منذ عقدٍ ونصف، يواصل عزمي بشارة البحث والتنقيب في "الدّين والعلمانيّة". وفي عام 2012 أصدر كتاب "الدين والعلمانية في سياق تاريخي"، ليكون بمثابة مقدّمة نظرية لثلاثية نقدية، سيُخصص الجزء الثاني منها لدراسة العلمنة في أوروبا، بينما سوف يُكّرس الثالث لعملية العلمنة من خلال نماذج عثمانيّة وعربيّة.
أخيراً، صدر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" الجزء الثاني من المشروع، وجاء في جزئين كبيرين، يلاحقان العلمانية في السياق التاريخي الأوروبي، وصولاً إلى تجلياتها في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى نماذج أخرى.
العلمانية، كما يراها صاحب "أن تكون عربياً في أيامنا"، ليست نظريّة علميّة، ولا تعني العقلانية بالضرورة، بل هي ثقافة وأيديولوجيا تطوّرت تاريخيّاً، وتمخّض عنها نظريّة سوسيولوجية في فهم تطوّر المجتمعات كصيرورة من العلمنة. وهذا هو ما يتناوله الجزء الثاني من الكتاب، عبر مسح تاريخي وفكري ونقدي شامل.
الكتاب الذي يأتي في اثني عشر فصلاً، يعالج في مقدمة نظرية التمييز بين المفردة والمصطلح والمفهوم. ويناقش في "مقدّمات العصر الوسيط" العلاقة بين الكنيسة والكيانات السياسية التي بدأت تتبلور على أنقاض الإمبراطورية الرومانية كعلاقة وحدة وصراع، انتهت إلى صعود الدولة؛ واعتبر المؤلف صعود الدولة هذا، ومركزة سلطة الملك، من أهم علامات نهاية العصر الوسيط.
ويسبر "النهضة والأنسنية الكاثوليكية ومركزية الإنسان" ما سيعرف بعصر النهضة، عصر نهضة الآداب والفنون واللاهوت الأنسني الكاثوليكي. ويبيّن بشارة فيه كيف تحوّل ثراء الكنيسة ونفوذها إلى بيئة ترعى ثقافة دنيوية في موضوعاتها وتوجهاتها.
يناقش "الإصلاح الديني" فكرة أن البروتستانتية لم تنشأ دفعة واحدة، بل تفتحت من براعم فكرية مهمة في حركات شبه بروتستانتية مبكرة، انتقدت ما انتقده مارتن لوثر من دنيوية الكنيسة وثرائها وسلطاتها الدنيوية وقدراتها المزعومة على منح الخلاص للبشر. كما يتابع المؤلف تطوّر انشقاقات التيارات الأصولية في البروتستانتية، معتبراً الانشقاق نتيجة طبيعية لمنطق البروتستانتية الذي لا يؤمن بمرجعية كنسية.
أما "في نشوء منطق الدولة"، فيعتبره بشارة فصلاً مركزياً في الكتاب، لأنه يتناول فكرة الدولة، التي لا يمكن فهم العلمانية من دونها، بشكل جديد؛ ويُميز بين مصطلح الدولة ومفهومها، ويشرح الفرق بين السلطة والدولة؛ والإمبراطورية والدولة بالمعنى الحديث للكلمة كسيادة على أرض وشعب، وبمعنى ظهور فئة السياسيين المتفرغين، كما يتتبع نشوء فكرة الدولة والسلطة المطلقة.
ويأتي "الدين وبداية الاكتشافات العلمية" ليقطع هذا المسار للوقوف عند مسار آخر متقاطع معه، ألا وهو تطور العلم التجريبي والتفكير العلمي، فيحاول تحليل العلاقة الجدلية للكنيسة بالعلم، كما يدرس في طريقه لفهم نشوء العلمانية تحول العلم إلى نمط وعي سائد في فهم الظواهر الطبيعية، محاولاً شرح معنى أن يسلب العلم المعنى من المجالات التي يقتحمها.
ويعالج "بين العقل في إطار الدين والدين في إطار العقل" المساحة الواقعة بين الريبية المطلقة واليقين المطلق في بحث عن جدلية إخضاع العقل لليقين الديني وإخضاع الدين لليقين العقلي، وكيف يميل التطوّر الفكري إلى الصيرورة الثانية، وذلك لاستحالة وجود علم يقيني في الإلهيات. فنحن نميز اليقين المعرفي غير الممكن في الإلهيات من اليقين الإيماني.
أما "في بعض جوانب موضوعة الدين في فكر التنوير" فيدرس فكر التنوير بغرض تجاوز الأفكار المسبقة والرائجة في شأن هذه الموجة الفكرية، منطلقاً من المشترك بين مفكري التنوير وهو التفاؤل المعرفي والاعتقاد بأن المعرفة العلمية تضمن حل مشكلات المجتمع باعتبار أن هذه المشكلات تنبع من الجهل والخرافة.
بينما يعرّج "ما بعد التنوير بإيجاز: من الريبية إلى العقل المطلق ومنه إلى نقد العقل" على التنوير الألماني ممثلاً بكانت وتفاعله الفلسفي مع ديفيد هيوم، الذي حاول تفسير الدين انطلاقاً من الطبيعة الإنسانية، لا من الوحي أو الغيب، وتطرق بتوسع نسبي إلى فلسفة هيغل التي اعتبرها المؤلف نقداً لنقد التنوير، لكنه نقد يتجاوز قصورات التنوير نفسها ويرفعه إلى درجة نسق فلسفي مثالي.
ويتناول "العلمانية باعتبارها أيديولوجيا في القرن التاسع عشر" الجمعيات العلمانية العاملة في الشأن العام، والتي بشرت بأخلاق اجتماعية صارمة ليس الدين مرجعيتها، والتي اعتمدت على مثقفي الطبقة الوسطى الذين أسّسوا لمطلب فصل الدين عن الدولة، كما يتطرق الفصل إلى موقف الحركة الشيوعية في القرن نفسه- القرن التاسع عشر- من الدين.
ويناقش "نماذج في النقد الحداثي للتنوير" نماذج حداثية في نقد التنوير، ومنها ما أصبح يسمى ما بعد الحداثة. منطلقا من أحد أهم تجليات أزمة الحداثة المتمثل بصدمة سيطرة الفكر النازي والشمولي عموماً في مجتمعات صناعية متطورة تهيمن عليها ثقافة عقلانية.
أما "نماذج ليبرالية وديمقراطية معاصرة في حرية الدين والعقيدة"، الأخير في الكتاب، فيصل إلى بعض النقاشات المعاصرة في ما يتعلق بالموقف من علاقة الدين بالدولة بعد تبيان عدم وجود علاقة ضرورية بين الليبرالية واقتصاد السوق الحرة، وأن ما يسمى الليبرالية الاقتصادية لم تُعبّر عن نفسها بنظام حكم محددٍ، وحين اندمجت في الدولة لم تنتج ليبرالية سياسية.
وانطلقت الفلسفة التي أطلق عليها لاحقاً تسمية ليبرالية من افتراض البشر كأفراد لهم الحق بالحياة والحرية والملكية الخاصة عند جون لوك. وكان هذا هو التأسيس النظري لحرية الاعتقاد وضرورة التسامح الديني، كما يقول صاحب "المجتمع المدني".
أما الجزء الثاني فخصّصه المؤلف لبحث صيرورة عملية العلمنة، بالاستعانة بتحليل مختصر لنماذج تاريخية. واختار حالات تحوّلت إلى نماذج لعلاقة الدين بالدولة في أوروبا، ثم قارنها بأنموذج آخر لم يتطرق إليه من قبل هو الأنموذج الأميركي.
في "في العلمنة من زاوية نظر التأريخ وفي نقد تقديس العقل ذاته" يشرح المؤلف أن عملية التأريخ بحد ذاتها تحدٍّ للرواية الدينية لحوادث تاريخية، لأن كتابة التاريخ بالمعنى الحديث مهمة علمانية تروي رواية أخرى غير التاريخ المقدس، وتُخضعُ المقدّس للتأريخ في الوقت عينه.
فيما يشرح "الأنموذج النظري كتعميم من حالة تاريخية هي الحالة الأوروبية" فكرة أن العلمنة نشأت بينما الأنظمة، في أوروبا والولايات المتحدة، التي تعتبر علمانية في عصرنا قامت من دون استخدام مفردة العلمانية، ولا حتى في صوغ الدساتير. مستنتجاً من هذا أن قيمة المفردة ليست قائمة بذاتها، بل في الاصطلاح عليها.
يتضمن "نماذج تاريخية" عدة فصول، كل فصل منها يعنى بأنموذج تاريخي مختلف لممارسة العلاقة بين الدين والدولة من طرف نظام الحكم، ويؤسس المؤلف عبرها لنشوء التصورات المختلفة للنظام السياسي المعَلمَن، ومفهوم العلمانية في سياقات تاريخية مختلفة- من بينها فرنسا وبريطانيا- وذلك قبل مقارنتها بالولايات المتحدة في سياق عرض نظرية العلمنة ونقدها.
مع "العلمنة ونظريات العلمنة"، يبدأ القسم الثاني من هذا المجلد المتعلق بنظريات العلمنة ذاتها، وينطلق من مكانة هذه النظريات في علم الاجتماع وتأصيلها في سوسيولوجيا فيبر ومصطلحاتها.
في "بين أوروبا وأميركا: واقع العلمنة ومساهمة إضافية في نقد أنموذج العلمنة" ينتقل المؤلف إلى مناقشة أعمال الجيل الأحدث من منظّري العلمنة، عبر عرض معنى الصيرورات التي تؤكدها نظريات الحداثة كالعقلنة والخصخصة والفردنة، كمكونة للحداثة.
أما "الديانة السياسية والديانة المدنية"، فمخصّص للتعريف بمفهوم الديانات السياسية وواقعها. ويبدأ باستخدام وصف الفلسفات والأيديولوجيات الكلانية بالغنوصية، باعتبارها تشكل امتداداً للنزعة الغنوصية في معرفة الغيب، وذلك قبل تشخيص الأيديولوجيا الكلانية كدين بديل.
ويختم المفكر العربي كتابه بعرض لأنموذج نظري بديل في فهم العلمنة، يقوم على استقراء التاريخ وتاريخ الأفكار، وعلى استدلالات من التعميمات المستقرأة، ومن المقاربة النقدية لنظريات العلمنة. وهو أنموذج أكثر تركيباً، واختباره الرئيس هو قدرته التفسيرية.
[email protected]
أضف تعليق