اصدار من القطع المتوسط يقع في 45 صفحة، يتصدره الإهداء ويختتم بالسيرة الذاتية للكاتب.

قرأت النص الذي اتخذ لنفسه تصنيف الرّواية في جلسة واحدة، بشغف الباحث عن تفاصيل تائهة في أدراج الذاكرة التي علاها غبار الزمن، ورحت أفتش بين ثنايا النص عن الطفلة التي كنتها بين ربيع المقاثي وصيف البيادر في تلك القرية الجليلية، بل ورحت أستدعي من الذاكرة فرح أهازيج الحصاد والبيادر.

أترك تصنيف النص الأدبي هذا الذي بين أيدينا للنقاد، إن كان رواية أم هو نص بين الرواية والسرد التوثيقي، أو أنّه يشي بخبايا من سيرة ذاتية. كما أترك معالجة أسلوب الكاتب ولغة النص وغير ذلك من عناصره لمن هم أجدر مني في هذا المضمار. لكن كقارئة من الإمعة أشير فقط الى ما استوقفني في هذا النص.

الرواية، كل رواية تعتمد ثلاث عناصر، المكان والزمان والإنسان.

مكان الرواية واضح، أشار الراوي الى أماكن ومواقع بعينها في جبال القدس، وبأسمائها التي أصبحت تراوغ ذاكرة الفلسطيني صاحب الأرض. ففي بعض الأحيان، لا بل في الكثير منها تشوه وعيه فعَرَجَ لسانه وتبنى الإسم الذي اطلقه عليها المستعمر. فليس بغريب مثلا في القدس أن تسمع الفلسطيني يصف لك مكانا بقوله: "قبل ما تصل (هار حوماه) ..." الذي هو جبل أبو غنيم. أو يبادرك بالتوصيف: "بعد (أرمون هانتصيف) على اليمين ..."، يقصد بالطبع قصر المندوب وهو جزء من جبل المكبر. هو التغريب، الذي يعقبه التغييب، في الطريق الى طمس معالم فلسطين من الوجدان الفلسطيني، هو إلغاء المكان من وجدان الإنسان.

يبدو أن هاجس طمس، لا بل انتزاع فلسطين، المكان، من ذاكرة ووجدان الفلسطيني، استحوذ على وجدان الكاتب، وتوطنت في نفسه خشية من ذلك، فأخذ يدوِّن في روايته أسماء لمواقع أراض زراعية. هو نص لترسيخ فلسطين في الذاكرة أشبه بالتوثيق، لأماكن بأسمائها المتداولة والمعروفة لأهلها، لأنواع المزروعات ومواسمها، أساليب الزراعة، جني المحاصيل، تربية المواشي، وغير ذلك من تفاصيل الحياة اليومية لفلاح فلسطيني في ريف القدس. لا بل استفاض الكاتب في توثيق نباتات برية أو ما يسمى "بَقْل" بأسمائها المتعارف عليها، وأماكن وجودها وأساليب استعمالها في المطبخ الفلسطيني. كأنه يلهث لتخليد المكان بأدق تفاصيله، هل هي محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟

إنها رواية لعائلة مزارع فلسطيني يمارس بهمّة ونشاط مع كل أفراد العائلة العطاء للأرض، وهي تبادله العطاء بأضعافه، حيث يكسب قوت يومه لا بل يفيض عن حاجته. ويوفر له هذا الفائض الاستمرار في ممارسة ما ورثه من قيم أصيلة.

هذا نصّ أنشودة راقصة لتفاصيل حياة يومية لعائلة فلاح فلسطيني هانئة في جبال القدس. تذكر القارئ بأناشيد دافئة وحميمية، ترسم وطنا من ذلك الزمن الجميل، كأنه الفردوس.

في الزمان يراوغ الكاتب قارئه. علما أنه اختتم روايته بتثبيت تاريخ 1 حزيران 2014 . فقد تصدر روايته إهداء الى حفيده كِنان. نص الإهداء دافئ ولكنه مُثـْقـَـلٌ ومُثـْقـِلٌ. فهو يعكس ما يشكله هذا الحفيد في حياة الجدّ. ثمَّ إنّه ختمها بحادثة مفزعة روعت عائلة المزارع في الرواية، "صوت مآذن المساجد تنادي بأنّ جرافات المستوطنين تجرف الأراضي الزراعية" ص 40.

يستطيع القارئ وبسهولة، تقصي أثر الزمان الغائر والغائم والمُتشظي في الرواية. لكل مكان زمان، ولكل إنسان زمان كذلك.

حين يهدي الكاتب حفيده هذا النص، يعلم القارئ أنه يقرأ ما يشبه سردا وتوثيقا لذاكرة الجدّ. أي أننا أمام نص استعراضي لمرحلة الزمن الجميل الذي عرفه الكاتب في فلسطين. وما هي إلا الآن، ها هي الآن جرافات المستوطنين تجرف الأراضي الزراعية! ويترك النص مفتوحا على تلك الحادثة المروعة؟ هل أراد الكاتب تسليم الأمانة للحفيد؟ هل أراد الكاتب تحميل حفيده وزر معالجة المسألة؟ ولكن فلسطين مثخنة بجراح الجرافات منذ ما يزيد على مئة عام

مش حرام عليك يا شيخ ؟! ألا تتقَّي الله في حفيدك؟
وفق سيرة الكاتب المرفقة في الإصدار، هو مواليد العام 1949 ، أي أنّه زمن الجرح الغائر، والأكبر في الوجدان. فكيف إذن، وهو ينتمي الى جيل التيه، يروي لحفيده رواية الزمن الجميل؟ يترنم بكل هذه الأناشيد الجميلة عن الفردوس؟ ألا أن جيل آبائه قد طـُرِدَ من الفردوس شرّ طردة، وتشتت أيدي سبأ؟ كاتبنا وفق زمن فلسطين والجراح والندوب التي تثخن جسدها، يشكل حلقة في سلسلة. لماذا يراوغ حفيده بهذه الأناشيد الجميلة عن الفردوس المفقود؟ فجيل الآباء قد ضيَّع جزءا من هذا الفردوس، وهذا جيل كاتبنا الذي التهبت جراح الفقدان في وجدانه، قد وَقـَّعَ على صكّ البراءة لسائق الجرافة، ومنح الغفران لمن عاثوا جراحا ونهبا واغتصابا في هذا الجسد.

هو جيل التيه، يتراقص على قمم الكلام عن الفردوس الجميل. والحقيقة أنه فردوس ضائع مفقود، منذ جيلين على الأقل. ثمَّ أنه يتغنى لحفيده بفردوس أبيه، المفقود، وكأنه ما زال ينعم فيه. هذا بعد أن وقع على الصّكّ، تحصن واعتصم وراء أسوار أنيقة فخمة وسيارات سوداء فارهة. ثمَّ وكأنه يفاجئنا بأن الجرافات تجرف الفردوس، الآن.

شيء وكأنه بناء أسطورة لزمن جميل لم يكن، ابتداع أسطورة زمن جميل هانئ. ثمَّ راح يقذف هذا العجز، عجز المائة عام ونيف على كاهل هذا الحفيد الغض، هل هو اختلاط مفاهيم الزمان، أم الحاجة الى بناء أسطورة عن زمن جميل في الوعي الفلسطيني الناشئ؟ أم أن هذا من باب حث الحفيد للتفتيش والعثور والتمسك بحقه في الفردوس؟ هل هو سلاح الفلسطيني؟ أو على الأصح ما تبقى له من أسلحة في هذا الزمن الأغبر؟!

في فلسطين يتقاطع خليط من الأزمان، ففيها لكلّ فلسطيني زمنه. غير أن كاتبنا اختار لروايته رصد حياة عائلة فلاح ومواسم الزراعة، من البذار في الأرض إلى الحصاد. هي دورة الحياة في الطبيعة. هل في ذلك إشارة الى دائرية الزمن في وعيه؟ تلك الدائرية التي تومئ إلى إيمانه بالخلود والبعث؟ خلود المكان وبعث الزمان، زمان الفردوس الجميل!

في هذا النص مادة معلوماتية دسمة لجيل الفتيان والفتيات عن أساليب الحياة الريفية والمجتمع الزراعي في فلسطين، أكاد أجزم بأنها تصلح مع إعداد مناسب لتصبح مادة إرشادية توعوية للجيل الناشئ عموما وفي المدارس الفلسطينية خاصة.

من حيث الإنتاج، إضافة رسوم توضيحية لبعض الأدوات التي ذكرها الكاتب والآخذة في الانقراض، كان سيضيف الكثير لهذا النص. كذلك إرفاق صور لبعض المنتوجات الزراعية، وأنواع البقل المختلفة التي أصبحت للأسف "مادة تراثية"، توسع مدارك معرفية، وتضاعف عنصر التشويق خاصة في رواية لجيل الفتيان والفتيات، جيل اختلطت في وعيه الصكوك، وانتفى من وجدانه المكان، فأسس لنفسه زمانا، زمانا في إيقاع الحاضر، وعلا غبار العولمة إدراكه، فبات يلهث وراء السراب. وكأنه لا مكان له ولنا، ولا زمان تحت الشمس.

تقتضي الأمانة، الاشارة الى أنني أعرف الكاتب شخصيا وقرأت من إنتاجه الكثير، واجتهدت ألا تكون قراءتي أعلاه جارحة أو مجروحة.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]