هل أتاك حديثُ " العراقيب "، حيث وجوه البائسين، الصامدين أمام المحتلين، الصابرين على بلائهم، والمرابطين في أراضيهم أمام النهج العنصري، الذي تتبعه الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، من هدم بيوتهم ومصادرة أراضيهم؟!
نعم، أتاني حديثُ العراقيب، وتناهى إلى مسامعي، عن أهلها الصامدين، واستنزاف العدل فيها، وإزهاق الحق من أصحابه! سمعتُ وقرأتُ ما تم تداوله في الصُحف والإعلام، وأصغيتُ لصوتِ الناشطين والمتضامين الداعمين لقضية مصادرة أراضيها.
وقد أتيتها زائرةً، للمرة الأولى، وكان ذلك ضمن المشروع التضامني الذي نظمه منتدى حراكُنا لدعم قرى النقب غير المعترف فيها، خلال الشهر الماضي، والتقيت بعددٍ من أهلها، وكان من بينهم الشيخ صيّاح الطوري، الذي استقبلنا بالقهوة والتمر، في بيت الشعر، الذي يتميّز به البدو الُرحل، وروى لنا حكايته المتعطشة إلى الاستقرار.

عودة إلى النكبة الأولى.. من هُنا تبدأ حكاية العراقيب...
امتدت عمليات الاحتلال والهدم التي قامت بها العصابات الصهيونية، في العام 1948، إلى أرجاء أرض فلسطين، من شمالها إلى جنوبها، ومثل غيره من الأقضية، تعرض قضاء بئر السبع إلى غزو مُسلح، من قبل المنظمات والعصابات الصهيونية، وتم ترهيب أهلها بالطائرات الحربية وقذائفها، ووصل القصف حينها إلى أطراف العراقيب، ويُقال إن هُناك من استشهد من أهلها، وخوفًا على روحهم وحياة أبناءهم، رحل السُكان للبحث عن مكانٍ آمنٍ أكثر، وبقيّ من بقيّ ورحل من رحل عنها، كحال غيرها من القرى والمدن العربية الفلسطينية في ذلك الحين. وكان من بين العائلات التي سُمح لها بالعودة من بعد موافقة الحاكم العسكري، عائلة الطوري، والعقبي.
وقد كان يُقدر حينها عدد سُكان النقب بنحو 110-115 ألف فلسطيني، وبقي منهم بعد التهجير حوالي 13 ألف نسمة فقط. وكان في العراقيب وحدها حوالي 1000 شخص بقي منهم 500 تقريباً.

مشكلة الدولة الإسرائيلية مع البدو، عدم تركزهم في مكانٍ واحد!
بعد عام من النكبة، كان طلب الحاكم العسكري، " ابراهام شيمش"، تركيز البدو في مناطق قريبة من بعضها، وعدم السماح لهم بالتفرق بشكل عشوائي في أراضٍ مساحتها شاسعة، فكما هو معلوم للجميع، أن الشخص، البدوي يعتاد على الترحال بين الحين والآخر، لذلك عمدت الحكومات الإسرائيلية إلى تغيير نمط حياتهم المتنقلة وتجميعم، الأمر الذي ساهم لاحقًا في طرد البدو من بيوتهم وأراضيهم، وتجميعهم في مناطق سكنية قريبة، وتهويد النقب!
في العام 1950، وهو ذات العام الذي ولد فيه، الشيخ صيّاح الطوري، طلبت الحكومة الإسرائيلية من أصحاب الأراضي إخلاء الأراضي، القيام بتحديد أراضيهم، وعرض مستندات ملكية الأراضي على محامٍ من قبل الدولة، ليتضح الأمر لاحقًا أن الدولة قد " نصبت" على بدو النقب، واستغفلتهم!
ففي العام 1951، قامت الدولة الإسرائيلية بالطلب من سُكان العراقيب، وهم من عائلات أبو صيّام، والطوري، وابن بري وغيرهم، إخلاء بيوتهم بحجة، إجراء تدريبات عسكرية لمدة وجيزة، عندما تنتهي يمكنهم العودة إلى أراضيهم، " وصدق الناس قول الدولة، وكأنها " تابو"، ليتضح لهم لاحقًا أن طابو الأرض لم يعد لهم!)
تلت هذه السنوات، تواريخ وأعوام من الصراع على الأرض والسكن، نتيجة لتمسك أهل العراقيب بأرضهم، وهدم السُلطات الإسرائيلية المتتالية، لمنازلهم، ولكن للتاريخ مع سُكانها حكاية وراوية يُلخصها لنا الشيخ صياح الطوري.

قضية الأرض والسكن..
قضى الشيخ صيّاح الطوري، مُعظم حياته، يعيش صراع البقاء، والحفاظ على الأرض والسكن، منذ أن كان طفلاً، وحدثنا الشيخ عن أصل تسمية قرية العراقيب، التي تعود إلى العرقوب، وعرقوب الجمل أو الدابة في منزلة الركبة في يدها، وليس كما يعتقد الكثيرين ( التلال أو الهضاب)، وبدأ بمنافاة الرواية الإسرائيلية أن العراقيب لم تُسكن من قبل البدو، قبل عام النكبة، مؤكدًا أن مقبرة القرية تحتوي على شواهد تحمل أسماء لموتى منذ العام 1904.

سنون من القضايا والدعاوى على باب المحاكم، ولا حياة لمن تنادي..
خلال سنوات السبعين، قام أبناء العشائر، بتقديم الدعاوى إلى المحاكم، بهدف الاعتراف بملكيتهم على أراضيهم، ضمن ما يُعرف بـ "تسوية الأراضي"، الأمر الذي لم يلق صدًا حتى هذه اللحظة، وما زالت عماليات هدم المنازل ومصادرة الأراضي، مستمرة دون رادعٍ للسُلطات الإسرائيلية، وأكد الشيخ عن تمسكه هو وأولاده وأحفاده، وأبناء عشيرته وصمودهم أمام سياسة تهويد النقب، وتهجيرهم من أراضيهم، لأن هذه السياسة قد تعودوا عليها منذ عشرات السنين، فهم لم ولن يرضخوا للوعود التي تقدمها لهم الحكومات الإسرائيلية المتبدلة في منحهم أراضٍ بديلة- الممنوحة لمدة زمنية معينة، مقابل التنازل عن أرض العراقيب، وبعد انتهاء العقد المبرم، يكتشف الشخص الذي وافق على التبديل، أنه خاوي اليدين، ومستغل من قبل الدولة الإسرائيلية.

هُم يهدمون ونحن نبني..
وقال الشيخ صيّاح إن نهج الهدم مستمر، وأضاف: هم يهدمون ونحن نبني، لن نكل ولن نتعب، وهذا الشيء سوف نورثه ونرسخه في ذهن أبناءنا وأحفادنا، دون المساومة على الأرض، لأن الأرض أم، ومن يقبل ببيع أمه يقبل ببيع أرضه، والأرض ثمينة مثل العرض، هُناك أكثر من 4000 غُرسة زيتون وأشجار مثمرة تم اقتلاعها من العراقيب، وتسعى دائرة أراضي إسرائيل ( "كيرن كيمت")، لتبديلها بأشجارٍ غير مثمرة، وهذا جزء من سياسة الدولة العنصرية...

الشكوى لغير الله مذلّة..
رغم التضامن من قبل الناشطين وبعض الجمعيات، وكشف قضيتهم أمام الصحافة والإعلام، لكن هُناك عتب من الشيخ صيّاح على المسؤولين ولجنة المتابعة- المقصرة بهم حسب رأيه، فرغم التضامن المستمر مع أهالي العراقيب، إلا أن معاناتهم مستمرة ولم تحد منها، وهي تتوارث من جيل إلى آخر، وهم الكبير والصغير.

نساء العراقيب.. وأطفالها!
ولنساء العراقيب اللاتي التقيت بهن خلال الجولة، حكايات تملأ السطور بالآهات، بدءاًالمستوى المعيشي – حيثُ حياة الفقر، والحرمان من أبسط الأمور، والثقافي – إذ تعاني الكثير منهن من الجهل والأمية، ومن تعلمت فهي متوسطة الثقافة، والاجتماعي – التواصل بين الأقارب والأصدقاء، وأبسط الأمور، لا ساحة منزلٍ تجمعهن، ليرتشفن قهوة الصباح بها، ولا مطبخ بالأساس، تعالى عليه القهوة، لأن العراقيب خالية من كل شيء، حتى سقف منزل، وغرفة وحمام.

الحياة في العراقيب.. وضعها صعب!
تحدثنا إحدى النساء عن المعاناة في الحياة في العراقيب، إذ يتقافز الخوف في قلوبهن بين الحين والآخر، الخوف من اليوم القادم، الذي يُمكن أن يحضر معه هدم المنزل أو "العريشة"، لا نعرف غير الحُزن والهم، لم نذق الفرح يومًا، وهذا الأمر كله ينعكس على الأطفال، ونفسيتهم!

أطفال العراقيب، دون منزلٍ أو ملعب..
يُعاني الكثير من أطفال العراقيب، من عدم الشعور بالاستقرار النفسي والخوف، الأمر الذي يُترجم في تصرفاتهم، وتعاملهم مع الآخرين، إذ يعاني معظمهم، من الأرق، وقلة النوم، والخوف والتهديد بهدم المنزل، ومن التبول الليلي الناتج عن الخوف.
وقد حدثتنا طفلة من العراقيب عن مدى حُزنها في اعتيادها رؤية الهدم المتكرر للبيوت في العراقيب، وحزنها الأعمق لهدم منزلها، وعن مدى مشقة الوصول إلى المدرسة وخاصة في أيام الشتاء، وعن مكان اللعب.

أشارت هي وصديقتها، إلى أن هذه الأرض الواسعة ملعبهن، وأن ساحة اللعب عندهن تختلف كثيرًا عن التي يمتلكها الأطفال اليهود، متمنية لو يُصبح مثلها في العراقيب.
وعن سؤالنا كيف تمضي الفتيات يومهن قالت إحداهن، بين الركض، واللعب بالحجارة ورميها، ولعبة ( طاق طاق طاقية)، وفي الأحيان القليلة يُشاهدن التلفاز، فهو غير متوفر إلا في بيت أو بيتين في كل العراقيب، ويُشاهدن برامج الأطفال، ويستمعن من خلاله إلى القرآن والأناشيد الدينية.
فمن يمسح الحُزن عن أطفال العراقيب، ومن يسمع صوت نسائها، ومن يُساند رجالها في بناء ما هدمت السُلطات الإسرائيلية، التضامن لا يكفي، علينا المساعدة الفعلية في وقف عمليات الهدم، وبناء ما هدم الاحتلال، هذا التوجه بالدرجة الأولى للمسؤولين الذي اتخذوا من أنفسهم أن يكونوا أصحاب قرار، جاء الحين لأن نوقف نكبات العراقيب المتتالية، أيعقل أن تدخل العراقيب إلى جينس لأنها فقط هُدمت! ألم يحن الوقت لوقف هذا الهدم، ويعمر فيها البناء.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]