قدّم الباحث د. جوني منصور، قبل فترة وجيزة محاضرة تحت عنوان: "تحولات مدينة" - التاريخ الاجتماعي والثقافي لحيفا. واستعرّض خلال محاضرته جمالية المدينة قبل أن يتآمر عليها الصهاينة والإنجليز، ولا يزال وجع التهجير والنكبة ماثلاً أمام أهالي حيفا، الذين هُجروا قسرًا إلى اللجوء عام 1948، ومَن بقي في حيفا لا يزال يسترجع الذكريات الحلّوة والمؤلمة إذ تحولت مدينتهم من جنّة عدن، إلى مدينة لا ترتبط هويتها بالسكان، بفعل وصول المهاجرين اليهود الذين أقاموا في حيفا.
ومن المعروف أنّ القائد ظاهر العمر كان له تأثير كبير وتحركات في أكثر من بلدةٍ فلسطينية، مِنها: طبريا، عكا، حيفا وغيرها، وبعد سيطرته على حيفا، أطلق القائد ظاهر العمر اسم "حيفا الجديدة" على المدينة. وحين نتحدث عن حيفا الجديدة، التي نسميها البلدة القديمة، لا بدّ أن نشير إلى تأسيس حي الألمان جاء في عام 1761، بينما تأسست المدينة عام 1196، ومن المهم معرفة مساحة حيفا حين تأسست، إذ لم تتجاوز المائتي دونم، وأحيطت حيفا الجديدة بالأسوار.
ومن الجهة الغربية نرى باب يافا، أو البوابة الغربية ومقابلها نرى باب عكا والبوابة الشرقية، وكانت هنالك بوابتين مركزيتين، للمدينة .
• برج حيفا
تُشير المصادر العثمانية إلى وجود بوابة أخرى، قريبة من البحر، تقع خلف كنيسة اللاتين القديمة، هذا الباب كان يُستعمل للاحتياجات العائلية، وكانت هنالك مخازن تُعرف بالعثمانية باسم "الطوبجية" أي المدفعية، وكانوا يركّزون المدافع هناك، بينما استُخدمت بوابتين مركزيتين، وكان هناك أبراج من حولها، أشهره "برج حيفا"، ويسميه البعض برج السلام، وعلى اسم هذا البرج، سُمي شارع البرج.
• حيفاويون يبتعدون عن الأسوار
في فترة الانتداب تغيّر اسم شارع البرج ليُسمى شارع سانتون، وفي فترة اسرائيل تحوّل اسم الشارع لـ"شيبات تسيون" ويمتد اليوم باتجاه البلدية، وحمل نفس الإسم لغاية عام 1949، أي بعد إقامة الدولة. كان هذا الشارع يقطع البلدة من غربها لشرقها وبالعكس، للحصول على خدمات والخروج من المدينة، أما الشارع الآخر الذي كان أكثر استخدامًا للدواب خصوصًا الجِمال المحملة بالبضائع.
وكان الحيفاويون يخرجون إلى البلدة عن طريق شارع البرج، ويدخلون الشارع لتفريغ البضائع خاصة في البوابة الشرقية، ولم يبلغ عدد سكان البلدة بضع مئات، وفي منتصف القرن الثاني عشر، كانت هناك بضع عائلات، وهناك تخمينات على وجود 4 أو 5 آلاف من السكان في حينه، وكانت البيوت الحيفاوية تبنى حولها "حواكير"، للإحاطة بالبيوت وللاستفادة من الأرض، وداخل الأسوار ولم تكن البيوت أكثر من طابق أو طابقين، ثم بدأوا بتفكيك السور ليخرجوا من خلف الأسوار، إذ كانت الدولة العثمانية تمنع البناء خارج الأسوار، وكانت حُجة أهل حيفا للخروج من الأسوار، قيام الألمان بشراء الحي الألماني في الجهة الغربية من البلدة، وأقاموا عمارات خارج الأسوار، فأصبحت هذه حجة المواطنين الحيفاويين بالبناء خارج الأسوار.
في نهاية القرن التاسع عشر نُسفت المأذنة من قبل قوات الهجاناة، وانهارت عام 1901، وتمّ بناء برج الساعة، وهكذا أصبحت حيفا مزدحمة وكثيفة العمران.
كانت حيفا تتنفس في حينه من الميناء العثماني الموجود حيثُ سكة الحديد الحجازية، قريبًا من عامود فيصل، وكانت السكة الحديدية تصل سوريا ودرعا، ويقوم التجار بتفريغ بضاعتهم في السفن، والإبحار إلى تركيا أو قبرص أو أوروبا.
يقول الباحث جوني منصور: "هكذا بدأت تتحرك المدينة، ونلاحظ أنّ قدوم الألمان حفّز على التطور، وعاش الألمان وفق حكم كولونيالي، أي وفق نظام مؤسّس على السيطرة والهيمنة على مقدرات البلد، دون احتياج السكان المحليين إلا بالخدمات الضرورية والأشغال الصعبة، وعمليًا كان لديهم الأرض فيزرعونها ولديهم محددة ومنجرة ومدرسة، وقاعة الشعب وهي اليوم متحف حيفا، ولديهم المعصرة والمصبنة".
يجب التأكيد أنّ الألمان ساهموا في تطوير حيفا، بشكلٍ غير مباشر، كما أنّ مدّ خط سكة الحديد الحجازية، ساهمت بقلب موازين البلد اقتصاديًا واجتماعيًا وسكانيًا وثقافيًا، هذه السكة كانت عبارة عن مشروع عثماني هدفه تسهيل نقل الحجاج المسلمين إلى الديار الحجازيّة المقدسة، للمدينة ومكة. وهكذا بدأت حيفا تتطعّم بشرائح سكانية مختلفة من حوران في سوريا وشرق الأردن وحلب وادلب والحسكة ودير الزور والقامشلي، في الجهة الشرقية من سوريا، هكذا وصل السوريون حيفا واستقروا فيها وأقاموا مجتمعات قويةّ وثابتة وصلبة خاصة في الأحياء الشرقية: وادي الصليب - "مدينة العمال".
• الهجرة الداخلية
وساهمت الهجرة اليهودية بشكلٍ أو بآخر بتطوير حيفا، إذ أقام اليهود في حيفا داخل الأسوار، وكانت هنالك ثلاث جاليات يهودية، سكنت الحارة الشرقية، فكانت هناك حارة الكنائس لليهود، والحارة الشرقية للمسلمين والحارة الغربية للمسيحيين، وفي داخل الحارة الشرقية سكنت ثلاث جاليات يهودية من استنبول، غالبيتهم تجارًا، والجالية الثانية كانت طبرانية وهم مغاربة، والجالية الثالثة من اليهود المغاربة، جاؤوا من افريقيا وكان لديهم ثلاث كنس، وعندما سقطت حيفا هدمت إسرائيل الكنس الثلاثة بالخطأ، والمقصد من الهدم إغلاق المجال لعودة سكان حيفا.
بدأ اليهود بإقامة أول مستعمرة لهم في شارع هرتسليا، واشتروا وسكنوا في "الهدار" المستعمرة القويّة للابتعاد عن العرب. وتميّزت الحركة الصهيونية أنها حركة كولونيالية استعمارية منفصلة عن السياق العام للبلد، واعتمدت الهجرة على المستعمرات المنفصلة عن الامتداد الطبيعي للبلد، مثلهم مثل الألمان لم يحتاجوا أحدًا سوى الأمور الضرورية، فبنوا مجتمعًا منغلقًا، وساهموا في تطوير البلد بالمجمل العام، بما فيه الجانب الاقتصادي الاجتماعي لحيفا.
• إنشاء الميناء الحديث
كان الهدف من بناء أكبر ميناء في حوض البحر المتوسط، بالأساس للاستفادة الاقتصادية، واحتاج الميناء أيدٍ عاملة، وصل عدد العاملين فيه إلى 7 آلاف عاملٍ، منهم أكثر من 4500 عامل عربي استفادوا من هذا العمل، وهذا التطور الاقتصادي انعكس على التحولات الإجتماعية الفردية والعائلية والمدينيّة في حيفا.
• إقامة المنطقة الصناعية في حيفا
تسمى المنطقة الصناعية اليوم: مفراتس، أقامها الانجليز لسبب مركزي، بمد أنبوب البترول (النفط) كركوك شمالي العراق، إلى حيفا بإدارة شركة الـبترول العراقية، هذا المرفق الاقتصادي الهام كان بحاجة على 10 آلاف فرصة عمل، واستيعاب هجرات داخلية وخارجية، وعمل في المنطقة عمال من مصر، واليمن والعراق واليونان وأوروبا، بأعداد هائلة، وشكّل هذا الأمر مزيج من الفسيفساء الاجتماعي داخل البلد، وتطورها جاء بفضل المؤثرات الاقتصادية.
بعد هذا الخير كله الذي ميّز حيفا، عاشت في المدينة شرائح مختلفة من السكان، قبل أن تُنفّذ المؤامرة بتنسيق بين الهاجاناة، والجيش البريطاني، لتنهار في العام 1949 أهم المدن الفلسطينية الساحلية، البلاد بتاريخ 22/نيسان، وتمّ تهجير معظم سكان حيفا، بتحميلهم في السفن وإبعادهم عن الوطن أو بالقتل والتعذيب والترويع.
[email protected]
أضف تعليق