كثرت في الآونة الأخيرة التسريبات حول ما سيعرضه جون كيري على الفلسطينيين والإسرائيليين وما أصبح يعرف بخطة "كيري" لحل النزاع. آخر هذه التفاصيل ورد بمقالة كتبها "توماس فريدمان" في النيويورك - تايمز وفيها استعرض، يوم الأربعاء الماضي، جوهر نقاط خطة كيري النهائية. ربما ستكون تفاصيل فريدمان الأقرب للحقيقة وربما لا، أمّا الواقع فسيتكشف في المستقبل البعيد القريب ومنه سنتعلم، مرّةً أخرى، أن ما عرض في النهاية على الفلسطينيين كخطة أمريكية ناجزة هي بالحقيقة "خطّة" كان قد اطّلع عليها الإسرائيليون كخربشة، فمسودّة، فوثيقة فجّة، فمقترح متكامل جاهز، ووضعوا عليها في كل تلك المراحل ملاحظاتهم وتحفظاتهم التي لم تقبل كلّها، مع أن الجانب الأمريكي عاملها بمراعاة قصوى وقدر كبير من الاحترام والتفهم.

من لا يقرّ بما طرأ من تغيير على علاقات أمريكا وإسرائيل منذ أيلول (٢٠٠١) والعملية الإرهابية التي أسقطت مبنى التوأمين وآلاف الضحايا الأمريكيين، لن يستطيع مجاراة وتفكيك طلاسم الديبلوماسية الأمريكية ودوافعها، خصوصًا فيما يتعلق بالشرق الأوسط. من سيختصر ويوقف دوافع أمريكا، بالرغم من أهمية الادعاء والتوصيف، على ذلك الحلف الخبيث بين الحركة الصهيونية المتنفّذة في المجتمع الأمريكي والممسكة بمفاصل حياته الاقتصادية والثقافية وبين تلك التيارات المسيحية المتصهينة، لن يهتدي إلى ما يسعفه من منافذ وحجج بواسطتها قد تصير أمريكا راعيًا صالحًا وليس كما هي عليه اليوم.

ما حدث كان انقلابًا صارخًا على ما ساد من مبادئ ومفاهيم تحكمت بكيفية التعاطي مع قضايا النزاع العربي الإسرائيلي وخصوصًا الفلسطيني. كانت القاعدة والفرضية تنصّان على أن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية هو مصدر جميع القلاقل وهو يؤدي إلى جميع أعمال العنف والإرهاب لما يسببه من مهانة تسبب الكراهية والغضب وهذه هي أم كل تداعيات العنف والقتال.

في عهد بوش وتحديدًا منذ العام ٢٠٠٢، انقلبت أمريكا على هذه المفاهيم حين تبنّت، بشكل واضح وقاطع، ما طرحته حكومة شارون وصرّحت به دومًا: "لا مفاوضات مع الإرهاب". شعار لم يرفع ولم يقبل حتى في زمن حكومة رابين وغيرها، فصار منذ ذلك العام مطلبًا أمريكيًا ومن ثم نال إجماع "الرباعية" وأكثر.

كانت هذه البدايات التي أنجبت "خارطة الطريق"، ولأول مرّة تم ربط أي تقدم باتجاه حل قضية فلسطين بوقف كل أعمال العنف والإرهاب، كما يعرفها الجانب الإسرائيلي والأمريكي كذلك. ثم جاء الشرط المستحدث الثاني الموجب تسيير أعمال السلطة الفلسطينية وفقًا لقواعد الحكم الرشيد والشفافية الأمريكية، وما عناه ويعنيه ذلك من توابع. لقد كان الأهم من هذا وذاك إلغاء حتمية جدولة كل خطة وبرنامج بأوقات وسقوف زمنية، فالتقدم من مرحلة إلى مرحلة لم يعد منوطًا بيوم، بشهر وبسنة، بل بإنجاز ما تقدم من شرط ومطلب، وكان تقييم الأداء الفلسطيني تعجيزيًا على الغالب.

إلى ذلك، فمن يتابع ما كتبه إسرائيليون واكبوا هذه الحقبة، وكانوا شركاء فاعلين يستطيع أن يستشف الكثير من الدروس والعبر التي قد تساعد على فهم ما يجري في هذه الأيام. فعلى الرغم من ارتياح شارون والقيادة الإسرائيلية للموقف الأمريكي الجديد، بدا لهم واضحًا أن الموافقة الإسرائيلية على خارطة الطريق الأمريكية، وعلى الرغم ممّا أتبعته الحكومة الإسرائيلية لها من تحفظات، تعني أيضًا الموافقة "الشارونية" على حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة. افترض كثيرون أن شارون وحكومته اليمينية وافقوا على ذلك وكانوا على يقين أن استحقاق إقامة الدولة الفلسطينية سيبقى فرضية نظرية تائهة على طريق ضاعت خريطته، علمًا بأن "دوف فايسجلاس" وهو أقرب مساعديه في تلك التجربة، لا يجزم في كتابه الجديد عن شارون، بأن هذا هو الدافع السياسي الوحيد لموافقة شارون على حل الدولتين.

على جميع الأحوال، احترمت القيادة الفلسطينية، ممثلة في منظمة التحرير، ما وافقت عليه من التزامات وهكذا فعلت الحكومات الفلسطينية المتعاقبة، ثم جاء موقف حركة المقاومة الفلسطينية "حماس" ومعها الفصائل الفاعلة في غزة والتزمت بدورها ولأسبابها بالتهدئة وإن كانت هذه على مراحل وتقطعات.

على هذه الخلفية وعلى إثر استشعار وتائر الخيبة والغضب الدفين في فلسطين وعلى ضوء ما يجري في العالم العربي، وهو عامل كان له كبير الأثر على مواقف أمريكا تجاه القضية الفلسطينية وتحديد مفهوم "ألمصالح الأمريكية في المنطقة"، جاءت تحركات كيري ومبادرته.

لست في معرض تبرير أي سياسة أو نهج فلسطيني رسمي أو غياب نهج أخر، فأنا أعيش بين شعبي وأتابع ما يجري حولي في الدول الشقيقة و"الحبيبة" وأقرأ بين سطور ما يتيحه هامش النشر الإسرائيلي، ومن كل هذا أتعلم وأعبر هنا عن وجهة نظر قابلة للنقاش، فما سرّبه توماس فريدمان وما رشح من قبل، لا يفي بما اصطلح على تسميته بالثوابت الفلسطينية ولكن إذا كان الحديث عن دولة فلسطينية مستقلة بحدود حزيران وإذا عاد الأمريكيون إلى نظام الجدولة الزمنية والمقاييس ولاستحقاقات حسبها الإسرائيليون أنها ستبقى رابعة لمستحيلات ثلاثة فهل سيصبح ما أعلنه نتنياهو مؤخرًا عن عدم ضرورة موافقة إسرائيل على كل ما يطرحه الجانب الأمريكي "ضغث" يضاف الى "إبّالة" وزير الجيش يعلون الذي وصف كيري ب"المهلوس الاستحواذي الحالم المسيحاني"؟ أما هكذا يبرعم طلاق حتى في أحسن العائلات؟ مجرد فكرة أو أمل! 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]