إثنا عشر يومًا مضت، مِن عمره، لكنّها بالنسبةِ له أهم أيامٍ يعيشُها الشاب شكري محاميد (من قرية الفريديس)، هو الآن يحاوُل بكل ما ملكت يداه يسعى لأن يكون قويًا بِما فيه الكفاية، كي يتعافى، متكلاً على رحمة الله تعالى أولاً وعلى عزيمته ثانيًا، يُحاول في هذه الأيام التي قد تستمر لشهرين، لكنّه يؤمِن بأنّ الله فوق كل شيء، وهو الشافي المعافي.
شادي أصيب بتمزّق الطحال بعد أن تعرّض لاعتداءٍ مِن قبل الشرطة والجنود الإسرائيليين في مدينة حيفا، حين صُوِبت نحوه خراطيم المياه من مسافةٍ قريبة، أثناءَ مشاركته في المظاهرة السلمية التي جرت في مدينة حيفا احتجاجًا على مشروع برافر العنصري.
يحملُ مِن الإرادة قوةً تستطيع أن تعيده إلى النضال في مواجهة مخططات السلطات الإسرائيلية، وحينَ قلتُ له "لا أريد أن أتعبك" ردّ عليّ "لا.. بالعكس، أنا بحاجة أن أكون هكذا، وأن أتحدث وأتحرك".
حكاية شكري وخفافيش الليل
عن حكايته مع خفافيش الليل في 30 نوفمبر الماضي حدثني شكري: "سافرتُ مِن مدينة الفريديس في الباص ووصلتُ إلى حيفا، نزلتُ إلى شارع بن غوريون، وانضممتُ إلى الرفاق المُشاركين في تظاهرة حيفا احتجاجًا على مخطط برافر التعسفي، وهي ليست أول مرّة أشارك فيها في الاحتجاجات، بدأتُ هذه النشاطات في المرحلة الابتدائية، وفي المرة السابقة من الاحتجاجات في أوائل آب سافرتُ إلى النقب، وقبلها في 15 تموز شاركتُ مع الشباب المحتج في أم الفحم، واخترتُ هذه المرة مدينة حيفا، إيمانًا مِني أنّ صوتنا في سائر أنحاء الوطن هو صوتٌ واحد، وما حدث هو أن الشباب تفرقوا بعد استخدام خراطيم المياه شديدة الضغط، وبخطوةٍ عفوية عدتُ إلى الوسط، وإذا بالشاحنة تصوّب نحوي خرطوم مياه من مسافة قريبة جدًا".
محاميد: نصحوني بالقول "وقعت عن الدرج (السُلّم)"
يُضيف شكري: "شعرتُ بضيقٍ شديدٍ في التنفس، لم أعُد أعي أينَ أنا، حملني الشباب إلى أقرب مقعدٍ، وقد قام أحد المسعفين بطمأنتي قائلاً: "لا تخف، كل شيء سيكون على ما يرام"، لكنني ظللتُ أشعرُ بدوارٍ في رأسي ووجع غريب، وحين تمّ فض الاعتصام، توجهت مع قريب لي إلى بيتي، كنتُ لوحدي في البيت، فوالدتي وزوجتي سافرتا إلى القدس، حاولتُ الاستحمام لكنّ الوجع لم يختفِ، فاتصلتُ بطبيب العائلة، وحين عاينني، كان وجهي أصفرًا، شاحبًا، قال لي: تحتاج إلى إسعاف حالاً، قد يكون لديك نزيف داخلي، وبالصدفة رأيتُ ابن خالتي الذي أبلغ والدي أنني أحتاج إلى مستشفى، وقد وصلتُ إلى العناية المركزّة، في البداية سألوا عن السبب قلتُ أنني وقعتُ عن "سُلم البيت – الدرج"، لكنّ عندما عاينونني وقال أّنّ الطحال ممزّق وأضلاعي مكسّرة، قلتُ لهم الحقيقة أنني شاركتُ في تظاهرة، وتمّ صب المياه عليّ، عندها قالوا: "هذه هي الرواية الصحيحة"، بعد خمس دقائق، جاءَت الشرطة، ورفضت أن أقدّم شكوى، قال لي الشرطي، توجه إلى"ماحش"، وقد مكثتُ يومين في العناية المركزة، وبعدها ثلاثة أيام في غرفة "تراوما"، وبعدها تمّ نقلي إلى غرفةٍ عادية، وقيل لي قد يلتئم الجرح ويزول الخطر عن الطحال، وأتعافى، أو أن تجرى لي عملية، يتم خلالها استئصال الطحال، لكنّ حياتي لن تتأثر، فالإنسانُ يعيشُ بلا طحال".
محاميد: لم تكسرني كلمات اللوم والعتاب
هذه هي حكاية شكري محاميد المُصاب والذي يُصارِع الأيام كي يُشفى ويتعافى ليعود لوالديه وزوجته رُبى وابنته ابنة السنة ونصف الجميلة مجدل، لكن خلف حكاية الإصابة، حكايةُ أخرى سطرها شابٌ فلسطيني من الداخل، يحمل في صدره حُبًا عميقًا للوطن الفلسطيني، ويخشى عليه مِن الضياع نهائيًا، "لذا شاركَ في التظاهرات منذ صغره، وينتظر لحظة شفائه ليعود، علّه مع شبابٍ سكنت الإرادة في أجسادهم، يُسقطون مخطط برافر وجميع المخططات التي لا تزال في الأدراج"- هكذا قال شكري، قبل أن يحدثني بالمزيد عن تفاصيل حياته قائلاً: "لم تكسرني كلماتُ البعض التي حاولت أن تقول خلال زيارتها "لا داعي أن تُشارك"، أما الآخرون وهم كثر فساندوني وشدوا مِن أزري، حتى أنني أشعرُ أنني أقوى مِن اليوم الذي سافرتُ فيه إلى حيفا لأشارك الشباب في التظاهرة، معنويات عالية، ولا يهمني مصيري، فأنا جزءٌ مِن شعبٍ ضحى بشباب بعمر الورود، مِن أجلِ الأقصى والأرض والمسكن ومِن أجلِ بقائنا بكرامة فوقَ هذه الأرض".
كنتُ طوال الوقت اؤمن أنّ برافر وجميع مخططاتهم لن تمر
وعن الحراك الشبابي قال الشاب المُصاب: "هناك شبان يبحثون عن قضية يدافعون عنها، وجاءَ مخطط برافر ليكون هو في صُلب القضية، وقد يفشل المخطط فلا يَمُر (إلا على أجسادنا)، أو نخسَر فيَمُر، لكن بين هؤلاء الشباب صارت هناك وحدةُ دمٍ، لا تفرقها الحزبيات ولا غيرها، هذا أمرٌ واضحٌ جدًا، أنّ المشترك بيننا نحنُ الشباب كبيرٌ، أكبرُ مِن خلافاتٍ في وجهاتِ نظرٍ لا تُفسد مِن الهدف الرئيسي، وهو الحفاظ على بقائنا فوق أرصنا. قلتُ برافر قد يَمُر، لكنني في أعماقي أرجو وشبه متأكد أنه لن يَمُر، هو صرخة نملة، لكنه يؤثِر في الرأي العام الإسرائيلي، وهناك خلافات جدية بين أعضاء الكنيست اليهود أنفسهم، فتمرير المخطط، هو يومٌ ملطخٌ بالسواد على وجوههم، وهم أصلاً خسروا إنسانيتهم، والآن يخسرون كرامتهم أمام العالم، لكنّ الخوف يظلُ يسكُننا، حتى نُعلنها جميعًا - سقطَ مخطط برافر، لم يَمُر- ".
خسارة النقب تعني خسارة كل فلسطين
ويقول محاميد: "لو خسرنا النقب، الذي يسكنه عشرات الاف المواطنين الفلسطينيين، فلن تعجز إسرائيل، وهذا هدفها أن تمحو سائر البلدات والقرى العربية، ها هو الساحل اليوم كان عربيًا بامتياز، اليوم بقي على خريطته جسر الزرقاء والفريديس فقط، وهما صامدتان، لكنّ المخطط بترحيلهم سيكون سهلاً وفيهما حوالي 25 ألف مواطن، وسيُنقلون إلى واد، إذا ما سقط النقب، لذا عيبٌ علينا أن نسكُت، وإلا فجميع قضايانا خاسرة". وعن مشاركة النساء والشباب في الحراك قال شكري محاميد: "لقد تخطينا مسألة المشاركة النسائية إلى جانب الشباب في 15 تموز الماضي، انتهى هذا النقاش، فالفكرة أصبحت واقعًا، فالشباب يدافع عن الفتيات وهُن يدافعن عن الشباب، ويحرقني عندما أسمعُ جنديًا عربيًا يواجهنا جميعًا، فتقفُ فتاة، تقول له، نحنُ نناضل مِن أجلك أيُها المجنّد، نحنُ لا نريدك أن تخسر أرضك، هذه القناعة التي نحملها نحنُ الشباب والشابات، لا تكسرُها أي إرادة مهما عظُمت، وقد أثبتها جيلنا، وستأتي الأجيال مِن بعدنا لتسير على خُطانا، وإن سألتني عن دعمي لمشاركة ابنتي عندما تكُبر، أو زوجتي، وسبقَ أن قالت إحدى الجارات لزوجتي، كي تمنعيه من التظاهر، قولي له إريدُ أن أرافقك، فأجابتها: إنه يوم المنى بالنسبةِ له"، يضيف شكري: "أنا أقارن بين ما أصابني، وبين تضحيات جسام قدمها شهداء، وعائلات أسرى ومناضلين في الوطن، فكيفَ لا أقتدي بهم؟!".
بدايةً شعرتُ بالخوف...
محاميد لا يؤمِن بالمشاركة في انتخابات الكنيست، لكنه سعيدٌ بمواقف القيادات السياسية التي تأتي وتُشارك وتناضل إلى جانب الشباب، وهو جزءٌ مِن واجبٍ يفرضه الواقع على الجميع، آملاً أن تُحقق هذه المشاركة الأهداف المرجوة، وهي الحفاظ على الأرض. عن عمله أجابني: "أعمل في الدعم التقني في شركة اتصالات (بيزك بن لئومي)، وحينَ تعرضتُ للإصابة خِفتُ أن أفقد عملي، فأبلغني المدير العربي أنّ المدير المسؤول يعرف، ويتفهم، هذا يعيدني إلى الإشارة أنّ هناك يهودًا يرفضون سياسة الحكومة، ومحاولة اقتلاع العربي من أرضه وبيته، كما يقضي مخطط برافر، باقتلاع سكان الحورة، وتحويلها إلى مستوطنة ليهودٍ متدينين".
أنسانيتهم المعدومة وأخلاقياتنا الإنسانية!
عن الإنسانية المفقودة في المجنّدين، الذين ينفذون مهام لا تختلف عن الجرائم، قرأتُ "ستاتوس" للشاب الناشط جورج غنطوس، هو صديقٌ وفي وصاحب أخلاقيات عالية - هكذا رأيتُ في كتاباته- حيثُ سطر بكلماتٍ نابعة من قلبٍ نابضٍ بحُب الوطنِ والإنسان، فجاءَت كلماته صادقة عفوية تخترق أعماقنا، وتوجعنا أنّ في الحياة ما زالَ هُناك بعضًا مِن الأخلاقيات والإنسانية، عندما قالَ عن الشاب المصاب شكري محاميد، خلال زيارةٍ له، في مستشفى هيلل يافة: بعد أن ضُربت أحشاء شكري بالماء المندفع بقوة من خرطوم المياه سقط أرضًا وعجز عن الحراك والوقوف لعدة دقائق. قام بعدها عدد من الشباك بتوصيله إلى السيارة ومن ثم إلى بيته في قرية الفريديس.
هناك انهار على الأرض فاقداً الوعي… فإن مدفع الماء الموجه إلى جسده من فوق سيارة تفريق المظاهرات التابعة لشرطة الاحتلال قد تمكّن من تمزيق طحاله فأصبح يخسر دماءه التي أخذت بالتبرك داخل بطنه. لقد أوشك شكري مفارقة الحياة والشهادة يوم السبت 30\11\2013، تأخّر عن العلاج لمدة ساعتين إضافيتين (بحسب أقوال الأطباء في مستشفى “هلل يافه” في الخضيرة) كان سيغيب عنّا طويلاً.
لقد أمطرت اليوم بعد انقطاع طويل.. منظر بحر المتوسط الجميل الظاهر من شبّاك غرفة المستشفى التي يسكنها رفيقي منذ أسبوع يواسي قليلاً… فهو يمنحني كمالاً لمعنى التضحية والنضال، ويعلن جمالاً وروعةً لا ينضبان (نعرف نحن معشر الساحل وأبناء فلسطين قيمة المشهد جيدًا.. فمهما حُجب عنّا.. به نحلم ولأجل رؤيته نناضل) تقف زوجة شكري ربى أمام الشباك أوقاتًا، تتأمل طويلاً…لا ينعم زوجها شكري المصاب بهذا الجمال؛ فبرغم قربه من حافة الشباك ودنوّه منها فهو ممنوعٌ منذ أسبوعٍ عن الحركة (حرصاً على وقف النزيف الداخلي والتئام الجروح) فتمنع حافة الشباك البحر الأخّاذ من الدخول.. وتصبح جداراً فاصلاً يعلو عينيه/عيوننا ببضعِ أُنملات…
مجدل الصغيرة لا تتمكن من زيارة أبيها بشكلٍ مستمرٍّ كما أنها لن تلهو على بطنه كما تحب مدةً طويلة… فمدّة علاجه لن تقل عن الشهرين. يستمر رفيقي طوال الساعات التي أُمضيها هنا بالحديث مع أقاربه الوافدين (وفقط هم. فمن الزائرين لم يأت أيُّ ناشطٍ أو ممثلٍّ عن حزبٍ أو هيئة حتى اللحظة!)، فهو يحدّثهم ويجادلهم بموقفه الذي لم يتزعزع عن قناعته التامة بأنّ وقفتهُ إلى جانبِ باقي المتظاهرين الرافضين لسياسة الاحتلال الاقتلاعية هي ضرورة تتعدى نتائج استمرار مشروع برافر؛ وتحويها؛ فهي بكلماته “صرخة نملة”.
فهمت آنذاك قرب نظرة شكري بما يخص المقاومة، كما ذكّرني بتشبيه رفيقٍ عزيزٍ آخر تكلم عن ثلاثة رجال وهم محتجزون داخل خزَان ملتهب تحت الشمس ماتوا وهم صامتون، وأدركت أنّ الصبايا والشباب اليوم يقرعون جدران الخزان والأنين يصم/ينبّه الجميع…
رغم الصّراع الدائر في الغرفة حول ما قد يؤدي إليه أو ما لن يؤدي إليه النشاط السياسي ومدى أهمية قيمة النضال للكرامة والحرية يبقى رفيقي الممدّد عازمًا على طرد الخوف من النفوس. له السلامة
[email protected]
أضف تعليق
التعليقات
نتمنى لك الشفاء العاجل نشد على يديك ونقول الله معك ومع جميع المظلومين