قال محافظ بنك إسرائيل في مؤتمر كلكليست: "انا سعيد لفرصة التحدّث هنا اليوم في المؤتمر. هذه الأيّام بالغة الأهمية فالحملة الانتخابية تشارف على الانتهاء، وملايين الطلاب في إسرائيل يعودون إلى مقاعد الدراسة لاكتساب العلم والأدوات المطلوبة لقيادة الدولة مستقبلا. سأستغل الفرصة لمناقشة القضايا التي تشغل كل واحد كفرد، وكلنا، بالذات بنك إسرائيل، على المستوى العام، مستقبل أبنائنا والأجيال القادمة ومستوى الحياة الذي يهمنا تحسينه لصالحهم ولصالحنا كدولة.

قبل عدّة أيّام، نشر قسم الأبحاث في بنك إسرائيل تقرير شامل تناول الخطوات المطلوبة لرفع مستوى الحياة في إسرائيل. سألنا أنفسنا في البنك كيف نفعل ذلك، والجواب أنّ التركيز يجب أن يكون على تحسين الإنتاجية للعامل في إسرائيل. هذه هي "خارطة الطريق" التي رسمناها. هذه التوصيات تجسّد التزام بنك إسرائيل بالتركيز على المواضيع الماكرو اقتصادية الأكثر أهمية للجهاز الاقتصادي في إطار وظيفتي كمستشار اقتصادي للحكومة.

سأتطرّق أولا بشكل مختصر إلى الرؤية التي توجهني وتوجّه بنك إسرائيل عند العمل مع محدّدي السياسات. القرارات الحكيمة التي اتخذها محدّدو السياسات في الدولة منذ قيامها وحتى اليوم رسّخت وعزّزت اقتصاد إسرائيل واستقرارها وقوّتها، وأوصلتنا إلى الوضع الذي نتواجد فيه اليوم والذي يتطلب البدء باتخاذ الخطوات المطلوبة من أجل تحضير الاقتصاد والجهاز الاقتصادي للعقود القادمة. تطبيق توصيات بنك إسرائيل يساعد في تحقيق مستوى حياة عالٍ في إسرائيل مستقبلا. وانا أقول ذلك بكل ثقة.

بالتأكيد فانّ الأمر منوط باستثمار ليس بالقليل. تكلفة الخطوات الواردة في التقرير عند تطبيقها بشكل كامل خلال عدّة سنوات ليست بالقليلة: نحو 3% من الناتج سنويًّا، أي نحو 44 مليار شيكل بالنسبة للناتج الحالي. يعود سبب التكلفة المرتفعة إلى عمق الفجوات المتراكمة في المجالات المختلفة على مدار العقود الأخيرة. لكن، هذا الاستثمار سيعود بالنفع ووفق تقديراتنا فانّ الإضافة على الناتج للمدى البعيد ستكون أكثر بكثير، نحو 20% من الناتج سنويًّا، أي نحو 270 مليار شيكل أكثر لأولادنا والأجيال القادمة.

أؤكّد أنّ تطبيق الخطة لا يأتي على حساب الحاجة لمعالجة القضايا المالية والعجز العميق بشكل جاد. قمت سابقًا بتعداد الخطوات المطلوب من الحكومة عملها لمواجهة المشاكل المالية: تقليص المصروفات غير الناجعة، الغاء الإعفاءات الضريبيّة، وعلى ما يبدو أيضًا زيادة نسبة الضرائب. وهذا لا يتعارض مع الحاجة أو الامكانية لبدء تطبيق التوصيات منذ الآن. أولا لأنّ مرحلة التخطيط وبناء الأدوات لتطبيق الإصلاحات تأخذ الوقت، وبالمقابل فانّ تكلفتها هامشية نسبيًّا. اضافةً إلى أنّ هنالك توصيات عديدة يمكن تطبيقها منذ اليوم لأنّها مرتبطة بتغيير مسار مصادر قائمة وأمور إدارية.

سأتحدّث حاليًّا حول أهم التوصيات وخلفية التقرير: الناتج لساعة العمل في إسرائيل، ما نعرّفه نحن كخبراء اقتصاديين "انتاجيّة العمل" أقل ب 24% مقارنةً بالمتوسط في دول ال- OECD، وهذه الفجوة لم تتقلص في العقود الأخيرة. لهذه الفجوة أبعاد كبيرة على مستوى الحياة في إسرائيل: الإنتاجية المتدنية مقارنةً بالدول المتقدمة تنعكس من خلال أجور العمل ومستوى الحياة الأقل في إسرائيل. هذه الفجوة في الإنتاجية في العمل تعود لعدّة عوامل: الجودة المنخفضة نسبيًّا للتعليم في إسرائيل، تخلف مستوى البنى التحتية وكميّة رأس المال التجاري والبيروقراطية والأمور التنظيميّة في القطاع العام.

في مجال التعليم، في السنوات الأخيرة تعمّق الاعتراف أنّه رغم كون إسرائيل أمّة ستارت أب أنتج فيها الديسك أون كي، ويز، موبيلاي، والعديد من حلول السايبر المركبة، الا أنّ قدرة غالبية العمال في إسرائيل على حل مشاكل أساسية هي ضعيفة. إسرائيل تمتاز بعدم المساواة الكبير في التحصيل التعليمي وفروقات كبيرة في مهارات العمل ما بين العمال، فجوات كبيرة في الأجور، وفروقات كبيرة في الإنتاجية في القطاعات المختلفة. في حين أنّ العمال الأقوياء في إسرائيل يتساوون من حيث الإنتاجية والمهارات مع العمال الأقوياء في العالم، الا أنّ العمال الضعفاء هم أضعف بكثير من نظرائهم في العالم.

إذن كيف نقوّي "الضعفاء" ونزيد من إنتاجية العامل الإسرائيلي؟

هنالك علاقة مباشرة ما بين جودة التعليم للقوى العاملة والإنتاجية، مع التشديد على أهميّة القدرات التفكيرية الأساسية، والتي تمكّن من التغيير المهني طوال الحياة.

من المهم أن أقول أنّ الفجوات في جودة التعليم في إسرائيل قائمة تقريبًا في كل فئات الجيل. لذا فانّ معالجة الأمر يجب أن تشمل كل الدرجات التعليمية ابتداءً من جيل الطفولة المبكرة. الحاصل على جائزة نوبل James Heckman وجد في أبحاثه أنّ نقطة الانطلاقة في جيل الطفولة المبكرة بالغة الأهمية للنجاح الاقتصادي في الحياة، وبالذات فيما يخص الأولاد من خلفية اجتماعية واقتصادية متدنية. لذلك من المهم أن تبدأ الحضانات باستقبال هؤلاء الأولاد من جيل مبكر. ومقابل ذلك، من المهم توفير الدعم المالي لتغطية تكاليف الحضانات للفئات السكانية الضعيفة وبذلك تحفيز الوالدين على العمل. هذه الخطوات تؤدي إلى ربح مضاعف: المساهمة بشكل كبير لصالح النمو المستقبلي والمساهمة كذلك في تقليص الفجوات وزيادة تكافؤ الفرص.

كخبراء اقتصاديين، نحن نتجنب العمل في المجال التربوي. ونركّز على المحفزات التي تساعد على تحسين المجال، ونوصي بملاءمة مبنى المكافآت للمعلمين للاحتياجات المستعجلة للجهاز: تحسين المكافآت لأصحاب التأهيل في المواضيع التي تعاني من تدني التحصيل ونقص في المعلمين مثل الرياضيات والعلوم واللغة الإنجليزية، وتحسين المكافآت للمعلمين الذين يدرّسون مدارس مع طلاب من خلفية ضعيفة. كل ذلك بشرط أن تكون عمليات تقييم متتابعة بشأن، مدى نجاح المعلمين والمدارس في تحسين وتطوير السيرورة التعليمية والتربوية والاجتماعية.

إضافةً إلى الاستثمار المطلوب في الأجيال الشابة، هنالك أيضًا خطوات مطلوبة بخصوص البالغين. الاستثمار في إسرائيل في تطوير رأس المال البشري في أوساط البالغين من خلال التأهيل المهني هو منخفض. زيادة المرونة في سوق العمل وزيادة سنوات العمل نتيجة زيادة متوسط العمر وجيل التقاعد، تلزم خطة إصلاحية كبيرة في هذا المجال. سواء من حيث تحسين جودة الكليات التكنولوجية وكذلك ملاءمة المضامين للتأهيل. الخطة الإصلاحية التي تبنتها الحكومة مؤخرًا في مجال الكليات التكنولوجية هي خطوة هامّة بالاتجاه الصحيح، والتوصيات الواردة في هذا المجال في مسودّة تقرير لجنة 2030 الحكومية تشير إلى خطوات هامّة اضافيّة من شأنها المساهمة في معالجة موضوع التأهيل المهني في إسرائيل.

وفي مجال رأس المال التجاري فانّ الفروقات الكبيرة في الجهاز الاقتصادي الإسرائيلي تنعكس من خلال حجم الابتكار والاستثمار في رأس المال المادّي مقارنةً بالفروع الأخرى. في هذا المجال، وضعنا جيّد في الفروع المصدّرة وبالذات فروع البرمجة، لكن نحتاج إلى التحسين في بقيّة فروع الجهاز الاقتصادي. ما سبب ذلك؟ أولا، الفرضيّة أنّ جزء من ذلك هو نتيجةً طبيعيةً لقوى السوق، فإسرائيل طوّرت لتفسها ميزة نسبيّة في مجال الهايتك الذي ينجح في إجراء استثمارات ناجحة وجذب خبراء برمجة مميّزين. لكن التدخل الحكومي يشجع مجالات النشاط الناجحة هذه بشكل مباشر وتقريبًا حصري، وبذلك يزيد سعر عوامل الإنتاج البشرية والمادية في الفروع الأخرى التي تشغل غالبية العمال في الجهاز الاقتصادي. وعلى مدار الوقت، فانّ انتاجيّة الشركات المصدّرة ستواجه صعوبة في مواصلة النمو حين تظل الشركات التي تزودها بالمواد الخام والخدمات متأخرة.

بناءً عليه، فانّ المطلوب هو تغيير تدريجي يحوّل الدعم لفروع الجهاز الاقتصادي إلى دعم يستند على تشجيع مجالات النشاط والفروع المختلفة بحسب المقياس الاقتصادي الذي يعود على الجهاز الاقتصادي بالعائد الأكبر مقابل الاستثمار والدعم الحكومي، أيضًا في أوساط المصدّرين، بحيث يستمرون بالاستفادة منه، وأيضًا في أوساط المنتجين المحليّين. من المهم التركيز على تفعيل خطط تدعم إزالة المعيقات التي تعيق الانتاج وادخال المعرفة الخاصّة والابتكار وأساليب الإدارة التي من شأنها أن تصل لشركات أخرى. هذه السياسة، إلى جانب تأثير التنجيع وتقليص البيروقراطية، من شأنها المساهمة بشكل كبير في زيادة مخزون رأس المال في الفروع المصدّرة والفروع المحليّة سويًّا.

وبالنسبة للبنى التحتية، فانّ نسبة الاستثمار في البنى التحتية للمواصلات العامة في إسرائيل شبيهة في السنوات الأخيرة بمتوسط نسبة الاستثمار في دول-OECD، الا أنّ هذه النسبة بعيدة عما هو مطلوب لاغلاق الفجوة في مستوى البنى التحتية للمواصلات العامة في إسرائيل. وذلك بسبب الفجوة المتراكمة وزيادة عدد السكان السريع في إسرائيل. انّ تحسين البنى التحتية للمواصلات، بالذات العامّة، من شأنه تقليص الوقت الذي يتم اضاعته على الطرقات.

وبخصوص الأمور التنظيميّة وبيئة الأعمال فانّ إسرائيل تندرج في المرتبة ال-29 من بين دول ال-OECD البالغ عددها 34 من حيث التسهيلات التنظيميّة في مجال الأعمال. ورغم اعتراف الحكومة بأهميّة الموضوع، فانّ التحسّن الفعلي معقّد وبطيء جدًّا. بناءً عليه، من المهم تسريع عمليّة تبني القواعد التنظيميّة المتبعة في الدول المتطورة الأخرى، الا اذا كانت هنالك أسباب جوهرية تمنع ذلك في حالات عينيّة. ويساعد ذلك في تخفيف العبء التنظيمي من ناحية وزيادة المنافسة الدولية في الجهاز الاقتصادي من ناحية أخرى. إلى جانب ذلك، لتنجيع البيروقراطية، نقترح تحديد أهداف تشجع على تبني العمليات الديجيتالية في الخدمات الحكومية للقطاع التجاري وذلك في اتفاقيات الأجور في القطاع العام.

يمكن الاستدلال بخصوص القدرة على تمويل الاستثمار المطلوب من خلال الوضع المالي الحالي، اذ أنّ العجز البنيوي للحكومة ارتفع في السنوات الأخيرة لأكثر من 3.5% من الناتج، وبدون إجراء تصحيح كبير فمن المتوقع أن يستمر في الارتفاع في 2021 وما بعد. تطبيق البرنامج لن يكون على حساب الحاجة إلى معالجة القضايا المالية والعجز العميق، بالعكس تمامًا، الاستثمارات المطلوبة تلزم معالجة العجز القائم بشكل سريع وحازم.

نظرًا لكون المصروفات الكبيرة مقابل الخطط المعروضة أعلاه متوقعة خلال عدّة سنوات، بعد تطبيق الخطوات الاستباقية وتجهيز خطط تطوير البنى التحتية، من المهم أن تستعد الحكومة للتطبيق بأسرع وقت ممكن من حيث الأطر المالية التي تتيح هذه الاستثمارات القادرة على تحسين مستوى الحياة في إسرائيل بشكل كبير. هذا الاستعداد مهم، أولا لضمان استمراريّة استقرار الجهاز الاقتصادي، لكن أيضًا لتحسين توفر المصادر لتمويل الاستثمارات المطلوبة. وهذا يعني الدخول بأسرع وقت لعجز يضمن على الأقل استقرار نسبة الدين العام للناتج المحلي الإجمالي، والحفاظ على هذا المستوى في السنوات القادمة، إلى جانب التطبيق التدريجي للخطوات الداعمة للنمو المقترحة هنا.

أود التأكيد على عدم نيتنا بالتوصية على تمويل الاستثمارات، رغم العائد الكبير المتوقع منها، من خلال العجز وتراكم الدين العام. مستوى العجز الحالي حسب تقديراتنا هو مرتفع ولا يسمح بارتفاع إضافي، بسبب المخاطر الماكرو اقتصادية على المدى القصير الكامنة بذلك. اضافةً إلى ذلك، فانّ التمويل من خلال العجز يخلق مخاطر بشأن جودة اختيار المشاريع وفقدان التحكم بالتكاليف.

للتلخيص، هذه التوصيات تعكس الإمكانيات الملموسة التي نضعها أمام محدّدي السياسات لرفع مستوى الحياة في إسرائيل. قوتّها حسب رأيي بكونها مدمجة معًا ومفصّلة بشكل كافٍ من حيث تكلفة كل بند وبند في التقرير. وتطبيقها بشكل متوازٍ يزيد من احتمالات النجاح إلى الحد الأقصى".

 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]