عندَ التطرق إلى نكبة الشعب الفلسطينيّ عام 1948، فإننا حتماً نستعيد رواية فُقدان البيت والوطن والأهل بتفاصيلها الصغيرة، وما تبعها من أحداث عنف، تهجيرٍ، ولجوء، وهذه الرواية تحمل أبعادًا كبيرة تكون فيها دليل وجود وأحقيّة خالصة في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.
والرواية إمّا أن تكون شفويّة متداولة، أو مكتوبة مُأرّخة، والثانية يناضل من خلالها الكاتب السياسي، والإعلامي الفلسطيني، أنطوان شلحت، مدير وحدة «المشهد الإسرائيلي» في المركز الفلسطيني للدراسات «الإسرائيلية» (مدار) ـ عكا، من خلال عدة أبحاث ومقالات، منها "إلّا النكبة"، "حول سؤال النكبة في الأدب الفلسطيني"، و"إعادة الإرتباط مع القضيّة الفلسطينيّة"، وغيرها الكثير من الأبحاث التي تبحث في الوضع الفلسطيني بشكل خاص، والعالم العربيّ بشكل خاص.
رواية وجود
يستلهم شلحت أهمية الحفاظ على الذاكرة الجمعيّة الفلسطينيّة في مقولة لمّاحة يؤمن بها لأحد أساتذة الفلسفة الفلسطينيين حين قال: "إننا حيال صراع بين وجودين- وجود فلسطيني مسلوب الحق لديه إحساس بوجوده الدائم دون خوف على وجوده ويمتلك الحياة أفقاً بوصفه الساكن الأصلي لفلسطين، وقادر على استعادة وعيه بقضية فلسطين في محيط عربي يسمح بذلك، ووجود إسرائيلي سالب الحق لديه إحساس دائم بالخوف على وجوده متورط في عالم غير عالمه وواقع في مأزق تاريخي"، ويعود شلحت ليؤكد أنّ "ما تحمله الذاكرة والهُوية هو الأفق".
في مضمار رواية "النكبة" المستمرة بين السرد التاريخي أو التداول الشفويّ، يبين شلحت: "النكبة لا تزال، كحدث مؤسس في الوعي الفلسطيني، تهيمن على روايات السردية التاريخية التي تعالج موضوعا محددا في الزمان والمكان. وهي سردية مفجوعة بهول الحدث وتداعياته طيلة 67 عاما، ومع ذلك، تتجاوز الرواية الشفوية للاجئ الفلسطيني حدود حصر النكبة في زمانها ومكانها، حيث دارت أحداثها عام 1948؛ إذ استطال الزمان وتغير المكان طيلة عقود تالية. لذلك، تختتم الرواية غالبا بمقولة تلخص الوعي المأسور بالحدث المؤسس، مفادها أن "النكبة لا تزال مستمرة"، في إشارة إلى استمرار واقع اللجوء برسم العودة".
ويُرجّح شلحت أسباب "استمرار النكبة" وعدم انتصار الشعب الفلسطيني بعد عقود من الصمود إلى "العوامل الذاتية الفلسطينية، وكذلك العوامل العربية والدولية، لكن قسطا آخر ينبغي أن يركز على مستوى التقدم الذي حققه المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني العنصري على الأرض. وهو ما يلخصه تقرير الإحصاء الفلسطيني المذكور باستعراضه بيانات أهمها أن إسرائيل باتت تستغل أكثر من 85% من المساحة الكلية لأراضي فلسطين التاريخية، بينما يستغل الفلسطينيون حوالي 15% فقط من مساحة الأراضي".
النكسة المنسيّة
يدعم شلحت فكرة بهتان تعامل الإعلام الفلسطيني مع إحياء فعاليات ذكرى نكسة 1967 مقابل تصاعد التركيز على إحياء النكبة، وهو وفق تحليلهِ السياسيّ "يرتبط بإزاحة إستراتيجية في النظرة الجمعية الفلسطينية لكيفية التعامل مع الواقع المأزوم، وذلك بالانتقال من منظور الاحتلال إلى منظور الاستعمار، من احتلال 1967 إلى الاستعمار المرتبط بـ 1948، وهو ما يعني إعادة مفهمة الاحتلال ضمن منظومة الاستعمار الاستيطاني والإحلال والقوة لا ضمن مفاهيم الأمن والصراع القومي والخلافات على تبادل الأراضي".
ويُشيرُ شلحت إلى أنّ "جذور المشكلة ترجع إلى إعادة التمركز في دائرة 1948، وهي ليست خيارا فلسطينيا مدروسا ومحسوبا عقلانيا بمفاهيم الربح والخسارة السياسية، بل نتاج تقاطع وتفاعل مجموعة من العوامل التي حولت قبول الفلسطيني لحل سياسي ضمن إطار الدولتين وما يتضمنه من قبول بما يساوي 20% من وطنه إلى رماد".
ويُسهبُ في شرح عوامل استمرار النكبة في: "التعنت الإسرائيلي وقصور المجتمع الدولي وشرذمة العالم العربي، لكن بالأساس بسبب عدم نجاح الصهيونية في "التقاط" الفرصة التاريخية عام 1967 بالتحول من مشروع استعماري إلى مشروع دولة واضحة المعالم، بل على العكس أوغلت في بعدها الاستعماري الاستيطاني الشرس، وهو ما يتجلى حاليا في التحول المنتظم لإسرائيل إلى دولة أكثر يهودية وأبارتهايدية، تحمل بذور فشلها في الحفاظ على شكلها".
نجاح ملموس
لا يوافق شلحت على فشل رواية النكبة الفلسطينيّة الصادقة، ونجاح نظيرتها الإسرائيليّة الزائفة، معبراً: "الآية انقلبت الآن وأصبحت الرواية الفلسطينية تسجل نجاحات إعلامية ملموسة. وهذه النجاحات تسببت بفشل مخططات حكومات إسرائيل وبرامجها في إنهاء القضية الفلسطينية، وإن كان هذا الفشل لم يصل بعد إلى درجة تقتنع معها الحكومات الإسرائيلية أنه لا سلام مع الاحتلال، وأن الشعب الفلسطيني متمسك بأرضه وحقوقه، وأن ما جرى سنة 1948 لن يتكرّر أبداً. كما أن قضية فلسطين لم تعد مختزلة بكونها قضية لاجئين، فالعالم من أقصاه إلى أقصاه يعترف بقضية فلسطين كقضية تحرر وطني، وأن لشعبها الحق في تقرير المصير، وأن الاحتلال الإسرائيلي وكل ممارساته مرفوضة ومدانة ومخالفة للقانون الدولي، وأنه لا شرعية لكل ما تقوم به إسرائيل من استيطان، بما في ذلك القدس الشرقية التي هي جزء لا يتجزأ من الأرض الفلسطينية التي احتلت سنة 1967 وهي العاصمة الأبدية والخالدة للدولة الفلسطينية المنشودة".
يرى كذلك أنَ للإعلام الفلسطيني دور كبير في نشر الرواية الفلسطينية، موضحاً: "لكن مسألة نجاحه أو إخفاقه تظل نسبية ولا يجوز التعميم بشأنها، ولكل فلسطيني دور وطريقة في نشر الرواية، ومنهم أصحاب القلم كما الأديب الفلسطيني غسان كنفاني، الذي اعتبر منذ 1967 أن الفلسطيني ككاتب يستطيع أن يستكشف الصفة الخاصة جداً للقضية الفلسطينية أكثر من أي شخص آخر، خصوصاً إذا كان من الجيل الذي خرج من فلسطين، وهو إذن الجيل الذي يُنتج".
وعن أهمية الجانب التكنولوجي في رواية النكبة، يُقول شَلحَت: "مواقع التواصل الإجتماعي والمدونات التكنولوجية يمكنها إشهار القضايا الوطنية التي وسعت سبل الوصول إلى أي مكان في أنحاء الكون، فاستمرار "النكبة" يعني أن المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني العنصري لا يزال مفتوحًا على مآلات قيد التشكل بقوة الوقائع المفروضة على الأرض، الأمر الذي يفرض استمرار فتح الصراع نفسه، واستبعاد فرضية التوصل إلى تسوية سياسية ضمن موازين القوى القائمة، تكفل تحقيق مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 4 حزيران/ يونيو 1967، وعودة اللاجئين إلى ديارهم، وممارسة حق تقرير المصير".
لم يكن
ويجيب عن تأثيرات "الثورات العربيّة" على القضية الفلسطينيّة: "لِما يحدث في الدول العربيّة اليوم إسقاطات على سيرورة بلورة الرواية الفلسطينيّة إعلاميّا على المدى البعيد"، شارحاً أهم هذه العوارض المتجليّة في "تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية عربياً وهو اهتمام لم يكن على درجة كافية من الزخم أصلاً"، ويستطرد: "العالم العربي قد شكّل منذ وقوع نكبة فلسطين بمثابة عمق استراتيجي للشعب الفلسطيني وحركته التحررية الوطنية، حتى وإن عجز هذا العمق عن إعادة الحق والعدالة إلى فلسطين".
ويستعرض شلحت تأثيرات الاضطرابات المستمرة في زلزلة المنطقة بأنّها "تجعل الاستفادة من التعاطف الإقليمي أمراً صعباً، فعلى مدى السنوات الأربع الماضية، الثورة تتبعها ثورة مُضادة، ثم تتبع ذلك ثورة مُضادة للثورة المُضادة. الشيء الوحيد المؤكد هو عدم اليقين، والتعقيد، والتغيير".
تشكل النكبة بواقعها المتشعب والممتد بتراكماتهِ لغاية يومنا هذا لايزال يخلف وراءه خيام اللجوء، الإحتلال، والصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، مسألة العودة، والانقسام الفلسطيني.
الرواية الفلسطينيّة هي مفتاح وجود الشعب الفلسطينيّ وإثبات حقه في ملكية الأرض الذي هو صاحبها، عدا عن أنَّ الرواية هي أداة توثيق لنكبة الشعب، والإبادة الجماعيّة التي لحقت به، ولا شكّ أنّ تشعبات الرواية مستمرة ما دام الإحتلال موجوداً، وحال الرواية الفلسطينيّة متغيّر كأهلها، ومتأثِّر بالمعطيات السياسيّة والإجتماعيّة.
[email protected]
أضف تعليق