خمسة عشر عاماً مرت لم يُسمع فيها حسيسٌ .. ولم يُرَ أثرٌ للشهيدين عادل وعماد عوض الله .. فلا هم في عداد الأحياء فيُنتظر خروجهم من الأسر .. ولا هم في عداد الشهداء فيُوارى جثماناهما وفق أصول الشريعة الإسلامية .. ويُكرّما بما يليق بقامتيهما العالية .. فلا تزال فصول البحث عنهما قائمة من الأهل منذ العام 1998م، والتي ادّعى حينها الشاباك الإسرائيلي أنه اغتالهما في اشتباكٍ مسلّح في بلدة الطيبة قرب مدينة الخليل .. ووصفتْ الصحف الإسرائيلية هذه العملية بـِ "الحكيمة"، واعتبرتها إحدى أكبر الإنجازات الأمنية التي تحققها إسرائيل خلال عقد التسعينيات من القرن المنصرم، نظراً لخطورتهما، ليحتفظ الاحتلال بجثمانيهما رغم مرور كلّ هذه السنوات، وحتى كتابة هذه السطور، حيث لا زال الغموض يكتنف قصة الاغتيال، وتعددت روايات الاحتلال وتضاربت، وتراوحت بين رواية تقول أن الجيش الإسرائيلي قتلهم على الفور في اشتباك مسلح، والثانية تقول أنه تم اعتقالهما، ثم التحقيق معهما، ثم تصفيتهما بعد مدة من الزمن.

عائلة الشهيدين: لدينا إحساس أنّ الشهيدين على قيد الحياة

رغم الأعوام التي مضت، لم يتمكّن اليأس من أن يُلامس قلب وعقل والدة الشهيدين الحاجة نعمة عوض الله، التي قابلنها في منزلها وهي تلتحف صورة ابنيها، وعبرتْ لنا عن عزمٍ لا يلين في متابعة كل ما يتعلق بموضوع ولديها الشهيدين، فهي لم تسكن عن متابعة نشرات الأخبار المتعلقة بصفقات تبادل الأسرى وجثامين الشهداء بين إسرائيل وفصائل المقاومة، آملة ان تتسلم العائلة جثماني ولديها اللذين استشهدا قبل خمس عشرة عاماً. تقول أم عادل: "كلما سمعت عن صفقة لتبادل أسرى أو جثامين ينفتح جرحي وأعود للانتظار من جديد، لعلّ وعسى أن أراهما قبل مماتي سواءً أكانوا أحياء أم في عِداد الشهداء، فقصة ولديّ لا أحد يكترث بها، لا الأحزاب ولا الجهات الرسمية ولا حتى منظمات حقوق الإنسان، ولا أعرف لماذا لم يسلمونا الجثمانين مثل باقي الشهداء، بعد كل هذه السنوات العجاف".

وتُضيف: "طوال هذه المدّة لم نترك باباً إلاّ طرقناه، ناشدنا حزب الله وحماس والسلطة الفلسطينية من أجل إضافة الشهيدين إلى صفقات التبادل التي تمّت، ولكن الجميع أخبرنا أن الأولوية للإفراج عن لأسرى، ومن ثمّ تأتي قضية استرداد جثامين الشهداء، وإلى الآن لا زلنا ننتظر فرج الله".

من جانبه أوضح عامر عوض الله، شقيق الشهيدين، أن العائلة كانت قد كلّفت محامياً إسرائيلياً بمتابعة استرداد الجثمانين، وتمكن المحامي من استصدار أربعة قرارات من المحكمة العليا الإسرائيلية لتسليم الشهيدين، إلاّ أن هذه القرارات لم تُنَفّذ، والسبب في ذلك يعود لرفض قيادة جيش الاحتلال التنفيذ لأسباب لا تزال مجهولة لنا. وأضاف: "أنا شخصياً لا أراهن على أن إسرائيل ستسلم جثمانَي شقيقي لأنني متأكد أن هناك غموضاً يلف قضيتهما، ولا يريد الاحتلال أن يكشف عنه، فإذا كان شقيقاي استُشهدا فإنّ اسرائيل قتلتهما بطريقة لا تُريد لأحد أن يعرف تفاصيلها، أو أنهما ما زالا على قيد الحياة". ولفت عوض الله إلى أن العائلة لم تستلم أي إثبات رسمي من أي طرف يؤكد استشهاد الشقيقين، سوى نُسختين من شهادات وفاة توضح بأن الشهيد عادل أُصيب بستّين رصاصة والشهيد عماد بأربعين، لكن لا يوجد إثبات بأن هاتين الشهاديتن صحيحتان، وكان محامي العائلة قد طلب عيّنات دم من أبناء الشهيدين للتأكد من هويتهما جينياً في مستشفى أبو كبير، إلاّ أنه لغاية الآن لم تتلقَ العائلة نتائج فحص هذه العيّنات".

وكان والد الشهيدين أحمد عوض الله قد قال في شهادة قدّمها لجمعية حقوق الإنسان (بيتسيليم) ـ قبل وفاته ـ بأن ولديه كانا مطلوبين للأجهزة الأمنية الفلسطينية والإسرائيلية منذ العام 1996م، وأنه يشكك في كل الروايات التي تناقلتها وسائل الإعلام الإسرائيلية حول اغتيال ابنيه، ويميل إلى أنّ اسرائيل تحتجزهما في أحد سجونها السرية.

اغتيــال يلفّــُه الغمـــوض

يزداد الغموض حول مصير الشهيدين بعد أن رجّحت مصادر فلسطينية النظرية القائلة بأنّ الاحتلال الإسرائيلي لم يقتلهما؛ بل إنّه يحتجزهما في مكان ما في أحد السجون السرية داخل إسرائيل، وللتدليل على ذلك تجدّد في صيف عام 2003م النقاش الداخلي في إسرائيل حول العملية الفاشلة لتحرير الجندي "نحشون فاكسمان"، الذي اختطفته عام 1994م مجموعة فلسطينية من كتائب الشهيد عز الدين القسّام، وقُتل بنيران إسرائيلية أثناء محاولة تحريره على يد وحدة النخبة في الجيش الإسرائيلي، وقد أجرتْ صحيفة "يديعوت أحرونوت" لقاءً مع قائد وحدة خاصة سريّة أخرى تابعة للشرطة الإسرائيلية اسمها "يمام"، حيث قال: "لو سُمح لوحدتي بالقيام بعملية تحرير "فاكسمان" لأخرجناه كما أخرجنا الأخوين عادل وعماد عوض الله".

ورجّح صحفيون فلسطينيون وشهود عيان سَمح لهم الجيش الإسرائيلي بزيارة المنزل الذي استُشهد فيه الشقيقان عوض الله بالقرب من مدينة الخليل وقوع جريمة قتل الشقيقين خارج المنزل وليس داخله، وبحسب سكان المنطقة فإن المنزل يقع في منطقة منعزلة عن بقية المنازل، ومن خلال الجولة لم يلاحظ الصحفيون أثراً للاشتباك داخل الغرفة، وإنّما كانت هناك بضعة ثقوب نتيجة ارتطام الرصاص بالجدران، وبعض بُقع دمٍ على سقف الغرفة. وعرض المسؤول العسكري الإسرائيلي الأسلحة التي قيل أنها ضُبطت بحوزة الشهيدين، وهي عوزي صغير، وكلاشنكوف، وتسع قنابل يدوية، ومجموعة من صناديق الرصاص.

الإعـــلام الإسرائيلــي يُرحّــب

وكانت سائر الصحف العبرية قد رحبت في مقالاتها وتعليقاتها الافتتاحية بعملية اغتيال الشقيقين عادل وعماد عوض الله التي تم يوم الخميس الموافق 9/10/ 1998م على يد وحدات خاصة من قوات الاحتلال، لكنها وفي الوقت نفسه ضمّنت ترحيبها سيلاً من المحاذير والمخاوف والتوقعان المتشائمة إزاء ما تخبئه الأيام والمرحلة القريبة المقبلة من تهديدات في أعقاب عملية الاغتيال هذه، التي لا زالت تفاصيل الأساليب التي استُخدمت في تنفيذها تخضع لحظر نشرٍ مشدّد بموجب قرار القضاء الإسرائيلي. كما ذكّرتْ هذه الصحف بما وصفته بـ "التاريخ الطويل للشقيقين عوض الله في قتل اليهود وجرحهم". وفي هذا المجاول يروي أحد الأسرى الفلسطينيين هذه القصة قائلاً: "كنتُ في تحقيق بتاح تكفا في سنة 2000، وكان من بين المحققين الذين كانوا يتناوبون على التحقيق معي محققة اسمها (ياعيل)، فسألتها قائلاً: "إنتِ ما بترَوْحي على داركم وتحلّي عنّي، ما عندكم عطلة في المخابرات ولا عندكم عيد؟!! .. فأجابت: "لو أن المخابرات أرادت أن تختار يوماً أو تاريخاً محددّاً تجعل منه عيداً سنوياً لها، بالتأكيد سيكون يوم قَتل عادل وعماد عوض الله".

مقابـــر الأرقـــام

حسب مؤسسة التضامن الدولي لحقوق الإنسان فإن إسرائيل تحتجز مئات جثامين المقاومين لفلسطينيين والعرب الذين استشهدوا خلال المعارك في مقابر عسكرية مغلقة يحظر الدخول إليها أو التصوير فيها، وهي خاضعة لسيطرة الجيش ووزارة الحرب، وترفض السلطات الإسرائيلية تسليم هذه الجثامين لعائلاتهم كي يتسنّى إعادة مواراتها الثرى حسب تعاليم الشريعة الإسلامية، ويُطلق اسم "مقابر شهداء الأرقام" على تلك القبور، حيث تضع سلطات الاحتلال على كل قبر رقماً خاصاً، وتحتفظ بالمعلومات المتعلقة بالشهيد مثل: اسمه، وتفاصيل الاستشهاد في ملفات خاصة، وتخضع هذه المقابر لإشراف شعبة الحاخام الأكبر لجيش الاحتلال، وشعبة الطاقة البشرية في هيئة الأركان العامة، وتحيط إسرائيل هذه الجثامين بالكثير من الغموض والتعتيم، وتضع كافة العراقيل لتحُول دون حصول منظمات حقوق الإنسان على معلومات حول هؤلاء الشهداء وأماكن دفنهم.

وفي تقرير صادر عن منظمتَي (بيتيسليم) و(هموكيد)، اللتين تتابعان عن كثب انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي لحقوق الإنسان في المناطق الفلسطينية، لفتتْ المنظمتان إلى أنّ قيام الدولة العبرية باحتجاز جثامين فلسطينيين قُتلوا من قبل الجيش هو مسٌّ سافر بحقوق الإنسان، ويتعارض مع المواثيق والمعاهدات الدولية، وخلُص التقرير إلى القول بأنّ إسرائيل ملزمة بإعادة الجثامين المحتجزة دون تأجيل، لأنّ مواصلة احتجازها يشكل خرقاً فاضحاً للقانون الدولي.

ســيرةٌ حـــيّة

"من أبرزُ قادة المقاومة، قائدٌ حقيقيّ وشخصيةُ كاريزماتيّة، فِطْنته ومهنيته واحترافه أمور لافتة في شخصيته" .. شهادةٌ وردت على لسان مسؤول أمني كبير في جهاز الشاباك الإسرائيلي واصفاً الشهيد عادل عوض الله ...الذي كان يرى أنّ المقاومة هي الجدار الأخير في معركة هذه الأمّة مع عدوها، وهو صاحب فكرة "سلسلة العمليات الناسفة الخمسية" في حالة عدم إطلاق سراح المعتقلين من السجون الإسرائيلية، كما خطط لأسر عدد من الجنود بهدف المساومة والتفاوض.. عرَفه المعتقلون أميراً عاماً لهم في سجن رام الله المركزي، وممثلاً للمعتقلين في سجن مجدّو، ومسؤولاً لجهاز (حماس) الأمني هناك، وأميراً للكتل الإسلامية في جامعَتَي القدس وبيت لحم، وعَرَفته الحركة الإسلامية كأول من صدح باسمها في ساحات المسجد الأقصى إبّان اندلاع الانتفاضة الأولى، عابدٌ زاهدٌ ورع، قضى حياته بين إصابة أو اعتقال أو مطاردة أو مواجهة. بدأ رحلته مع المطاردة بعد عمليات الثأر المقدس، رداً على اغتيال المهندس يحيى عيّاش، بعد أن حمّله الاحتلال مسؤولية المشاركة في تخطيط وتنفيذه هذه العمليات.

أما شقيقه عماد، فكان نِعم المعين في حمل راية الجهاد حين تساقطت الرايات، وكان خط المواجهة الأول عن مشروع المقاومة في أقبية التحقيق، وأصبح المساعد الأيمن لشقيقه عادل في رحلة الجهاد والشهادة. وبعد مطاردة استمرت ثلاث سنوات اعتُقل عماد في شهر نيسان من عام 1998م، ونُقل إلى الزنازين، حيث خضع لتعذيبٍ شديد طيلة أربعة أشهر، إلاّ أنه رفض التهم التي حاول المحققون إلصاقها به، لتخرج الأخبار التي تقول بأنه فرّ من السجن في ظروف غامضة، إلى أن أُعلِن عن استشهاده هو وشقيقه عادل على يد الجيش الإسرائيلي في مدينة الخليل؛ وأي أخلاق تلك التي حملها حين أوصى "بألاّ يتم الانتقام لاستشهاده إلاّ من الاحتلال، فهو رأس كل إجرام، وسبب كل مصيبة".

بــذورٌ تشــق طريقهــا نحو فلسطين

تزوج عادل عوض الله عام 1989م، و عنده من الأبناء أربعة: فداء الدين، أنهى دراسة المحاسبة من جامعة بير زيت، وأنهى الثانوية العامة بمعدل 96 في الفرع العلمي، ومؤمن ويدرس كذلك في الجامعة نفسها، وأنهى الثانوية العامة بمعدل 92، ومحمد وندى اللذان لا زالا على مقاعد الدراسة. أما عماد فقد تزوج عام 1992م، وله أربعة أبناء، ولاء، التي تدرس التربية في جامعة بير زيت، وقد تزوجت من ابن الشهيد حسنين رمانة، وعبد الرحمن وأحمد وهبة، وهم في المرحلة الثانوية.

تقول زوجة الشهيد عماد بأن زوجها وشقيقه لو كانا موجودين اليوم بالتأكيد سيكونان في صفوف المقاومين الفلسطينيين، ولن يسمحا لجرائم الاحتلال أن تمر دون عقاب، يقاتلون حتى ينالا إحدى الحسنيين إما النصر وإما الشهادة؛ وتضيف: "كل يومٍ يمر علينا نشعر أنه ذكرى استشهاد لزوجي، فهو موجود معنا في كل لحظة، دائما أتذكره أنا وأولادي الأربعة الذين رزقني الله بهم حتى يسيروا على خطى والدهم وعمهم الشهيدين".

ونختم قصة الشهيدين عماد وعادل بنصٍّ مقتبس كان مؤمن؛ ابن الشهيد عادل؛ قد كتبه إلى أبيه في مقبرة الأرقام جاء فيه: "أبـــي.. وقبل أن أودعك.. أتمنّى على الله أن يأتيَ ذاك اليوم.. الذي أستطيع فيه زيارتك.. هناك .. في بيسان.. كما كنتُ أزورك وأنت في سجون الاحتلال.. أتمنى أن أزور ضريحك المسجّى بين أبطال العرب وفدائيي هذا الزمان .. يـا رب .. أدعوكَ أن تمنّ عليّ بزيارة أبي.. فلكي أردّ جميل تربيةٍ صالحة.. وعِلمٍ علّمني إياه.. لا أقلّ من أن أزرع وردةً على ذلك المقام الشامخ .. وأسقيَها من دمِ والدي الطهور.. لتُنبت في أرض فلسطين أزهار عزٍ وكبرياء.. تَنثر عطرها في كل مكان تصل إليه".

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]