمناسبات، بل ومنها من انقلب الى افراح شعبية ... لا بد من إعادة ضبط البوصلة فالمقدسات هي هوية الأرض وتحتاج منا الى وقفة جادة
- في هذا المقام أوجه العتب الشديد الى كافة الأحزاب والهيئات وعلى راسهم لجنة المتابعة ولجنة رؤساء السلطات المحلية وكل النشطاء والفاعلين لأخذ دورهم في الحفاظ على المقدسات


ما هي سبل الحفاظ على المقدسات
من اجل التصدي للانتهاكات لا بد من نشاط دائم ومدروس بعيد عن التنظير الإعلامي، لا يعقل انه لا يوجد جسم او مظلة راعية للمقدسات الفلسطينية. في هذا المقام لا بد من حراك جاد مدروس وممنهج على كافة الأصعدة مستغلين جميع السبل المشروعة والمتاحة دون خوف او تردد، متعالين عن المصلحة الحزبية او الشخصية الضيقة، فالمقدسات فوق الجميع وهي فوق كل شيء، ونحن عندما نحافظ على المقدسات لا نحافظ على البناء فحسب بل نعيد ونحفظ انفسنا وهويتنا من خلال تلك المقدسات والتي هي الصلة المادية بيننا وبين ارضنا المباركة.


على الصعيد الشخصي علينا ان نتواصل مع المقدسات والأرض، وعلى كل انسان ان يستنفذ الطاقات والامكانيات التي يمتلكها نصرتا للمقدسات: الرسام يستطيع ان يرسم لنا هذه الأماكن ويخلدها. المنشد يستطيع ان يحدي لنا الالحان التي تربطنا مع ارضنا ووطنا. المهندس والمساج يستطيع ان يمسح ويوثق لنا المساجد والمقدسات. المصور يستطيع ان يلتقط لنا صور جميلة من عمائر وانحاء ارضنا نحفظ من خلالها ذاكرتنا. الجد يستطيع ان يحدثنا عن قصص الماضي وعلاقته بالأرض والوطن وينقل لنا قصص الأجداد ومحبتهم لأرضهم وعدم تفريطهم بها. الام او الجدة تستطيع ان تطبخ لنا وتطعمنا من خيرات هذه الارض واكلها التراثي

على الصعيد المحلي: أولا يجب احياء قضية المقدسات وجعلها دائما محور الحدث وضرورة التواصل معها طيلة الوقت والعام، لا بد من وقفات جادة للتصدي للانتهاكات واحياء هذه القضية وبثها في كل المنابر، لا بد من تنظيم النشاطات والفعاليات الجماهيرية من زيارات للمقدسات وفعاليات متنوعة تصلنا بهذه المقدسات، لا بد من تسخير الجهود من اجل ترميم المساجد وتوثيقها وتوثيق انتهاكاتها. يمكن القيام بالندوات والمحاضرات والمهرجانات والمؤتمرات التي تسلط الضوء على ما يحدث..


على الصعيد القانوني...

مفروض ان الحديث عن الوضع الراهن وعن مباني صمدت النكبة ومن ثم عمليات الهدم الممنهج ولم تهدم، وبالتالي وبحسب القانون الإسرائيلي فهي مباني قائمة يجب حفظها، اضف الى ذلك ان الحديث بالغالب عن مساجد اثرية والتي يجب حفظها بحسب القانون الإسرائيلي والدولي وأيضا يجب ترميمها الا انها تتلقى الاعتداءات المتكررة ، وبالتالي لا بد من حراك قانوني وجاد وتشكيل ضغط على المؤسسة الإسرائيلية وفضح ممارساتها دوليا من اجل انقاذ ما يمكن انقاذه من المقدسات. في هذا المقام لا اعول كثيرا على المؤسسة الإسرائيلية التي تسعى أصلا الى تهويد الأرض وذاكرتها، ولكنا ومن خلال العمل الجماهيري والضغط الشعبي والعالمي نستطيع ان نحرج هذه المؤسسة ونكشف سياستها الرسمية الساعية الى اقتلاعنا من ارضنا..


على الصعيد الإسلامي لا بد من حراك جاد للحفاظ على المقدسات والموروث الاسلامي، فمن هذه المقدسات التي يتم الاعتداء عليها قبور صحابة كرام كما حدث مع قبر الصحابي تميم الداري في بيت جبرين والذي انتهك أبشع انتهام، وأيضا مقامات صحابة كرام والذين هم ليسوا خاصة للفلسطينيين بل للامة الإسلامية جمعاء.


ولعلنا هنا نخص الدولة التركية كونها حاملة للإرث العثماني العظيم متصلين بأجدادهم الذين بنوا وعمروا الكثير في هذه الأرض المباركة، وارثهم هذا هو من أكثر ما يتعرض لانتهاك وتدمير. وأيضا بقية المسلمين الذين اتصلوا بهذه الأرض وعمروا بها واوقفوا بها الأوقاف كالسادة الاشقاء من المغرب العربي الكبير التي ما زالت اوقافهم وعمائرهم ومساجدهم شاهدة على صلتهم بهذه الأرض المباركة<


على الصعيد الدولي

لا بد من حراك دولي جاد للحفظ على هذه المواقع ، فارض فلسطين فيها من المعالم ما هي ارث انساني يجب حفظه للعالم اجمع، وقد عمدت المؤسسة الإسرائيلية وما زالت تقوم على تدمير هذا الإرث وبالتالي لا بد من تفعيل الأطر الدولية والعالمية من اجل ردع هذه المؤسسة عن ظلمها للمقدسات وانتهاكها لحرمة الأموات وتجريف قبورهن

كلمه اخيره
اكرر واشدد واوجه صرخة عاتية ومناشده لأهلنا في الداخل وشعبنا الفلسطيني على المستوى الفردي والقيادات الجماهيرية بضرورة الحراك الجاد لإنقاذ ما تبقى من المقدسات الإسلامية والمسيحية في الداخل الفلسطيني. كذلك اخاطب الامة الإسلامية من اجل اخذ دورها والدفاع عن مقدساتها ومساجدها فلا يعقل ان تنبش قبور صحابة ولا يحرك العالم الإسلامي ساكنا في سبيل الدفاع عن هذه المقدسات، ولعلنا هنا نوجه نداء الى الأخوة الاتراك شعبا وحكومة مطالبين منهم القيام بدور جاد من اجل ما تبقى من ارثنا الاسلامي وارثهم العثماني في الأرض المقدسة.

وأيضا نخاطب المجتمع الدولي بضرورة التحرك السريع والعاجل للحفاظ على الإرث الإنساني فلا يعقل تدمير الانسان والمقدسات والاعتداء على المقابر وتجريفها.. واعود وأؤكد على ان الركيزة الأساس هي على أبناء الداخل الفلسطيني الذين من واجبهم الحراك من اجل الحفاظ على ما تبقى من مقدساتهم وعلى ضرورة الحراك الشعبي والجماهيري وتشكيل الضغط المحلي والدولي على المؤسسة الإسرائيلية في سبيل ردعها عن المساس بمقدساتنا الإسلامية والمسيحية في الأرض المقدسة. أؤكد ان المقدسات فوق كل شيء وفوق الحسابات الشخصية والحزبية الضيقة والسعي للحفاظ عليها والعمل من اجلها هو المقياس الحق لاتصال الفرد والمجموعة بارضها وبإرثها وصدق عملهم من اجلها...


وفي هذا السياق ادعوا لإطلاق حملة محلية- دولية تحمل اسم " اغيثوا ما تبقى من مقدساتنا في الداخل الفلسطيني" لعلنا نستطيع من خلالها ان نحفظ ما تبقى من مقدساتنا ...

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]