بعد الإجماع على السياسات المعادية للمجتمع العربي في البلاد والإجحاف بحقه في مجالات شتى وفي مجال الأرض والمسكن والبيوت غير المرخصة خاصّةً، بات المواطن العربي المتعب والمنهك من الملاحقة القضائية ومن العيش تحت خطر الهدم بحجة ما يسمى تطبيق قانون التنظيم والبناء- بات يطالب قيادات المجتمع العربي والمسؤولين والمختصين منه الانتقال من مرحلة تشخيص السياسات العنصرية التي بتنا نعرفها جميعا ومنذ زمن طويل إلى مرحلة طرح الحلول العملية والواقعية للمشكلات والمصاعب التي يواجهها المواطنون العرب يوميا على أرض الواقع نتيجة التقصير في التخطيط والبناء غير المرخص كخطر هدم البيوت والتعامل مع الملفات الجنائية لمخالفات التنظيم والبناء ودفع الغرامات العالية وحتى مواجهة خطر السجن عن هذه المخالفات. وما أحوج المجتمع العربي لمثل هذا التحول في التفكير والنضال لا سيما بعد المصادقة مؤخرا على تعديل جديد لقانون التنظيم والبناء سيزيد من محنة أصحاب البيوت غير المرخصة وسيزيد من احتمالات الهدم ومن الإجراءات الإدارية والقضائية ضد المتورطين في مخالفات التنظيم والبناء كما شرحت في مقالة سابقة عن هذا التعديل.
ودون الانتقاص من أي جهد يبذل في مجال حل مشكلات الأرض والمسكن في المجتمع العربي، أود في هذه المقالة ان أطرح بعض الخطوات المتاحة في رأيي على الصعيد القضائي والتي من شأنها على المدى القريب وعلى المدى الأبعد ان تغير إيجابيا تعامل الحكومة مع قضايا التنظيم والبناء في المجتمع العربي وأن تحسن من ميزان القوى الحالي بين المواطنين العرب والدولة لصالح المواطنين العرب وذلك من خلال تحويل أصبع الاتهام من المواطنين العرب كمتهمين بمخالفات البناء إلى الدولة كمتهمة بالتقصير في مجال تنظيم وتطوير البلدات العربية.
بداية أذكر بقرار محكمة العدل العليا في قضية موسى دقة الشهيرة (ملف رقم 2885/08) والذي قضى بان تقصير لجان التنظيم والبناء في تأمين المخطط اللازم للحصول على رخصة بناء لا يعطي المواطن المتضرر من هذا التقصير الحق أن يبنى دون رخصة وبخلاف القانون، ومع ذلك أشارت محكمة العدل العليا في القرار ذاته الى الإمكانيات المتاحة للمواطن من أجل إلزام لجان التنظيم والبناء على القيام بواجبها ومنها التوجه للمحكمة ضد كل لجنة تنظيم وبناء ثبت أنها لا تقوم بتسيير المخطط الهيكلي المطلوب ولا تصادق عليه في مدة معقولة وحسب المواعيد التي حددها قانون التنظيم والبناء للمصادقة على مخطط هيكلي. وحسب ما أعلم لم تقدم وفق هذا المسار في المجتمع العربي إلا بعض إلتماسات إدارية ضد لجان التنظيم والبناء والجهات المختصة. أوصي باستغلال هذا المسار القضائي في الحالات الملائمة إذ يمكن فيه إحراز عدة أهداف في آن واحد ومنها تسيير المخططات الهيكلية العالقة من جهة وإرجاء أوامر هدم البيوت غير المرخصة حتى الانتهاء من إجراءات المصادقة على المخطط الهيكلي المطلوب من جهة أخرى. أذكر على سبيل المثال لا الحصر الالتماس الذي قدمته قبل عدة سنوات ضد اللجنة اللوائية للتنظيم والبناء لواء المركز للانتهاء من المخطط الهيكلي العام لمدينة الطيبة (مخطط رقم طب- 3400) وقد انتهت مداولة هذا الالتماس في حينة باصدار أمر قضائي من المحكمة ضد لجنة التنظيم والبناء اللوائية يلزمها بنشر قرار المصادقة على المخطط خلال 3 أيام فقط وهذا ما جرى فعلا، وقد استفدت من هذا القرار الهام وقتئذ لانقاذ أحد البيوت في مدينة الطيبة من الهدم.
المسار الجزائي هو مسار آخر يمكننا استغلاله إلى جانب المسار القضائي. أعني بهذا المسار مقاضاة لجان التنظيم والبناء والجهات الادارية المسؤولة جزائيا من خلال دعاوى الإهمال والتعويضات المادية جراء كل يوم يتأخر فيه المخطط الهيكلي المطلوب لارض معينة. إن تأخر لجان التنظيم والبناء في تأمين المخطط الهيكلي المطلوب للحصول على رخص البناء يلحق باصحاب الاراضي خسائر مادية ومعنوية عن كل يوم تتأخر فيه اجراءات تحويل الارض للسكن. تقدر هذه الخسارة في الحالات العادية بمئات آلاف الشواقل. وفي نظري حتى لو كان تقديم مثل هذه الدعاوى مقرونا بالمصاعب والتعقيد من حيث إدارة الدعاوى الجزائية أو ان احتمالات نجاحها ليست مضمونة بالمجمل، الا ان لهذا المسار في رأيي أهمية كبيرة في تحسين حال المواطنين العرب، أولا لانها تهدد "جيوب" لجان التنظيم والبناء وموظفيها الذين ثبت إهمالهم وتقصيرهم تجاه المواطنين العرب ولانها ترسل للمسؤولين في لجان التنظيم والبناء والجهات المختصة إشارة تحذير وتنبيه ان يتعاملوا مع المخططات الهيكلية بسرعة وحسب المواعيد التي حددها القانون وذلك تحسبا من مقاضاتهم ومحاسبتهم على أدائهم في قضايا تسيير مخططات البلدات العربية. بالطبع ان تقديم مثل هذه الدعاوى مكلف ماديا من حيث نفقات المحكمة واتعاب المحاماة والخبراء المختصين ولهذا يجب التفكير في آلية تؤمن الميزانيات المطلوبة لتقديم مثل هذه الدعاوى في الحالات المناسبة. على اي حال، في كلا المسارين مما اقترحت، الاداري والجزائي، تقف لجان التنظيم والجهات المسؤولة في خانة المتهم وتصبح ملزمة بإعطاء الأجوبة والتفسيرات إزاء اتهامها بالتقصير والاهمال في مجال تخطيط البلدات العربية وبتصليح الضرر الذي سببه تقصيرها للمواطنين العرب من أصحاب البيوت والأراضي.
اما بالنسبة لملفات مخالفات التنظيم والبناء وملفات أوامر الهدم وسبل التعامل معها قضائيا أؤكد بداية ان التمثيل القضائي في هذه الملفات يتطلب قسطا كبيرا من الخبرة والمسؤولية لان الضرر الذي قد تسببه مرافعة قضائية غير مسؤولة في مثل هذه الملفات لصاحب البيت ولعائلته قد يكون كبيرا ولا يمكن إصلاحه كما قد تكون للقرار القضائي في قضية ما إسقاطات على مجموعة أكبر من ملفات البناء غير المرخص وملفات مخالفات التنظيم والبناء. ورغم إدراكنا لهذه الحقيقة ومع أن عدد المحامين الذين يمثلون أصحاب البيوت والمباني غير المرخصة كبير نسبيا، لا توجد حتى اليوم آلية فعالة تربط بين كل اولئك المحامين ليتبادلوا فيها من خبراتهم ومن تجارب النجاح والفشل التي مر بها كل محام في الملف الذي عالجه. أهدف بهذا الربط بين المحامين تعزيز مستوى الدفاع عن أصحاب البيوت والمباني غير المرخصة في هذه القضايا وذلك نظرا إلى أن درجة المعرفة والدراية والتجربة في هذه القضايا الحاسمة تختلف من محام الى آخر، كما انه قد يكون لقصة فشل او قصة نجاح في قضية فردية ما إسقاطات وتأٌثيرات على مجموعة من القضايا المشابهة في بلدان اخرى. وقد يكون التواصل الذي اقترحه بين المحامين بواسطة مجموعة إلكترونية على شبكة الانترنت على سبيل المثال او من خلال حلقات لقاء ونقاش دورية كل شهر او شهرين بين المحامين، والوسائل المتاحة لهذه الغاية كثيرة.
للتلخيص أقول إن ما يميز الخطوات التي اقترحتها هو أولا الدعوة إلى نقل المواطنين العرب من حالة الدفاع عن النفس الى حالة الهجوم القضائي ومن مرحلة يكون فيها المواطن متهما الى مرحلة تكون بها الدولة التي تقاعست في أداء واجبها تجاه المواطن هي المتهمة، ولهذا التحول تأثيرات إيجابية على الصعيد الاجتماعي والقضائي والاعلامي في مضمار حماية حقوق المجتمع العربي في البلاد. بالاضافة الى ذلك فان مقترحاتي تعتمد على تطوير أسلوب عمل جماعي شامل وموحد يتجسد بعدم النظر الى قضية بيت غير مرخص او أمر هدم لمبنى معين على أنها قضية فردية بل هي قضية كل المواطنين العرب، وذلك إيمانا مني أن واحدا من الحلول يكمن أيضا بضرورة العمل على قضايا المجتمع العربي في البلاد بصفتها قضايا جماعية موحدة لا قضايا فردية وشخصية.
أرجو ان يكون ما اقترحته وهو جزء بسيط من برنامج عمل شامل، دافعا لبداية نقاش حقيقي أوسع عن الحلول الفعلية التي ينتظرها المواطنون العرب بفارغ الصبر منذ وقت طويل.
* محام مختص في قضايا الأرض والتخطيط وباحث للقب الدكتوراة في القانون.
[email protected]
أضف تعليق