اتصالٌ هاتفي، تلقته المُمَرضة ماجدة أديب كردوش، من الناصرة، كَان كفيلاً في تغيير نظرتها للحياة، ولأن تكون جزءً من حملة إنسانية، تهب الحياة لبشر هربوا من الأزمات والحروب.
لم تتردد، ماجدة حين ناداها الواجب الإنساني، لتلبية دعوة إحدى الجمعيات الإنسانية الخيرية، التي كانت بحاجة إلى أطباء وممرضين ناطقين للغة العربية. وبعد ترتيب أمورها مع العمل، استَعَدَتْ لتعيش تجربة إنسانية من الدرجة الأولى (والتى لا تطمح من خلالها الى حصد الالقاب والمديح وانما مساعدة اللاجئين)، امتدت بين تاريخي (13-29) من شهر أيلول الماضي، في جزيرة (LESVOS ) اليونانية، التي تبعد عن السواحل التركية مسافة 7-10 كم، وهي المنفذ الذي يأتي منه اللاجئين أفواجًا، بحثًا عن مكانٍ آمن، وملاذًا من الحرب والأزمة التي أنهكتهم..
16 يومًا من العمل الإنساني.. دون تعب أو كلل
ستة عشر يومًا، أمضت الممرضة ماجدة أديب كردوش في الجزيرة، وهي ممرضة، ومحاضرة في مدرسة التمريض "شينبرون" التابعة لجامعة تل أبيب ومستشفى إيخلوف.
تقول ماجدة: كنا نستيقظ في صباح كل يوم، أنا وزميلتي الطبيبة " تالي شالتييل"- وهي شابة يهودية، دفعها واجبها الإنساني، لأن تكون جزءً، من هذا النشاط الخيري، وغيرهما من المتطوعين والمتطوعات، في انتظار قوارب اللاجئين القادمين من السواحل التركية، لتكون محطتهم الآتية واحدة من أربع جزر يونانية وهم: ("Kos, Chios, Lesvos, Samos")، لكونها الأقرب إليهم.
(اللاجيئين بمتيليني بالجنوب ينتظرون لشراء التذكرة للباخرة الى اتينا)
استقبال اللاجئين..
وعن استقبال اللاجئين، أشارتْ أن تقديم المساعدات الطبية، كان يتم من قبل جمعيات خيرية أوروبية، ولم يلفتها لتواجد أي اسم لجمعية عربية، أو حتى لمتطوعين عرب.
حيث كانت هي الممرضة العربية الوحيدة في الجزيرة التي كانت تطوع بها، حتى اللحظة التي صادفت بها وجود صديقة لها من الطيبة في المثلث الجنوبي تقطن في السويد وتدعى عدلة جبارة، بالإضافة إلى مصادفتها لشبانٍ متطوعين عراقيين وفلسطينيين يحملون الجنسية الدنماركية والسويدية.
وعن استقبال اللاجئين قالت: " كنا نستقبل في اليوم، مئات اللاجئين، في ساعات مختلفة خلال من النهار، والليل. توافد اللاجئين لم يقف أبدًا، وكل لاجئ يحمل معه ذكريات، وحكايات، تركها في ركن الحيّ، أو على طاولة مكتبه، أو في الجامعة التي كان يحاضر بها.
وأتمت حديثها: " كانوا يأتون إلينا عبر القوارب والزوارق يدعونها اللاجئين بـ " البلم"، نعمل كل يوم على رصد الشواطئ، ومع الوقت، بدأنا نتوقع موعد وصولها، وبعد عملية الرصد، يتم توجيه اللاجئين وهم في عرض البحر، لمحاولة الوصول إلى اليابسة، أو لمكان مع إتاحة للوصول إلى اليابسة، لأن الجزيرة مختلفة التضاريس".
وتابعت: " عملية إجلاء اللاجئين من زوارق تأتي حسب سلم أولويات، في البداية الأطفال، وذكرت، أن أصغر طفل التقت به كان عمره (20) يومًا، ومن ثم يتم تنزيل النساء، وكبار السن، ويأتي بعد ذلك، الحالة الصحية التي يمر فيها اللاجئ، إذا كان مصابًا، أو يعاني من إعاقة ما، سواء قبل وخلال الحرب.
حالة اللاجئين الصحية..
كان يصل في اليوم، نحو 30-40 قاربًا، ومعظمهم أتوا من سورية. بعد عملية الإنزال، يتم تفقد صحة اللاجئين، ومعاينة حالتهم الصحية، مشيرة إلى أن الحالات الصحية كانت متفاوتة، بين هبوط في درجة الحرارة، وجفاف، حيث كان بعضهم يمكثوا لأكثر من 6 ساعات في عرض البحر. وحالات أخرى تصل متشنجة، بسبب صعوبة التحرك في الزورق، الذي يحمل بين (50-60) راكبًا، بدلا من 30!
( ماجدة مع طفل يعاني من انخفاض في الحرارة، يتم لفهم بالبطانية الحافظة للحرارة)
وتابعت، لقد صادفت أيضًا، لاجئين يعانوا من أمراضٍ مزمنة، فقدوا أدويتهم أثناء محاولتهم الهرب، حتى المصابين واللاجئين الذين يعانوا من إعاقة، فرض عليهم المهرب التُركي رمي العكاز قبل أن يركبوا الزوارق، وبدورنا كنا نؤمن لهم احتياجاتهم، بقدر المستطاع، من دواء، ولباس، وطعام، الذي كان يتبرع فيها سكان الجزيرة، أو من خلال الجمعيات المشاركة. بالإضافة إلى منحهم الدفء سواء بالتعامل، أو من خلال تزويدهم البطانيات، المنتجة للحرارة من أجل تدفئة أجسادهم، بالإضافة إلى إمدادهم بالسوائل والأملاح عن طريق الوريد. وتقديم العلاج والفحوصات اللازمة للنساء الحوامل، وتضميد جروح المصابين.
لم أبكِ.. كنتُ مجردة الأحاسيس..
قصص إنسانية كثيرة، عاشتها ماجدة خلال مكوثها في جزيرة (LESVOS ) اليونانية، ورغم قساوة المشهد، والظروف إلا أنها كانت دائمًا، تتمالك نفسها، وتتماسك، من أجل أن تبقى قوية، تفكر بعقلها، وليس بعاطفتها وقلبها، حيث قالت: " لم أبكِ ولم أشأ ذلك، كان كل تركيزي كيف أتمم عملي بشكل مهني، وعملي، جميعنا كتمنا أحاسيسنا، لأنه غير ذلك، كنا سننهار، وظيفتي كممرضة تقديم المساعدة، الصحية والنفسية، بشكل تلقائي، أرتب سلم أولوياتي، بالتعامل مع اللاجئين، لمن الأسبقية في تقديم العلاج، وكيف أتنقل بينهم... كنت مجردة الأحاسيس خلال العمل، حتى لا أضر جودة العمل ونجاعته.
قصص إنسانية..
مرتْ على ماجدة الكثير من القصص الإنسانية المحزنة، والتي غرست في ذاكرتها، وشاركتنا بها خلال اللقاء.
حدثتنا عنها ماجدة، عن ظروف وصول اللاجئين المصابين، وأصحاب الإعاقات منهم، دون عكازهم، حيث كان يقذفوهم المهربين الأتراك في البحر، واستذكرت لاجئًا سوريًا، كان فقد رجله في الحرب، وصل إلى الجزيرة برفقة زوجته على متن باخرة، تحتوي على 250 لاجئًا، وحين وصل اللاجئين إلى البرّ، جميعهم بحثوا عن مكانٍ آمن، يستريحوا فيه، وبقي هو وزوجته على الشاطئ، لكونه لا يقوى على المشي، بسبب فقدانه رجله، ولم يذكرهما أحدًا من اللاجئين الذين كانوا معهم في نفس السفينة، لكن رحمة الله ومشيئته، كانت أوسع، حيث مرّ من جانبهما مجموعة من الصحافيين الذين قدموا لهما المساعدة، وأقلوهما إلى محطة الباص من أجل الانتقال إلى مرحلة التالية من مسيرة الهجرة.
قصة إنسانية، أخرى، تستذكرها ماجدة، عن حكاية محاضر في إحدى الجامعات السورية، يحمل لقب دكتوراه، وزوجته تعمل مديرة لجمعية مهمة في سوريا، وحاصلة على لقب ماجستير، بين ليلة وضحاها، بات لا يملك أي شيء، ترك مجده العلمي في سوريا، وأصبح لاجئًا يبحث عن مأوى، ولقمة يأكلها.
( صورة للزوجين، تصوير Boaz Arad/IsraAID)
ومن أكثر القصص الإنسانية التي أثرت بماجدة، هي قصة زوج لاجئين، الرجل فلسطيني الأصل، والمرأة سورية، في العشرين من عمرهما، تزوجا قبل ثلاث سنوات ونصف، والزوجة حامل، وتقترب من موعد وضعها، وصفت لنا كيف قام الرجل بفتح كرسيًا مطوي وتجهيزه لزوجته، وكيف أخرج التفاحة ليطعمها إياها، من حقيبته التي لم تفارق ظهره، من كثرة الإجهاد لم يشعر بأنه ما زال يحملها.
( صورة الرضيعة بأحضان والدها مباشرة بعد الولادة)
وتابعت الحديث، عنهما:" بعد عودتي من جزيرة (LESVOS )، رأيت صورة منشورة للزوجين، قام بنشرها أحد المصورين المتواجدين معنا، وخلال قراءتي للتعقيبات المعلقة على الصورة، شد انتباهي أن الشاب ويدعى " حمودة حسن"، يعقب بشكره للمصور، ومن خلال هذا التعقيب تواصلت مع الشاب، وعلمت منه أن زوجته ولدت طفلة، وأطلقت عليها اسم لونا.
مسار الهجرة..
وعن مسار هجرة اللاجئين، وضحت ماجدة، أنه يبدأ من، تركيا، ومن ثم الوصول عبر البحر إلى أثينا، ومن ثم مقدونيا، وبعد ذلك صربيا، كرواتيا، وهنغاريا، وثم الوصول بالقطار إلى النمسا وبعد ذلك إلى ألمانيا والسويد، ومن ثم تبدأ عمل السلطات بترتيب مساكن لهم.
وسيط سوري يدبر أمور اللاجئين مع الأتراك..
وعن كيفية إتمام الوساطة بين اللاجئين والمهربين، قالت؛ أنه يتم تنسيقها مع وسيط سوري الجنسية، يدفعوا له بين 1000-2000 دولارللواحد، يأخذهم لشراء بدلات الانقاذ، والطعام. ويكون اللاجئ في انتظار إشارة من الوسيط، لمعرفة موعد الإبحار والخروج، من أزمير، حيث يمكث اللاجئين مدة زمنية تتراوح بين 24-48 ساعة، مختبئين بين الأشجار في إحدى الغابات.
التجربة.. جعلتني أقدر كل شيء
وعن التجربة، أكدتْ ماجدة، أنها جعلتها تقدر كل شيء حولها، ابتداءً من لقمة الأكل، حتى الملابس، والأمور المادية، أصبح للحياة بالنسبة لها قيمة أخرى، أكثر ثمنًا وأكثر إنسانية.
مشيرة أنها بدأت تعمل حاليًا على تنظيم محاضرات أمام تلاميذ المدارس، ( الأمريكان والتيراسانطة)، من أجل مشاركتهم تجربتها، ومن أجل حث التلاميذ على القيام بالعمل التطوعي، الذي يأتي بالفائدة عليهم، وعلى مجتمعهم.
وأكدت ماجدة في نهاية الحديث، أن التجربة جدًا فريدًا، وأنها لن تتردد على إعادتها من جديد في حال تم التوجه إليها مجددًا، مساعدة اللاجئين، عمل إنساني من الدرجة الأولى، ولولا عمل الجمعيات الداعمة لهم، لكانت نسبة الضحايا أكبر.
غرق سفينة لاجئين ومصرع 7 غرقوا في أعماق البحر
ومن الجدير ذكره، أن سفينة تقل نحو 300 لاجئًا، غرقت يوم أمس قبالة الساحل الشمالي بليسبوس، المدخل الرئيسى لأوروبا من خلال اليونان. ونجا منهم نحو 242 لاجئًا، وما زال البحث جاري حتى اللحظة عن اللاجئين المفقودين، من خلال الطائرات الهليكوبتر وحرس الحدود اليوناني والتركي.
( الاجيئين بمنطقة سكاميا ينتظرون الباص الذي سيأخدهم مجانا الى المخيم بجنوب الجزيرة)
[email protected]
أضف تعليق