الأمل..سلاحا وسياسة
بعد أن تقدم نبيلة منيب نفسها باختصار شديد وإيجاز تصر على التأكيد أنها قبل كل شيء "مناضلة"، ربما في محاولة للانمحاء الشخصي وإبراز ما تدافع عنه، وربما لأنها مقتنعة بأن الشهرة التي نالها شخصها ينبغي أن تكون في خدمة حزبها الذي تتزعمه منذ سنة، وفي خدمة اليسار المغربي الذي تسعى في لم شمله.
نعم إنها أستاذة باحثة حازت على شهادة الدكتوراة في فرنسا وهي الآن تُدرس مادة علم الغدد بكلية العلوم عين الشق بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء؛ نعم إنها عضو في نقابة التعليم العالي وفي عدد من الجمعيات والمنظمات المدنية؛ ثم إنها إلى كل هذا وفوقه أم لثلاثة: بنتين شبتا عن الطوق، و ابن في سن الحادية عشرة هو آخر العنقود.
ولكن ما جعل شخصها محط الأنظار منذ سنة هو كونها أول زعيمة حزبية في تاريخ المغرب، وهذا –كما قد نعلم- لم يتأت لها إلا بعد نضال يستمر منذ ثلاثين سنة، أي منذ أن التحقت بصفوف الاتحاد الوطني لطلبة المغرب –نقابة الطلاب التي كانت يسارية الهوى في وقت ما- في ثمانينيات القرن الماضي. نضال من أجل العدالة الاجتماعية، والمساواة –وفي مقدمتها مساواة الرجل والمرأة- معيار التعامل مع الأحزاب غير اليسارية- ومن أجل الحرية والديمقراطية –تنطقها التيموقراطية على طريقة أهل مدينة الدار البيضاء في نطق الدال في بعض المواقع من الكلمة وقد تحللت إلى تاء تتلبسها سين وأصابها رذاذ من شين- و بهدف بناء مجتمع “حداثي”- نسبة إلى الحداثة لا أقل ولا أكثر.
رجعيتان ورِدة فكرية
وهذا ما يهم بالنسبة لمنيب. الرسالة وليس حامل الرسالة. فحتى عندما اشتكت مؤخرا انفضاض وسائل الإعلام عنها بعد سكرة الانتصار قبل عام حرصت على ألا تجعل من المسألة قضية شخصية، بل فسرت الأمر من زاوية إشعاع حزبها الذي “يحمل مشروعا بديلا”. والمشروع البديل في رأي الزعيمة اليسارية هو مواجهة “رجعيتين”، وانقاذ المجتمع المغربي مما تسميه “ردة فكرية”.
ولعل من أهم ما يسترعيك في تحليل الزعيمة اليسارية المغربية في تشخيصها للداء المغربي وسُبُل الشفاء منه، حديثها عن التعليم. ليس فقط لأنها تُدرس في الجامعة، ولكن لأنها تؤمن بأن التعليم هو المفتاح لبناء المواطن الملتزم والمسؤول؛ ولأنها “عاينت عن قرب” ما حدث لقطاع التربية في المغرب منذ أن شملته خصخصة الخدمات، وما ترتب عن ذلك من تحول مغرب التربية والتعليم إلى “مغارب تمشي بأنظمة سرعة متفاوتة.”
وإذا كانت المدرسة هي المدخل إلى بناء المواطن، فإن الانفتاح على الشباب هو السبيل إلى بناء مجتمع “ديمقراطي حداثي يؤمن بالتعددية ويحترم الرأي الآخر.” وتأسف منيب لفشل أحزاب اليسار في التواصل مع شريحة المجتمع هذه، مذكرة بموقف حزبها الداعم والمحتضن لـ”حركة عشرين فبراير” على عكس عدد من الأحزاب اليسارية الأخرى وفي مقدمتها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
وينبع اهتمام منيب والحزب الاشتراكي الموحد بهذه الحركة من اعتقادها أن الإنصات إلى الشباب هو الوسيلة ليس فقط لـتأطيرههم ولتجديد دواليب المجتمع، بل كذلك –وهذا هو الأهم بالنسبة للزعيمة الحزبية- للتعلم منهم وللحيلولة دونهم والتطرف والعنف. فعلى الرغم من موقع الحزب الاشتراكي الموحد في يسار اليسار، لا تؤمن منيب بأن التغيير سيأتي بقلب النظام الملكي بل عن طريق الإصلاح الدستوري “الحق” للنظام السياسي، كما “تنفي عن حزبها تهمتي العنف والعدمية” لما يؤديان إليه من فوضوية لا تعود بالفائدة على أي كان.
هذا -بشيء من الاختصار- عن الرؤية، فماذا عن الوسيلة؟
في الاتحاد قوة
عندما انتخبت منيب أمينة عامة للحزب الاشتراكي الموحد، خلفا لمحمد مجاهد، كان لها برنامج بمحورين. المحور الأول إعادة هيكلة هذا الحزب الذي كان سنة 2002 “الثمرة المباشرة للصيرورة التوحيدية التي كانت قد انطلقت في يوليو/تموز 2000 بين أربع مكونات هي منظمة العمل الديمقراطي الشعبي وحركة الديمقراطيين المستقلين و الحركة من أجل الديمقراطية وفعاليات يسارية”، حسب الموقع الرسمي للحزب.
وقد جاء تأسيس هذا الحزب في السياق العام لتاريخ محاولات توحيد قوى اليسار “الجذري” [بمعنى الراديكالي] التي امتدت على مدى ثلاثين سنة منذ تكون نواه الأولى في أواسط الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي. وهذا هو المحور الثاني من برنامج منيب، وإن كان انتخابها أمينة عامة نتيجة “لديمقراطية” الحزب الداخلية التي تخول المجلس الوطني صلاحية اختيار من يراه أهلا للمهمة – وليس بعد حملة انتخابية تتقارع فيها البرامج -إن كان ثمة برامج- كما كان عليه الحال في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
ترى منيب أن اتحاد كل القوى اليسارية في المغرب مسألة ضرورية للخروج من المأزق الذي يمر منه المغرب ومن أجل التصدي لما تسميه “تسونامي” سياسة السبحة واللحى، معتبرة أن مسؤولية توعية الشعب لا تقع على عاتق الحزب الاشتراكي الموحد، بل على كل أطياف اليسار المغربي: “اليسار يحمل مشروعا للتغيير الديمقراطي وليس التغيير من أجل التغيير. إن المغاربة يتطلعون إلى التغيير ويطمحون إليه ولكنهم لا يعلمون أي تغيير يريدون.”
فهل أنجزت منيب ما وعدت؟
تقول الزعيمة الحزبية بتواضع ظاهر –ولسان حالها يذكر بأن اليد الواحدة لا تصفق- :” الحزب الاشتراكي الموحد غير قادر على إعداد مشروع من هذا القبيل بمفرده.” ولكن في انتظار الاتحاد الشامل والوحدة التامة لكل اليسار، لا ضير في انفتاح أكبر على المدرسة اليسارية بإبرام تحالف (مع حزبي “الطليعة” و”المؤتمر الاتحادي”، المنشق عن حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية) لن يتقوى ويشتد عوده إلا بالانفتاح أيضا على “كل القوى المناضلة الديمقراطية التي لها مصلحة في بناء مشروع بديل.”
لا تقول شيئا عن التشرذم والتفتت الذي استفحل ذات اليمين وذات اليسار، أو تفضل ألا تثير الموضوع وأن تذكر بالنصف الممتلئ من الكأس: “خروج الاتحاد الاشتراكي إلى المعارضة هذا معطى جديد، انطلاق الحراك الاجتماعي مع حركة “عشرين فبراير” هذا معطى أساسي وجديد.”
وحتى عندما تكرر منيب -بلهجة واثقة وأسلوب تبدو عليه مخايل التدريس، ونفحات من أجواء المدرجات- ما قد يكون بعض من لا يعجبه العجب قد ألِف سماعه من خطاب سُداه شعارات ولُحمته تعميم، فإنها تُصر على تأكيد ضرورة “أن يجتهد اليسار وأن يراجع أدواته وخطابه ومواقعه”.
فسحة الأمل
وتلمس في حديثها هذا عن اليسار بمختلف أطيافه غيرة وعصبية، أو بالأحرى تعصبا، وحنينا إلى أيام ولت عندما كان لليسار صيت وهالة من إعجاب وتقدير تلاشيا أو كادا بعد أن شارك الحزبان اليساريان الأبرزان في المغرب وهما الاتحاد الاشتراكي وحزب التقدم والاشتراكية، إلى جانب أحزاب محافظة أو “شبه إدارية”-في أول حكومة أفرزتها الانتخابات في المغرب في أواخر تسعينيات القرن الماضي وأُطلق عليها اسم حكومة التناوب التوافقي، أو بتعبير أقرب إلى الدقة حكومة غض الطرف.
هذه الغيرة على الأسرة اليسارية تنعكس في حديث منيب هاجسا وهوس اتحاد وتحالف وتآزر وما إلى ذلك من شعارات هي أقرب إلى التمني منها إلى خطة محكمة لقيادة اليسار نحو صراط مستقيم لبناء قاعدة شعبية “تخَطَّفها العدالة والتنمية بغير وجه حق”، وانتشال المجتمع من وهدة “الردة” التي تردى فيها.
والردة –أحد التعبيرات التي استعارها اليسار من القاموس الإسلامي- في رأي منيب هي “انتكاسة في التفكير تتجاهل العلم وتمتنع عن التفكير المستقل.” ولقد أصبح من مسؤولية كل اليسار المغربي أن يتصدى لهذه الردة لأنها أصل كل الداء.
هذه مشاريع طموح بلا شك، والأصعب من تحقيقها توفير الأدوات اللازمة لذلك، وفي مقدمتها لم شتات يسارٍ ما فتئ يتشظى. لكن الأمل خصلة من خصال المناضل، تردد نبيلة منيب محاولة أن تتجاهل أن الأمل في بعض المقامات وهم وتخاذل.
[email protected]
أضف تعليق