في هذا الكتاب رؤية واسعة تُعرف بشخصية وطنية مهمة و محورية في التاريخ الفلسطيني ، هو المطران غريغورس حجار الذي طبقت شهرته الأفاق في حياته وبعد مماته ، واستطاع بحسه الوطني ودفاعه الدائم عن عروبة فلسطين أن يتبوأ مكانة عالية بين مجايليه في شتى المجالات الدينية والاجتماعية والسياسية والثقافية .

هذه هي الطبعة الثانية من الكتاب ، حيث صدرت الطبعة الأولى في مطلع عام 1985... يستعرض الكتاب في مجمله حياة وأعمال المطران حجّار، يرصد جوانب كثيرة منها متصلة بأكثر الفترات التاريخية حسماً في تاريخ الشعب الفلسطيني ، بكل ما ظهر فيها من أحداث جسام أثرت كثيراً على واقع ومستقبل فلسطين وشعبها ، عمل أثنائها جاهداً على توثيق عرى العلاقات الأخوية بين أبناء الوطن الواحد من المسيحيين والمسلمين ، والدفاع عن ثوابت القضية الفلسطينية التي أعتبرها واحدة من أكثر القضايا العربية أهمية وتأثيراً على مقدرات ألأمة بكاملها ، ولهذا حملها في قلبه وفكره ووجدانه .

ينحدر المطران حجّار من أصول لبنانية ، إنه سليل عائلة جنوبية ، عاش في فلسطين زهاء أربعين سنة ، أحب أهلها عامة ، وأهل الجليل خاصة ، وسُمي بمطران الجليل ، كما أن المسلمين اطلقوا عليه لقب "مطران العرب " ، وأصبحت فلسطين بأرضها وناسها جزءاً لا يتجزا من كيانه وحياته ، وقال في إحدى المناسبات الوطنية عن علاقته بفلسطين : " أنا مطران العرب ، هذا لقب جميل أعطانيه أبناء بلادي ( في فلسطين ) على اختلاف مذاهبهم ، في كفاحهم وجهادهم لتحرير بلادهم من ربقة الصهيونيين ." وهكذا " إعتبر نفسه إبناً للشعب العربي الفلسطيني ، بالرغم من أنه من لبنان أصلاً ، وتحدث طيلة عمره باسم هذا الشعب الذي عاش أفراحه واتراحه وكسب ثقته ، وحمل بهذا مسؤولية واسعة ، غير محصورة في حدود رئاسته الدينية لطائفة مسيحية ، إنما إعتبر نفسه ممثلاً للعرب والعروبة " .

مؤلف الكتاب هو الدكتور جوني منصور ، الملقب بمؤرخ حيفا ، مؤرخ أكاديمي يعيش ويعمل في مدينة حيفا ، تُعبر كتاباته عن حس وطني عالٍ ، واعتزاز بعروبته وانتمائه لوطنه العربي ، وتأكيده الدائم على عروبة الكنيسة المشرقية التي ساهمت عبر العصور ، ولا تزال في إثراء الحضارة العربية وتشكيل مكوناتها ومقوماتها الاساسية .

يتالف الكتاب من ثلاثة أبواب رئيسية تغطي مساحة واسعة من حياة وأعمال المطران حجّار ، يتبعها مجموعة كبيرة من الملاحق تشتمل على وثائق وخطابات ومقالات ذات صلة به ، وقد اعتمد المؤلف المنهج العلمي المهني في تأليف كتابه ، مع عدم إهمال للطريقة المبسطة في عرض المواد ، كما اعتمد في تجميع مواد كتابه على شهادات حية لمن عاش في فترة المطران حجار وكان على صلة مباشرة أوغير مباشرة به ، وعلى معلومات كثيرة استقاها من أرشيفات مختلفة في داخل فلسطين وخارجها ، وعلى ما بقي من قصاصات وورق وصور فوتغرافية في ملفات أرشيف مطرانية الروم الكاثوليك وبيوت عديدة في حيفا وعكا وبعض قرى ومدن الجليل .

يلقي الكتاب الأضواء على جوانب كثيرة من شخصية المطران حجار ومسارات حياته ، يكشف بداية عن حكم المحكمة العُرفية التركية عليه بالإعدام خلال فترة الحرب العالمية الأولى ، واضطراره للرحيل إلى مصر والبقاء فيها طيلة فترة الحرب ، وتمكنه في فترة مكوثه في القاهرة من التعرف على أصحاب الأمر وصناع القرار من رجال السياسة والادب أمثال سعد زغلول الشخصية الوطنية المصرية الشهيرة وخليل مطران شاعر القطرين ، اللذين استمعا له اثناء إلقائه كلمة تأبينية في حفل جنازة البطريرك كيرلس الثامن في القاهرة في عام 1916 فأعجبا به وبخطابه وما جاء فيه من أفكار ، وفي أخر الحفلة قال سعد زغلول لصديقه خليل مطران " كيف لا يكون هذا المطران الجليل ذا شهرة عظيمة وهو أبلغ خطيب سمعته ؟ "

وفي هذا السياق يؤكد الكتاب على وجود علاقات كثيرة متشعبة للمطران حجار مع زعماء عرب تباحث معهم بصورة مستمرة بشأن القضية الفلسطينية ، وزعماء في أوروبا وباقي أنحاء العالم من ذوي الاهتمام بالقضية الفلسطينية ، كما كانت له علاقات اجتماعية متينة وقوية مع الزعامة المحلية في فلسطين التي تولت قيدة القضية مع اطراف عربية ، وقد تبنى المطران أسلوب الإنفتاح على الزعامة المحلية لما في ذلك من دعم أواصر الصداقة بين أبناء الشعب الواحدعلى صعيد قرارات الزعامة والقيادات المحلية ، وبهذه الرؤية المنفتخة شارك في عدد من الإجتماعات السياسية التنسيقية في فلسطين ، و ظهر ضمن الشخصيات السياسية البارزة في رئاسة الحركة الوطنية المقاومة للإحتلال مع نهاية الحرب العالمية الأولى ، وكانت له كلمة فصل في قضايا كثيرة في مقدمتها رفض كافة مخططات ومشاريع الحركة الصهيونية ، ورفض سياسات الانتداب البريطاني ، ورفض الهجرة اليهودية وعمليات بيع الأراضي وتسريبها إلى مؤسسات وشركات صهيونية أو قريبة من الحركة الصهيونية.

وعندما بدأت تظهر في ثلاثينيات القرن الماضي حركات وفعاليات تميل إلى الثورة المسلحة والمقاومة الفعلية ضدالحكومة البريطانية والحركة الصهيونية ، أعلن المطران حجار تأييده لها ، أيد الإضراب الكبير ، والثورة الفلسطينية التي أطلق شرارتها الأولى الشهيد الشيخ عز الدين الفسام ، وأيد في مواقفه المعلنة حق الشعب الفلسطيني في النشاطات النضالية المسلحة للدفاع عن نفسه وعن وطنه وحماية املاكه وأبنائه ، كما ورفض فكرة مشروع تقسيم فلسطين ، وشكل لجنة خاصة بهذا الأمر مؤلفة من عشرين عضواً برئاسته رتبت لقاء مع وزير المستعمرات ولجنة الانتدابات لتقديم اعتراض لجنته ضد مشروع التقسيم ، ووفق بهذا " مطران العرب " في أن يجعل كنيسته وباقي الكنائس في فلسطين شريكة في المصير المشترك مع كل الشعب الفلسطيني .

ويشير الكتاب إلى أسفار كثيرة كان يقوم بها المطران الحجّار إلى أوروبا للمشاركة في مؤتمرات دينية ، كان ينتهز الفرص أثنائها للقاء الزعماء السياسيين ، لتعريفهم بما آلت إليه القضية الفلسطينية ، وتعريفهم بالأحوال الحياتية التي يعيشها مسيحيو فلسطين وإخوانهم المسلمين في مواجهة آلة الاستعمار البريطاني والمشروع الصهيوني ، كان همه دوماً نقل صورة واقعية للأوروبيين عما يجري في فلسطين ومعاناة الشعب الفلسطيني جراء القمع والمضايقات ، وما يتعرض له الشعب الفلسطيني من غبن تاريخي ، وكان يطالب دوماً الكنيسه الكاثوليكية بأن تقوم بخطوة لصالح قضيته العادلة .

كما يشير الكتاب في هذا الخصوص إلى مشاركة المطران حجار ً في عدة بعثات خارجية ضمت عدداً من زعماء وقيادات فلسطين والعرب لمناقشة القضية الفلسطينية في محافل دولية ، منها مشاركته في البعثة إلى عصبة الأمم في جنيف التي ضمت المفتي ومجموعة من أهم وأبرز الشخصيات السياسية الفلسطينية والعربية ، ومن مواقفه التي لا تنسى في هذا الشأن نحو القضية الفلسطينية ، بيانه أمام اللجنة الملكية ( لجنة بيل ) التي وصلت فلسطين في نوفمبر 1936 لتقصي الحقائق حول أسباب إندلاع الثورة العربية الفلسطينية ، وبيانه هذا "عبارة عن رؤية شمولية لأوضاع فلسطين والشعب العربي الفلسطيني في ظل الإحتلال البريطاني المتمثل بنظام الإنتداب ، وفي ظل اطماع الحركة الصهيونية وتحركاتها ميدانياً لتحقيق مشروعها بإقامة دولة يهودية في فلسطين مدعومة من بريطانيا ودول أوروبية اخرى ، ويعتبر هذا البيان المؤيد للقضية الفلسطينية ، خلاصة موقف الكنيسة الوطنية في فلسطين والوطن العربي قاطبة "

وبعيداً عن السياسة اهتم المطران حجار كثيراً بالثقافة من خلال إقامة جمعيات ومؤسسات ثقافيىة ، وتشجيع تأسيس حلقات وجمعيات أدبية وفكرية واجتماعية والمشاركة فيها ، كما اهتم أيضاً في تأسيس المدارس والكنائس والنوادي الثقافية والهيئات الاهلية والمجتمعية في حيفا وفي مختلف قرى ومدن الجليل .

وعلى صعيد العلاقات بين المسيحيين والمسلمين يؤكد الكتاب على إيمان المطران حجار بكل جوارحه بأن أسس العلاقات بين المسيحيين والمسلمين الفلسطينيين يجب ان تبنى على ثلاثة ركائز هي : شعور أخوي بين أطراف الشعب الواحد ، والعيش المشترك كأبناء لشعب واحد صاحب تاريخ مشترك وحضارة مشتركة ، يتيح فرصة للجميع بالعيش جنباً إلى جنب بإحترام متبادل ، والإنتماء القومي الذي يجمع المسيحيين بالمسلمين ، وقد عبر عن هذا الإنتماء في خطبه ومجالسه الخاصة وفي مناسبات وطنية عديدة ، اكد فيها دوماً أن شعبه ينتمي إلى العروبة كأساس ورابط قوي بين أبناء الشعب الفلسطيني .

وعن حبه لوطنه فلسطين ، عبر بكلمات جميلة ساحرة تكتسي بصبغة ملحمية قل مثيلها عن عمق انتمائه وصدق وطنيته ، وعن حبه لأرضه وأبناء وبنات وطنه، ولعله من المفيد أن أسجل كلماته في هذا السياق في زمن التكفير والتنفير المقيت ، كما جاءت في الكتاب ص 181 : " آه يا فلسطين ما أحبّك إلى قلبي ، وما أجملك في نظري ، وما أقدسك في فمي ، أيها الوطن المفدى إنني أحبّك بجمالك ووهادك ، بمروجك ووعورك ، بخريفك وربيعك ، بشتائك وصيفك ،أحبّك سواء تجهمت سماؤك او ابتسمت كواكبها من خلال صفائها ،أحبّك في محنتك ، وأحبّك في هنائك ،أحبّك في غنيّك يبسط يده في السخاء واحبّك في فقيرك يعمل بجد ونفس ذات إباء ، أحبّك في شيوخك وقد جللهم وقار الشيب وسطعت في أدمغتهم أنوار الحكمة ، أحبك في شبابك المفتول السواعد وقد اتقدت من بين أضلاعهم نيران الهمم ،أحبّك في فتيانك وفتياتك وهم يناغون المستقبل وتناغيهم منه الأماني الكبيرة وقد انبسطت أمامهم الحياة بمباهجها ، أحبّك في أطفالك ... أحبك بدوياً يُكلّل بعقاله وتحصن فوق صهوة جواده مدللاً بسيفه ورمحه ، أحبّك حتى في تلك الفلاحة البدوية معتزّة بطهارتها فوق سنام جملها أو تحت أثقال جرتها ... أحبّك في فلاحك يشق الأرض بمحراثه ليودع في أحشائها بذار آماله، ويحصدها خيرات يفيضها على الإنسانية جمعاء محسناً كبيراً تدين له كل مراتبها ملكاً ومملوكاً غنياً وفقيراً ، فما أعظم الفلّاح ! أحبّك في ذلك الرجل البسيط الطيّب السريرة الحسن الطوية في صدق مهجته وبساطة حياته يقنع بالكفاف ويشكر الله في حالة البؤس والسراء والضراء ... "

في النهاية ، لابد لي من القول بأن هناك في طيات الكتاب موضوع البحث ، تألف وثيق الربط بين عمق الرؤية الوطنية ، ودقة استخدام الدلالات التاريخية بأسلوب راق، أتاح لمؤلف الكتاب الدكتور جوني منصور استخراج ما تستنبطه رؤى ومفاهيم المطران حجار ، كما أتاح له تتبع مساراتها في مرحلة حاسمة في تاريخ القضية الفلسطينية قبل النكبة ، وهو في ما قام به وافر المراجع ، قادر على توثيق كل ما توصل إليه حسب ما تقتضيه الأساليب العلمية ، والمرجو أن يدفعه نجاحه في هذا الكتاب نحو تناول سير أخرى من رجال الامس ، علنا بمآثرهم الوطنية نُصلح حال أوضاعنا الراهنة .

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]