بين البحر الأبيض المتوسط وبين جبل الكرمل حاصرت الصهيونية مدينة حيفا فكان بالنسبة لها نيسان أقسى الشهور بعدما كانت ثاني مدينة فلسطينية تحتل بعد طبريا. من وقتها شهدت المدينة محاولات إسرائيلية تواصل الليل بالنهار لتهويد ما نجا منها من ملامح فلسطينية واستبدال روحها وجسدها بالكامل. لكن " عروس الكرمل " ظلت تبحث عن عودة الروح واستعادة ملامحها الأصلية بفضل بعض الأوساط الاجتماعية والفعاليات الثقافي منها نادي حيفا الثقافي من الفعاليات الثقافية الرائدة. يعود الفضل في هذا المشروع للمحامي فؤاد نقارة( 60 ) وزوجته سوزي نقارة اللذين يواظبان منذ ثماني سنوات على تنظيم ندوة ثقافية مساء كل خميس دون انقطاع. وفؤاد نقارة هو من صنف المحامين المهدد بالانقراض الذي يعمل ويقرأ أكثر مما يكتب ولا يسمح لمشاغل العمل الحقوقي كمحام أن تهيمن عليه وعلى حياته. ويبدو أن " فرخ البط عوام " في الثقافة أيضا فالمحامي فؤاد نقارة هو ابن شقيق المحامي والمناضل المثقف الراحل حنا نقارة صاحب كتاب " مذكرات محامي فلسطيني " وقد جمعتهما الكيمياء بقدر ما جمعتهما البيولوجيا. الراحل حنا نقارة هو الآخر ابن مدينة حيفا وقبيل نكبتها لم تغرقه أعباء المحاماة وظل وفيا للثقافة فبادر والأديب الراحل عبد الكريم الكرمي( أبو سلمى) لتشكيل النادي العربي الأورثوذوكسي في حيفا فاقتدي به فؤاد بعد عقود.
بداية المشوار
بدأ مشوار نادي حيفا الثقافي عندما عمل فؤاد نقارة سكرتيرا للمجلس الملي الأورثوذوكسي الوطني في المدينة صاحب الكلية العربية الارثوذكسية، بهدف نشر الثقافة،الفكر والوعي وإبراز الوجه الثقافي للمجتمع الفلسطيني في المدينة وفي البلاد. المحامي فؤاد نقارة الذي يصفه بعض أصدقائه بـ " مهووس الكتاب "،يشير لرغبته أيضا للمساهمة في إلقاء الضوء على المبدعين الفلسطينيين على طرفي الخط الأخضر والشتات فالنادي حيفا الثقافي بالنسبة له مشروع تنوير ثقافي واجتماعي.
ألفية أبو علاء المعري
ويحرص فؤاد نقارة على إبقاء الصفة الوطنية والقومية للنادي كما كان مرة في حيفا حتى النكبة " النادي الأورثوذوكسي العربي " الذي تأسس عام 1938 ودأب على تنظيم ندوات وفعاليات شهرية منها دعوة الأديب البارز إبراهيم المازني من مصر والشاعر الكبير محمد الجواهري من العراق وإحياء ندوة أدبية كبيرة بمناسبة مرور 1000 عام على رحيل أبو العلاء المعري. وردا على سؤال يوضح فؤاد نقارة أنه يرى بنادي حيفا الثقافي اليوم استمرارية للنادي العربي الأورثوذوكسي معتبرا عمه حنا نقارة قدوة ومدرسة للثقافة وللعمل الوطني الاجتماعي. يستعين فؤاد نقارة ببعض أصدقائه من حين لآخر لكنه اليوم يتحمل وزوجته أعباء الندوة الأسبوعية التي تحتاج لكثير من التحضيرات والترتيبات والاهتمام بالأمور اللوجستية. ولا تحتاج لمحادثة مطولة مع فؤاد نقارة حتى تستنتج أنه مولع بكل كتاب قيم وهو لا يكل ولا يمل حتى يحصل عليه مثلما أنك تستنتج عن رؤيته الوطنية الجامعة فالخط الأخضر بالنسبة له سياسي فقط وغير قائم وطالما ينظم ندوات حول كتب تصدر في الأرض المحتلة عام 67 وفي الشتات ولكتاب عرب لا فلسطينيين فحسب ولذا يحرص على بث وقائعها للعالم بالفيسبوك.
العالم العربي
ويضيف " اهتم بـ إطلاع العالم العربي على كتابنا في الداخل وتغيير الصورة النمطية عنا خاصة أن لديهم منتوج أدبي وثقافي وعمل وطني يفتخر به ولذا أقوم يوميا بنشر قطعة عن كتاب يعجبني". ويتطابق المحاميان نقارة بالحب الكبير للكتاب ففي مذكراته يقول الراحل حنا نقارة إن أكثر ما أوجعه عندما خرج من السجن الإسرائيلي في 1949 اكتشافه نهب مكتبته المنزلية فطاف المدينة بحثا عنها واقتنى من سماسرة يهود كل كتاب سرق واسمه موقع عليه ممتنعا عن اقتناء كتب غيره المسروقة. فؤاد نقارة الذي يعشق البحر وتستهويه هواية صيد الأسماك منذ عقود يؤكد أن الفعاليات الثقافية التي تتعب جسده تدخل المسرة قلبه وعن ذلك يقول جازما " أعمل محاميا لكن خدمتي للثقافة وللمجتمع طواعية تمنحني طاقة كبيرة وشعورا طيبا بالرضا والمتعة حتى عندما كانت تضطرني للإنفاق عليها من حسابه". موضحا أنه يدأب على القراءة لثلاث ساعات كل يوم رغم أن عينيه لا تساعداه بذلك وما زال عشقه الأول للرواية الأدبية فهي الأصدق والأقرب لقلبه مقارنة بكتب أخرى تتسم بالتقريرية وبالوعظ وغيره. وبندوته الأسبوعية يساهم المحامي الحيفاوي في لم الشمل وتواصل الفلسطينيين في الداخل إذ يأتونه من الجليل والمثلث وبقية مدن الساحل ويستغرق بعضهم السفر مسافة 100 كيلومتر ذهابا وإيابا للمشاركة بالندوة. ويعرب نقارة عن سعادته لتقدير الكثيرين لما يقوم به برسائل صوتية ونصية واتصالات من البلاد والعالم وهي تمنحه المزيد من طاقات الدفع والاستمرار.
ويشارك العشرات من المشاركين الدائمين في ندوة الخميس الثقافية المحامي فؤاد نقارة الشكر والتقدير للمجلس الملي الأرثوذكسي الوطني في حيفا لدعمه غير المحدود لنشاطات النادي واستخدام أملاكه للفعاليات.
خلود فوراني .. عاشقة للثقافة
خلود فوراني سرية واحدة من السيدات المهتمات بالثقافة العامة والثقافة العربية والفلسطينية تلعب دورا مهما بهذا المضمار فهي مسؤولة الإعلام في نادي حيفا الثقافي والتي تكتب تقارير حول فعالياته وتعممها على الصحافة والمواقع. وترى خلود ان نادي حيفا الثقافي قد
غدا ظاهرة ونموذجا يحتذى به في خدمة مبدعينا والأخذ بيدهم، دون تفرقة، فهم الوجه الحضاري لنا". وتشير أنه لا يختلف عاقلان أن لنادي حيفا الثقافي - الدفيئة الحاضنة لمبدعينا ومبدعاتنا- رصيدا حقيقيا في توثيق ودعم الحركة الثقافية في البلاد. وتتابع" يهمني التنويه أن انفتاحنا الثقافي على الضفة والقطاع وعلى العالم العربي، مع التزامنا بقضايا المجتمع هو استحضار لقضيتنا العادلة بمقاربة الموروث الأدبي ومزجه في كل أمسية ثقافية بالفن التشكيلي والبصري على أنواعه. وردا على سؤال تقول خلود فوراني سرية " لا زلت أؤمن أن في العطاء سعادة وما دام لدي ما أقدمه في هذا المجال، والانتماء للغتي الأم وقوميتي يتملكني فلم لا أنفع مجتمعي وأنتفع بالمحبة العائدة ؟
300 ندوة
وتقول الكاتبة حوا بطواش من بلدة كفر كما الشركسية،إحدى المشاركات الدائمات تقريبا في فعاليات منتدى حيفا الثقافي إنها من رواده منذ سنوات وحضرت فيه العديد من الأمسيات الأدبية والثقافية وقد شهدت تطوره الكبير على مر السنين. وتابعت حوا بطواش قولها في الثناء على هذا المشروع الثقافي " بات هذا المكان صرحا ثقافيا مهما يستقطب أسبوعيا العديد من المثقفين من كل أنحاء البلاد، من كتاب وشعراء وفنانين ونقاد وصحفيين وإعلاميين وغيرهم... يحتضنهم النادي بدفء ومحبة، فيلتقي فيه المثقفون، يتبادلون المعرفة والحوار، يشهرون فيه كتبهم، يناقشون مضامينها بموضوعية ويتبادلون الآراء والأفكار".
كذلك ينظم نادي حيفا الثقافي نشاطا شهريا أيضا لمناقشة رواية مع أعضاء النادي وقد ناقش لغاية اليوم اكثر من سبعين رواية بعضها بحضور المؤلف/المؤلفة و لغاية اليوم أقام نادي حيفا الثقافي أكثر من 300 أمسية ثقافية وأخرها كتاب " وزر الروح " لـ الكاتبة النصراوية نسرين طبري تخللها معرض رسومات للرسام النصراوي سهيل طبر الموهوب في مجال العزف على الكمان أيضا. وكرست الأمسية الثقافية الأخيرة للكاتبة نسرين طبري واشهار روايتها "وزر الـنوايا " مع مداخلات الدكتورة كوثر جابر قسوم، الدكتور رياض كامل، والطالب المتألق في الخطابة والعاشق للعربية مروان محمود سرية المشارك بمسابقة الخطيب الصغير وعرافة الشاعرة سلمى جبران.
[email protected]
أضف تعليق