اختار القيادي الوطني الشيوعي والمثقف الراحل طيب الذكر نمر مرقس " أقوى من النسيان " عنوانا لكتاب مذكراته الصادر عام 2000 وصدق لاسيما أنه يسوق رواية الإنسان والمكان الفلسطينيين بأسلوب " عميق ورشيق". لكن مرقس الذي لم ينس كل حجر جرفته سيول التهجير أو بقي في وديان الوطن استحق الاستذكار مما تم حتى الآن في حياته ومماته. لا أقول إن نمر مرقس يكاد مواجهة النسيان لكن حقه علينا جميعا كمجتمع وكحزب وهيئات سياسية وثقافية أن تعمم تجربته وتستلهم سيرته ومسيرته. أعرف باطلاع مباشر أن " أبو نرجس " أعطى أكثر بكثير مما أخذ من السياسة وعلى الأقل الفرصة مفتوحة لتصحيح الغبن في غيابه على الأقل وقد غاب جسدا منذ 2013. هذا ليس انتصارا للحق والحقيقة فحسب وهذا ليس حق الرجل على شعبه فقط بل هو واجب كل شعب حيّ استذكار هذه التجارب العصامية النضالية كي تكون ملهمة للشباب وهي راية جيل يمضي لجيل قادم كما أشار وما زال يشير من مرقده في بطن جبل حيدر الشاعر سميح القاسم. هذه ليست كلمة عتب ولا ملامة بقدر ما هي تذكير بضرورة الوفاء لجيل سجله حافل بملاحم البقاء رغم الشقاء وبتصميم الغصن على الحياة رغم العواصف وبفضلهم باتت الشجرة وارفة الظلال خضراء وثمارها طيبة في تضاريس شحيحة بالغة التعقيد. لا يتسع المقام هنا لذكر أمثال نمر مرقس الباقين والراحلين فهم كثر واستذكارهم وتكريمهم حق وواجب إنساني،أخلاقي ووطني.
الوطن فوق الحزب
تستطيع أن تقبل أو تتحفظ من توجهات هذا الحزب أو ذاك أو من القناعات السياسية حيال قضايا فلسطين لكن هذا لا علاقة له بالمنشود هنا فالرجل شديد التحيز للشيوعية لكن الوطن ظل أعلى منزلة وهذه معدلة لم تعد مفهومة ضمنا اليوم. كما أن القواسم المشتركة كبيرة ونهر النعامين أو المقطع أو نهر العوجا لم يكن ليتكون لولا روافده الكثيرة التي تصب في بحر واحد،بحر عكا وحيفا ويافا. أحيانا تتشابه المطالعة بالأطعمة،زوادة البطون والذهون فتتطابق الأذواق أو تختلف ومع ذلك لن أتردد بإهداء كتاب " أقوى من النسان " للمعارف والأصدقاء بفضل جودة مضامينه. أكثر من ذلك،هذه فرصة للاقتراح بإعادة نشر مثل هذا الكتاب من قبل الأحزاب والفعاليات الثقافية حتى تكون نورا وإلهاما لمن بقوا وللاحقين بفضل السابقين بل تعميمه على مستوى الوطن والشتات ففيه موجز لرواية بقاء وصمود من تركهم عالم عربي كما تترك الأم رضيعها في السرير وتهرب على حد قول الشاعر المذكور. لا مجال لاستحضار كل جواهر ودرر الكتاب في مقال عابر ولنكتفي بالإشارة إلى أنه عصارة تجربة غنية لـ مناضل مثقف،موثق،صحفي ورئيس سلطة محلية وغيره في سيرة رجل واحد.
مواسم الحصاد
تحتوي جرة مرقس على حجارة كريمة لا تسهم سوية في بناء لوحة فسيفسائية جميلة عن الأرياف الفلسطينية خاصة في الجليل قبيل النكبة. بأسلوب عفوي مطعّم باللغة العامية الجميلة يأخذك نمر مرقس رحلة مدهشة لمواسم الحصاد ومواسم قطاف الزيتون،فتستريح معه عند مراتع الطفولة والصبا في مساحة وادعة من وطن يراه وبحق قطعة من الجنة وهذه رسالة تربوية تثقيفية دأب على غرسها قولا وفعلا لدى طلابه من خلال معانقة الوطن برحلات ميدانية بدلا من تعليم قصيدة تتغنى به. كتاب الراحل درس غني جدا بتاريخ وجغرافيا ومجتمع فلسطين خاصة في ريفها الشمالي.
سرد التفاصيل
بين صفحة وأخرى تصغي لإيقاع الحياة اليومية في فلسطين قبل انقضاض الصهيونية عليها فتكاد تشعر وكأنك في فيلم تسجل فيه الكاميرا كل ملامح الواقع بحلوه ومره بما يشبه جهد الجبرتي وبلغة أدبية صحفية جذابة. ولما كان نمر مرقس يؤمن بأن الله موجود في التفاصيل وبحق يجد المؤرخون في كتابه مادة دسمة لتوثيق حقبة سبقت النكبة وأخرى تلتها بقليل وهي الأخرى لم تكتمل روايتها. لم ير الراحل بنفسه مؤرخا ولذا فإنه بشكل عام لم يستند على وثائق تاريخية ولم يلتزم بقواعد جمع الرواية الشفوية لكن بوسع الباحث الاستناد لثراء مضامينه ومصداقيته العالية. وتعكس قصة حبه الأول أو قصة شقيقته المطلقة في مجتمع محافظ شفافيته التي تذكّر بشفافية المفكر ادوارد سعيد عن عقدة والده الأرستوقراطي والمحامي حنا نقارة عن فقر عائلته وعن أول قبلة مع خطيبته وشفيق الحوت عن علاقته بالرئيس عرفات في كتب مذكراتهم المدهشة بمكاشفتها وصراحتها. تدلل تسميات الوديان والجبال والمواقع الطبيعية في الجليل على قصة عشق مع المكان والمتنقل بين صفحات الكتاب وكأنه في رحلة أو جولة ممتعة في ربوع وطن ظل حبه متقدا في داخله.
نمر الصحفي
في " أقوى من النسيان " وجدت ذاتي هناك واطلعت على كلمة نمر مرقس الصحفي الذي بشّر وأنذر بكل ما يتربص بشعبه من تهديدات وتحديات ومراجعة دفاتر النضال الوطني بجرأة وشجاعة وبطرح أسئلة مؤمنا بأن الكلمة الناقدة حبة دواء. وهكذا أيضا في الحديث عن " استعلاء واستهتار " أفندية عكا وأرستوقراطيتها تجاه القرويين وهي تجربة خبرها حينما استكمل تعليمه الثانوي فيها. ويكشف في مذكراته أن والده " ناوله شتيمة من قاع الدست " يوم سأله عن المهنة التي يريد تعلمها فقال " تلكأت وتلعثمت ثم أجبته : أريد أن أتعلم الصحافة أو الرسم". وفي موقع آخر يكشف عن حبه للموسيقى والغناء فجاءت " أمل " وعوضت بمسيرتها الحافلة بعض ما تشظى من حلمه.
اختفاء حيفا
في المقابل يخال قارئ الكتاب أنه يسبح داخل بئر من الدموع لما تعرض له هذا الشعب من ويلات تبكي الحجر وسرعان ما يستنتج بأن بقاء " الغصن " رغم محاولات القطع والتجفيف بعد 1948 هو فعلا فعل ملحمي. يستحضر الكتاب صورة مروعة لـ عروس الكرمل تلك المدينة المدللة حينما زارها في نيسان 1948 قادما من دالية الكرمل ليصرف شيك الراتب فوجد البنك موصدا ولم يجد حيفا بعدما تحولت لمدينة أشباح وتزداد الصورة تراجيدية وهو يصف كيف يبتلع الميناء أهاليها وهم يفرون من الرصاص والقذائف. مرقس الذي انضم للحزب الشيوعي مبكرا ورغم الضغوط والملاحقات والنفي يقدم ضمن عشرات القصص لاستشهاد الشاعر الحيفاوي الثائر نوح إبراهيم وللصدمة التي ألمت بأهالي بلده كفرياسيف بعد سماع النبأ. ويستذكر قيام السيدة شيخة عبد الله بالنواح عليه بـعتابا مطلعها :
ثلاث غزلان في الصافح رعناّ...ورد وحواح وقرنفل رعناّ
وتتجلى رؤيته الإنسانية الأممية بالإشارة في عدة مواقع في الكتاب لدور النساء الفلسطينيات في حمل الهم والنضال الفلسطيني بكل ميادينه كما يتجلى في قصة ظريفة لفاطمة البكري وسواها علما أن الكتاب كله جاء واعيا للناحية الجندرية فعنوانه الفرعي كـ "رسالة إلى ابنتي ". هذه ليس مراجعة شاملة للكتاب لاسيما أنها تركزت في البدايات ولم تتوقف عند إدارته لمجلس محلي كفر ياسيف بكفاءة ونظافة يد تفرح القلب وتملأه أملا واعتزازا ولا بدوره القيادي قطريا بل عينة لتذوقه،فـ عن الكتاب والكاتب ينظم نادي حيفا الثقافي مساء الغد الخميس ندوة علها تفي ببعض ما للرجل وهو كثير وما أحوجنا لأمثاله اليوم.
[email protected]
أضف تعليق