لعلّ الجميل في الحياة أنّك تستطيع أن تبني أحلامًا وسع السماء، ولا أحد يستطيع منعك مِن أن تحلُم، أحيانًا تكون أحلامنا الوردية أكبر مِن واقعنا الصعب، ولكن بيدينا نحوّل الألم إلى أملٍ وإلى مشوارٍ نحو نجاحٍ مُستقبلي، نظنه بعيد، ثم نراهُ قريب، إنها حكاية فنانة، صنعت مِن واقعِها دربًا للتحدي، ورسمت بأناملها أحلامَ كثيرين ممن يعيشون مأساةً مشابهة لمأساتها، هي الرسامة أمل شلبي، التي ترسُم الواقع بفرحه وحزنه.

قصة تحدي، مرض ضمور العضلات وموت زيد

أمل شلبي (33 عامًا)، من عرب الشبلي، كانت في العاشرة من عمرها، يومَ تعرضت لحادث مأساوي، رسمَ طريق حياتها بصورة مختلفة، عما تمنته وكانت تحلُم به وهي صغيرة، حيث شاءَ القدر غيرَ ما تمنته وعائلتها، وحالَ الواقع الأليم دون قدرتها على الحركة. معاناتها صارت تكبُر وتكبُر مقابل قدرتها على الحركة التي بدأت تتقلص أكثر وأكثر، ورغم ذلك ظلّ الأمل رفيقها، بدعمٍ من عائلتها، وزادت ثقة أنّها ستواصل مسار حياتها كما تتمناه، رغم الآلام والصعوبات. 

وأمل واحدة من كثيرين قادتهم حياتهم كـ"ذوي احتياجات خاصة" إلى التشبُث بالحياة، والبقاء فوقها، ومحاولة تغيير مفهوم هؤلاء البشر، واعتبارهم متساوين.

عن الحادث لا تذكر أمل شلبي التفاصيل، كل ما تعرفه أنها اضطُرت لملازمة السرير بسبب الكسر في رجليها، وخلال مرحلة العلاج، عرفت من ملامح والديها أنها غير قادرة على المشي بمفردها، ليس بسبب الكسر الناجم عن الحادث، وإنما لإصابتها بمرض "ضمور العضلات"، والذي يتسم بفقدان الأنسجة العضليّة والضعف الجسدي والتنكس في عضلات الهيكل العظمي التي تتحكّم بالحركة!

أمل التي لم ترسُم تفاصيل حياتها منذ الصغر، اضطُرت لترك مدرستها، بسبب عدم قدرتها على المشي وصولاً إلى المدرسة، وبسبب عدم حصولها على مساعِدة حين تحتاج ذلك خلال دوامها المدرسي. فلم يستطع الشقيقان زيد ولبنى دعمها، لأنهما مصابان بنفس المرض، لكنهما بقدر حبهما لها دعماها معنويًا على تخطي محنتها، وتحمّل ألم الفقدان، فقدان الحركة والتوازن، لكنّ الموت خطف زيد بفعل المرض، وبقيت لبنى تُشارِك شقيقتها أمل، بالدعم والأمل علّ بريق الحياة يستعيد لمعانه في عيون أمل.

من خربشات إلى رسومات إبداعيّة

أمل بَنت لنفسها أحلامًا، لم تستطع تحقيقها بسبب الواقع الصعب، لكنّ حلمًا كبيرًا واحدًا ظلّ يكبُر ويكبُر ليصِل إلى السماء، كانت البداية بـ"خربشات" وسرعان ما بدأ يتطوّر ويتحوّل إلى رسوماتٍ مبدعة، وهكذا بدأ الأفق يبتسم أمامها، ووجدت لنفسها مهربًا مِن أزمتها باللجوء إلى الرسم، والتعبير بالألوان، هكذا توقفت رجلا أمل عن الحركة، لكنّ نبض قلبها ظلّ يخفق أملاً وأحلامًا ورديّة، إذ اعتمدت على أناملها برقصاتٍ إبداعية جميلة، لم تُعرَض على أحد قط، لذا اضطُر الوالد إلى إقامة معرض دائم لأمل في بيتها، بسبب عدم القدرة على التحرُك والتنقل مِن مكان إلى آخر وبسبب كلفة المعرض الباهضة ايضًا.

والدا أمل وأشقائها وقلّة آخرين، حاولوا مساعدتها، لكن أستثمار الوالدين تركز في تهيئة المنزل للمقيمين فيه للتحرك بحرية، وكان لزامًا عليهما تأمين الكراسي المتحركة للأخوة، وتأمين الوصول إلى الممرات والساحة بأمان، ما دفع بالعائلة إلى تخصيص ميزانية كبيرة لضمان استقرار الأبناء.

كان واضحًا أنّ دعم الوالدين لا بديل عنه، لذا كان الإيمان عميقًا بموهبة أمل وقدرتها على التعبير عبر لوحاتٍ وألوانٍ جذّابة، ترُسم صورةً إنسانية، للحياة والأمل والمستقبل، وتنقُل عبر الألوان قصتها الشخصية وتعبِّر عن وجعها المغلّف بالأحلام الوردية، لكن يبقى السؤال القاسي الذي يسمعه الأهل دون القدرة على التفسير، حين تسأل أمل: "ليش أنا؟!".

عن الدعم العائلي، وزرع الثقة بالنفس، تحدثت أمل عن الوالديْن اللذيْن دعماها، لموقع "بكرا" قائلة: "كانت حلمي الكبير أن يكون لي معرض رسومات باسمي، ولأنّ والدي لم يكن يعرف كيف يتم تنظيم معرِض وبسبب الكلفة الباهضة له، قرّر تحويل بيتنا إلى معرض، إذ علّق رسومات في كل زاوية في البيت، بطريقة توحي أننا نُقيم في معرِض.

تضيف: "كان حلمي الدائم أن أنشر رسوماتي في فناء بيتنا، وأن تحضُر الصحافة ويهتم المختصون بمشاهدة معرضي، ليس للإطلاع على رسوماتي، وإنما للمس معاناة ذوي الاحتياجات الخاصة، وصعوبة تنقلهم وضرورة مساعدتهم ليمارسوا حياةً طبيعية، كسائر البشر، وأنا أرسُم لأهرُب من معاناتي، وأهرُب لأرسم لوحاتي".

وتشير أمل إلى إحدى رسوماتها، التي تظهر فيها آثار قدم بشريّة حولتها لألوان، ثم تقول: "إنها اللوحة الأحب إلى قلبي، فهي تأكيد على ما قامت به عائلتي مِن أجلي. وأذكر حين رسمتها كنتُ في أسوأ حالاتي، وددتُ أن أصرُخ بأعلى صوتي، أنني "اريد أن أمشي" لكن عبثًا، جاءت محاولاتي، يومها اقترحت عليّ شقيقتي لبنى، أن أرسم خطواتي، فجمعتُ عائلتي ووضعت اللوحة على الأرض وطلبت منهم مشاركتي الرسم، بعضهم وقف ليرسم آثار أقدام وآخرين ساعدوني بالرسم والدهان، وبعد انتهاء اللوحة، نظرت إليها مليًا وفكرت: "مؤكد أنني لن أمشي مستقبلاً على قدماي، لكنّ الأكثر تأكيدًا أنّ أحدًا لن يمنع تقدمي، منذ تلك اللحظة، قررتُ تعزيز موهبة الرسم، وبتُ أرسم لوحة كل يوميْن تقريبًا".



الوجع النفسي والجسدي، الضمور يصيب كافة الأطراف

ذلك الحزم على المضي قدمًا نحو الإبداع توقف لفترة قصير قبل 3 سنوات، حيث أصيبت معظم أطراف أمل بالضمور وليس فقط رجلاها، ولم تعد عضلات جسدها تقوى على الحركة، عدا أصابع يدها ورأسها! أمل لم تعرف حينها ما الذي أحبطها أكثر، هل هو التوقف عن الحركة كليًا أم التوقف عن الرسم؟ لكن المؤكد أن حالتها النفسيّة ساءت جدًا، خاصةً أنها جاءت بعد فترة ليست بالبعيدة عن وفاة أخيها زيد.

أمل وصفت حالتها في حينه، كما يلي: "كنت أنظر إلى الألوان ولا أرى إلا اللون الأسود، قبل توقفي تمامًا عن الرسم كنتُ أستصعب حمل الفرشاة لثقلها، وأضطررت إلى الرسم بالرصاص فترة معينة، كنت أعي جيدًا أنني أقترب من خط النهاية -إن صح التعبير- لكن لم أفكر أنّها ستكون سريعة جدًا. بدأتُ أفقد معنى الألوان وأفقد معها أيُ معنىً لحياتي. ولم تشفع كلمات التعزية والدعم التي سمعتها في حينه، على نفسيتي، وقدرتي على تخطي المحنة، فلا أحد يستوعب فعلا أن الشيء الوحيد الذي يمكنني أن أفعله في حياتي، قد حُرمتُ منه، ما يعني أن لا معنى لحياتي القادمة، "هل لأحدٍ أن يتخيّل ما أعيشه؟!".

أمل الصبيّة المُحِبّة للحياة، أصيبت بحالة من الإحباط، وصفتها شقيقتها لبنى لموقع "بكرا" قائلة: "أمل لم تتجاوب معنا في تلك الفترة، واختارت العُزلة وسكنتها محاولات يائسة وبائسة جدًا لإيجاد أجوبة لأسئلة مبهمة، وسرعان ما عادت لتقع في فخ السؤال الأساسي: "لماذا انا"؟! و"ما فائدة الحياة"؟!

التكنولوجيا هي الحل 

أضافت لبنى: استمرت هذه الحالة مع أمل حتى وصلنا إلى إحدى المراكز التجارية في العفولة، ورغبت أمل أن تشتري هاتف خليوي جديد عوضًا عن القديم التي تملكه. فاختارت جهاز من نوع Samsung Note 4، جاء الاختيار عشوائيًا، أعجبها حجمه وقررت اقتنائه ولم تعِ أنّ التكنولوجيا ستكون في خدمتها وأنّ وعد الله والطلب إلى عبده بألا يغيب القنوط من رحمته قد تحقق .

أمل، لا تخفي لهفتها بالحديث، فتسبق لبنى وتشرح بالتفاصيل: "وصلت إلى البيت وبدأت معاينة الجهاز، وجدتُ فيه برامج عديدة، لكن لم أفكر للحظة أنني سأجد برنامج رسم، وعلى الفور دخلت إليه”.

واصلت حديثها: "حركتُ إصبعي على شاشة المحمول، ليتحول الحراك إلى خط ومن ثم إلى آخر وبعد أقل من ساعة رسمتُ أول زهرة. لن أستطيع وصف مدى سعادتي لحظتها، لستُ أدري كيف اختلط البكاء بالضحك في حينٍ واحد، والأجمل أنّ الحياة عادت لإحيائي، وبدأت الرسم والتلوين، وبتُ أسارع أكثر في الرسم، صرتُ أرسم رسمتين في يومٍ واحد.

• الأحلام الجميلة!

تملك أمل، اليوم، أكثر من 50 لوحة، لوحات لم يطلّع عليها أحد سوى بعض أقاربها وأصدقائها، وبعد أن عادت إليها القدرة على الرسم من جديد، باتت أمل، تحلم مرة أخرى بافتتاح معرض للرسومات، عن ذلك تقول: "لا أريد أن أفكّر بما سيحدث لي مستقبلاً، لكنني أرغب فعلاً بترك بصمة لي من خلال معرض لرسوماتي، وسأعمل المستحيل لتحقيق، وها أنذا أخرُج للإعلام، رغبة مني أن أُسمع "صوت المهمّشين" ولأبحث عن دعم لمشروعي المتواضع، وأرى في هذا المشروع ابنًا لي، عملته على تربيته برمش العين، وحان الآن وقت الفرح به، أحتاج إلى حاضنة للمشروع، تلك التي تأخُذ بعين الاعتبار احتياجاتي الخاصة واحتياجات المشروع المادية، فكُلفة طباعة الرسومات التي أعمل عليها عبر الهاتف أغلى من تلك التي كنتُ أرسمها بشكلٍ طبيعي، وكلي أمل أن أجد بينكم هذه الحاضنة ولعلّ صوتي يصل إلى شركة Samsung فتقرّر دعم مشروعي. 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]