مثل الأسير صدقي المقت، ابن الجولان السوري المحتل، أمس للمحاكمة مجددًا، إلا أنّه وعلى غير عادته ظهرت دموع الحزن عينيه، لم تحزنه جلسة أخرى في محكمة ظالمة وغير عادلة تعتبر حياده إلى أبناء شعبه جريمة، أو غياب أحد من الأهل لطالما أنتظر لقاءه، ما أحزنه هو الخبر الذي زفه له والده، الشيخ أبو فخري المقت، عن نبأ استشهاد رفيق دربه في النضال والأسر والموقف القائد سمير قنطار.
لاحقًا وبعد أنّ استوعب الأسير المقت أنّ الحديث جديًا، وأن إسرائيل نفذت الاغتيال، اُستكملت الجلسة بصمت، وقُبيل مغادرته القاعة أوصى صدقي والده أن يرسل تعزية للأهل، أكتفى بالقول "هاي درب الشرفاء".
كما في لبنان وسوريا التي تنزف دمًا، عمّ الحزن اليوم في الجولان وفلسطين بعد سماع ارتقاء الشهيدين سمير القنطار وفرحان شعلان، ابن قرية عين قينيا. أهالي القرية ووجهائها نصبوا خيمة عزاء مستقبلين الوفود، إلى جانبها نظمت جنازة رمزية شارك بهاد المئات من الجولان وفلسطين الـ48.
إلى الحزن على أرض الواقع أنضم الإفتراضيون، حيث كتب المئات من أبناء فلسطين الـ 48 تعازي لعائلة القنطار على صفحات الفيسبوك والتوتير، مؤكدين أن رسالة القنطار، وطن عربيّ واحد، قد تحققت، ولو افتراضيا بوفاته. والبارز أكثر، غياب الأصوات التي تعتبر الوفاة تحصيل حاصل لمشاركة القنطار بالاقتتال الدائر في سوريا لحمايتها لسيادتها، وكأنهم يشددون على هوية القنطار المكتسبة – الفلسطينية.
رفاق القنطار في الاسر والمحامين الذين دافعوا عنه، حتى لحظات كتابة التقرير، لم يستوعبوا بعد أنّ إسرائيل اغتالت القنطار، فالخبر وقع عليهم كالصاعقة، خاصةّ أن الاغتيال نفّذ على أرض سورية، فالقنطار وعدهم بالعودة إلى فلسطين لتحريرها، عليه كان المتوقع بالنسبة لهم أن الشهادة ستكون في حيفا، يافا أو عسقلان.
الأسير المحرر بشر المقت: بدأ فدائيّ وهكذا رحل
الأسير بشر المقت، والذي قضى 25 عامًا في الأسر، منها عدد يكاد لا يذكره رفيقًا للشهيد سمير قنطار في الزنزانة، رفض التطرق إلى مواقف شخصية تذكره بالشهيد قنطار لشدة تأثره مكتفيًا بالقول: سمير بدأ حياته فدائيّ وهكذا رحل، مدافعا عن الحق وعن الثوابت المقدسة عربيًا وقوميًا، يودعنا مدافعًا عن سيادة سوريا، فرحم الله شهدائنا والمجد لذكراهم.
وأضاف المقت: الشهيد سمير كان شابًا مؤمنا بعدالة القضية الفلسطينية، وترجم ايمانه إلى فعل في ريعان شبابه منفذّا عدد من عمليات المقاومة أدت إلى اسره لمدة 30 عامًا في سجون الاحتلال. في السجن سمير كان القائد التي خاض كل المعارك من أجل تحسين وضع الأسرى الفلسطينيين، والسوريين واللبنانيين. كان قائدًا للجميع، وأثبت مصداقية في كل المواقف، دفاعا عن الحق الفلسطيني والحق العربي القومي، وحتى مع تحرره في صفقة تبادل الأسرى صرّح بأنه ماضي في ذات النهج، نهج المقاومة، من أجل فلسطين، ومن أجل لبنان.
وأختتم: من نافل القول أنّ الاعتداء الإسرائيلي على الأرض السورية هو استهداف لكل الشرفاء المقاومين للعصابات التكفيرية وللاحتلال. الشهيدان سمير القنطار وفرحان شعلان بطلان آمنا بقضية عادلة، ودافعا عن الأرض السورية ضد الهجمة البربرية التكفيرية.
المحامي يامن زيدان: من سجانه إلى محاميه بمساعدته
المحامي يامن زيدان، والذي رافق الشهيد قنطار مدة عامين كمحاميه الشخصيّ، بعد أن كان السجان الذي راقب تصرفاته في سجن "هداريم" قال بحزن وألم وهو في طريقه إلى بيت العزاء في الجولان المحتل: منذ سمعت الخبر وانا أحاول أن اتذّكر بعض المواقف التي جمعت بيني وبين القنطار، وصدقًا الغصة التي في القلب لا تترك أي مجال للذكرى، لكن أذكر جيدًا جملة كانت بداية التحوّل في حياتي عندما شغلت منصب السجان في سجن "هداريم". سمير قال لي حينها "نحن شقيقان يفصلنا الزجاج، وبعفوية أجبته، أنت الأخ الحر وانا الذي أعيش الأسر".
"سمير احتضنني، وأرشدني إلى التحرر، يمكن القول أنّ طريقي في "العودة إلى الذات"، ومسار التغيير الذي مررت به من سجان في السجون الإسرائيلية إلى محامي مدافع عن قضايا الأسرى العادلة، كان بدفع من سمير القنطار، قدرته على الإحتواء، على الشرح، على الإرشاد إلى الطريق الصحيح بترغيب أثرت فيّ لدرجة كبيرة، وشكلت تحوّلا كبيرًا في حياتي، قد تبدو قضيتي شخصيّة، لكن أبعادها السياسيّة أكبر بكثير"- أضاف زيدان.
وأسهب: سمير كان قائد بمعنى الكلمة، مثقف جدًا، واضح، وعميق الفكر. بوصلته كانت القضية الفلسطينية، هو آمن بذلك بشدة وأكد أنها أساس النضال. علاقة سمير بكافة التيارات في سجون الاحتلال كانت مميزة جدًا. هو أثر عليهم بشكل كبير لدرجة إذا ما وصل إلى سجن معين تنحى القائد الروحي للسجن ليخلي موقعه للقنطار، بدون تصويت، بدون مشاورات، وبدون طرح الموضوع للنقاش.
وأختتم: القنطار خاض كافة معارك الأسرى، شارك بها ميدانيًا وأستراتيجيًا، كان مناضلا قولا وفعلا ورحل مناضلا قولا وفعلا.
المحامية سهى منذر: كنت ازوره في الأسر لأستمد منه القوة
بدورها، ومن بيت العزاء في عين قينيا في الجولان السوري المحتل، أرسلت المحاميّة سهى منذر تعزية حارة إلى أهل القنطار، شدّدت من خلالها أنّ شهادة القنطار هي ما إلا استمرارا لرسالته التي آمن بها بشدة.
منذر، وهي ايضًا محامية القنطار، حدثتنا عن أول لقاء بموكلها فقالت: في الـ 8 من شباط/ فبراير 2006 توجهت إلى سجن "هداريم" لأول لقاء مع القنطار. بعد أن مررت بكافة نقاط التفتيش المنهكة والمتعبة جاء اللقاء. لم يكن شخصًا عاديًا، كان قياديًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. نور الرحمة والإنسانية يشع من عينيه. من أول لقاء خلصت إلى النتيجة أنّ القنطار، وأن قضى في السجن أكثر مما في العالم الحر، إلا أنه يحمل فلسفة وفكر عميق.
"اعتدت على زيارته مرة كل إسبوعيّن، وعادة الزيارات للأسرى تهدف إلى دعمهم معنويًا ومساعدتهم على تحمّل الأسر، فأنا ابنة أسير ولطالما شجعني والدي على القيام بالزيارات للأسرى من هذا الباب، عند سمير الأمر كان مختلفًا، فكنت ازوره لأستمد منه القوة"- تقول منذر.
بعد لحظات من البكاء تلخص وتقول: رحل الإنسان، رحل القائد. اغتالوا جسده لكن لم ينالوا منه، فهو هزمهم في أسره، وفي مقاومته لهم، وايضًا في استشهاده. سمير غادر السجون الإسرائيلية قاطعًا على نفسه العهد بالعودة إلى فلسطين مقاومًا، في حين أن عدد كبير من الأسرى غادروا الأسر وتخلوا عن القضية. سمير طلب الشهادة ولم يخف منها، رحمك الله أيها البطل.
الأسير المحرر منير منصور: حالة قومية نادرة
رفيقه في الزنزانة لمدة عامين، الأسير المحرر ابن مجد الكروم الجليلية منير منصور بدأ حديثه بتعزية أبناء شعبنا الفلسطيني على موت القنطار ومن ثم تعزيه أهله في لبنان وقال: القنطار شكل حالة قومية نادرة على صعيد العالم العربي، فهو كان عميد الأسرى العرب في سجون الاحتلال وأول اسير لبناني، بوصلته كان فلسطين والدرب إلى فلسطين بالنسبة له لن يتحقق دون مقاومة، عليه التحق بتنظيم فلسطيني "جبهة تحرير فلسطين".
وأضاف: التقيت مرتين بالقنطار، عندما سجنت أول مرة وقد شاركته في الزنزانة وعندما اعتقلت اداريًا في المرة الثانية. عندما تعرفت إلى القنطار وجدت أنه أنسان عقائدي قومي وعروبي، أفكاره طابقت أفكارنا واحلامه وتطلعاته نحو التحرر طابقت أحلامنا. عندما عدت إلى الأسر مجددًا، وهذا يعني 10 سنوات بعد اللقاء الأول، وجدت أن قناعاته لم تتبدل، إنما ترسخت أكثر، كان مدرك تماما أنه سيتحرر وسيكمل نهج المقاومة، والشهادة كانت احتمال وارد جدًا في حساباته إلا أنها لم تقلقه بقدر قلقه على عدم تحقيق النصر، رغم أنه تحدث عن النصر كحقيقة وواقع سنصل إليه.
وأختتم: سمير كان فلسطيني أكثر من عدد كبير من الفلسطينيين الأسرى، حمل قناعات عن التحرر، لكن الأهم أنه مارس تلك القناعات، ذهب إلى مصيره بعنفوان وكبرياء، مؤكدًا أن الموت لن يغير تلك القناعات.
[email protected]
أضف تعليق