في قصيدة أحمد الزعتر للشاعر محمود درويش وقف أحمد الزعتر خلفَ الماضي، أحمد المنسيّ والمذبوح يبكي جراح تل الزعتر، يومَ غابَ أهلُ المخيّم، وما بقي فيه سوى رائحة الموتى، وبقايا لأطفالٍ غابوا بعد أن قنصتهم البنادق، لم يكونوا فدائيين، ولم يُحاربوا، مع ذلك سجّلهم التاريخ في دفترِ الماضي.
التهجير من فلسطين
يحدّثنا د.يوسف عراقي، عن ارتباطه بوطنه فلسطين، وتهجيره إلى لبنان وعمله بتل الزعتر، إذ يقول: "ولدتُ العام 1945 في حيفا، وفي العام 1948 خرجتُ مع عائلتي التي هُجِّرت، وبقيَت أملاكنا غير منقولة، أراضٍ لا مالك لها، خرجنا فوجدنا أنفسنا قد صرنا "لا شيء"، وسنبدأ من جديد. كنتُ أذهبُ إلى المدرسة وأعمل في الصيف، لتمويل تعليمي، ولاحقاً حصلتُ على منحة لدراسة الطب في الاتحاد السوفيتي سابقاً، فكان الأمر حلمًا بالنسبةِ لي، وحين كان يسألني أحدهم لماذا أردتُ أن أكون طبيباً، كنتُ أقول لأنّ عائلتي ليس فيها طبيب، وقد حصلت حوادث أمامي وأنا طفل، ورأيتُ قسوة الحياة على الفقير والمحروم، ففي إحدى المرات حين كنا نلعب ونحنُ صغار، كُسِرت رِجلُ صديق لنا، أخذناهُ إلى المستشفى في لبنان، فرفضوا إدخاله وإعطاءه العلاج قبل أن ندفع المال، وهذه الحادثة أثّرت بي جدًا، وهي التي وجَّهتني نحو الطب".
يوميّات طبيب في تل الزعتر
يوسف عراقي الطبيب الذي ساهم بعلاج عدد من الفلسطينيين واللبنانيين والأجانب، تركَ فراغًا بعد غيابه عن المكان، فقد كان شخصيةً محبوبةً في عيون أهالي تل الزعتر، ومن شدة الوجع، قرَّر أن يكتُب مذكراته في كتاب يحمل اسم "يوميّات طبيب في تل الزعتر".
حدَّثنا د.عراقي عن كتابه الذي جسَّد فيه المأساة التي عايشها، فقال: "جاءت الفكرة بعد خروجي من المخيّم، إذ كنتُ أكيدًا أنَّ الذاكرة الجماعية في حياة أي شعب شيءٌ مهم للاستمرار، فقررتُ تحمُّل المسؤولية داخل الحصار، ودقائق الأمور التي كانت وقت الحصار، بقيتُ في تل الزعتر، والأحداث صارت تقتربُ مني كوني طبيبًا، هكذا قررتُ الاحتفاظ بتفاصيل ذاكرتي، وحاولتُ ترجمتَها إلى كتاب هو الآن قد صدر بأكثر من طبعة، والهدف من الرواية أن نحفظَ الذاكرة الجماعية لأهل المخيّم وللعالم بأسره. فتل الزعتر حكاية وجع، وقصّة مصغّرة عن النكبة، إذ كان في المخيّم فلسطينيون من 77 قرية، وحِفظ الذاكرة الجماعية كان نابعاً من مسؤوليّتَين، مسؤولية أمام الذين استشهدوا وضحّوا، وأمام الجيل الصاعد ليعرف ما حدث في الماضي، في الشتات، والآن حان دور الجيل الثالث ليُحيي التفاصيل الموجعة وليحافظ على الذاكرة التي كانت، ولينقلها للأجيال التي تأتي بعدنا".
عن مشاهداته في المخيّم يقول: "كان المخيّم ذا كثافة سكانية كبيرة، أزقته ضيقة، ومجاريه مكشوفة، والمزابل منتشرة في كل مكان. وقد كان واقعاً تحت قبضة المخابرات العسكرية للجيش اللبناني، وكانوا يمنعون السكان من إجراء تعديلات في البيوت، بل ولم يكن باستطاعة أحد فعل شيء، فإذا أدار المذياع على إذاعة "صوت العرب" كان يُعتقَل، ومن لديه نشاط سياسي يُعتقَل، ومن يلقي الماء، تلاحقه الشرطة، كانت الحياة عذابًا، وكان المخيم تابعًا للأونروا، لكن الإمكانيات كانت ضئيلة وغير متوفّرة، لا من حيثُ الأدوية، ولا من حيثُ التعليم، واستلمَت "م.ت.ف"، الوضع الأمني في المخيم، وشُكِّل ما يُسمَّى بالكفاح المسلَّح وهو عبارة عن شرطة فلسطينية مسؤولة عن الأمن، فبدأوا بتحسين المخيّم، وبدأ الناس يبنون بيوتًا من باطون وزينكو، وصاروا يبنون حمامات في البيوت، وبدأ الوضع يبدو أكثر إنسانية.
يضيف: "كان في المخيّم مجمع طبي بُنيَ حديثًا، ساهم أهالي المخيم واتحاد عمال فلسطين في تكاليف بنائه، بإشراف الهلال الأحمر الفلسطيني، تكوّن البناء من جامع، وقاعة محاضرات لاتحاد العمال، والطابق الثاني كان عبارة عن عيادتَين خارجيتَين ومختبراً للأدوية وإدارة للمستشفى.
عن تجربته كطبيب يقول: "بعدما توتّرت الأوضاع في منطقتَي المسلخ والنبعة أخذنا نستقبل بعض الحالات من هناك، ففكرنا بتنظيف الطابق السفلي الكائن تحت الأرض، وإزالة الأتربة وفرش الأَسرّة، وأذكر يومها أن القرار السريع بترتيب المستشفى كان في مكانه، فقد توالت الإصابات بعدها بكثرة. وأخذ المستشفى يقوم بدور مركز إخلاء للإصابات، وإجراء الإسعافات الأوليّة اللازمة، وتحويل بعض الحالات إلى مستشفيات المنطقة الغربية من بيروت، وكانت عملية نقل الجرحى من منطقة سن الفيل والنبعة تتم بواسطة لجنة الارتباط اللبنانية الفلسطينية".
تابع: "لن أنسى فاطمة التي أُصيبت بطلقة قناص في ظهرها، وصلتنا وهي بحالة صدمة عصبية، واستطعنا إنقاذها في الوقت المناسب، وكانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها الإصابات، ولحسن حظنا، كان يومها حاضرًا د. نبيل وهو طبيب عمل في المخيم وعاصر أحداث 1973، واشتباكات الجيش اللبناني مع المقاومة الفلسطينية في تل الزعتر، وبعد فاطمة جاءتنا عجوز كردية مصابة في صدرها، وكانت في وضع ميئوس منه، ولكنّني بذلتُ ما أستطيع لإنقاذ حياتها، ونجحت التجربة، ودخلّت بعد ذلك، مرحلة جديدة في العمل الطبي، إذ بدأتُ أقوم بالجراحات البسيطة إذا استدعت حالة المصاب ذلك".
يلخّص د.عراقي: "مرَّ شريط المجزرة أمامي رهيبًا. كانوا يأخذون الأهالي جماعات ليطلقوا النار عليهم. وكان أحد الفاشيين ضخم الجثة، وقد تعتعه السكر، يحمل سكيناً كبيرة ملطّخة بالدماء. ويأتي كل بضع دقائق ليمسح السكينة الملطّخة بدماء الأهالي بقميص مَن كان يجلس عند الباب منهم. لقد كان يذبح كما يذبحون الغنم. وبعدها يبدأ التفتيش في جيوب الضحايا عن أشياء. وكان منظرًا رهيبًا وقذرًا في لحظة تتجمَّد فيها العاطفة، كانوا يأخذون من الناس كل شيء. لا وفقّهم الله".
لتنتهيَ بذلك الملحمة الأسطورة لمخيّم صغير في قلب بيروت الشرقية اسمه "تل الزعتر" كان عاصمةً للفقراء" - هكذا ختم د. يوسف عراقي الطبيب والرسام والروائي، روايته التي سجّل من خلالها صمود المخيم وأهله ومقاتليه في وجه المجزرة التي ارتكبتها القوات اللبنانية الانعزالية والتي لم تزل معالمها شاهدة على وحشيّة العدو مقابل روعة وثقافة الصمود لشعب عربي أعزل.
[email protected]
أضف تعليق