لم يكن اللقاء بمحمد الفرا، سهلاً.. نبضاتُ القلب تتسارعْ، رهبةٌ مِن شخصٍ ما صغيرٌ بعمره، كبيرٌ بمأساته.
كنتُ أعرفُه مِن قبل، منذ أن التقاه زميلي ورفيقي في الزيارة وائل عواد، قبل نحو عامٍ، يومها كان يلعبُ ويجري ويأكُلُ لوحده، وفي العام الماضي، كان يُمارس حياةً شبه عادية بلا يده المقطوعة.

وفي غرفة رقم 29 في مستشفى "تل هشومير"، قسم الأطفال، وهي الغرفةُ التي سطّرت حياة محمد منذ أكثر من سنتين.
ثم حان اللقاءُ فجأة.. قُرب المصعدِ وصل محمد مع جده حمودة الفرا (أبو النعيم)، ليصطحبنا إلى غرفته، وبنظراتٍ عميقة تفحصّنا محمد مطولاً، رُبما بأسئلة بديهية جالت بخاطره: ماذا يُريدان؟! لماذا هما هُنا؟! "لقد سئمتُ شفقة الناس"، وظلّ صامتًا.

تحركت نظراتي نحو الألعاب المتفرقة في أنحاء الغرفة، وسرحَ خيالي في عالمٍ طفولي، فسألتُ نفسي: في أيها يَلعَب؟! كيف يلعب؟! أيُميّز الألوان؟! أيختارُ ألعابَه المُحببة؟! أعادني كلامُ زميلي وائل مع محمد إلى الهدف الذي جئنا مِن أجله، الحديثُ إلى محمد، سأله وائل: ألا تذكُر أنني التقينا؟! ولما لم يُجب، ألحَ وائل أكثر، فحرّك رأسه رافضًا فكرة اللقاء المُسبق، وحينَ عرضَ عليه زميلي الصور التي جمعتهما معًا مِن قبل، كان يومها يمشي على رجليه ويُحرك يديه كيفما يشاء.. عندها صمت قليلاً، ورغم صغر سنه، استطاع أن يميّز الفرق بين الصور وما يحياه الآن، ضحك للصور، نظر إلى رجليه ورفع إحداهما محاولاً أن يُظهر لنا أنّ هناك فرقًا بين الماضي والحاضر..

محمد.. أكثر من سنتين في المستشفى

في "تل هشومير"، تكونت علاقة خاصة، ليس فقط علاقة قُربى، بل هي علاقة عمر، تجمع بين الجد حمودة الفرا (أبو نعيم) وحفيده محمد يمكثان فكلاهما يقترب مِن عامه الثالث، في المستشفى.

عن وصول محمد إلى المستشفى يقول أبو نعيم: أنجبت ابنتي هبة، طفلها محمد منذ عامين ونصف، في مستشفى خان يونس، واحتار يومها الأطباء في حالته، حيثُ كان يعاني من استفراغٍ واسهالٍ دائميْن، فقررا نقله إلى مستشفى "تل هشومير" أملاً أن يستطيع الأطباء تشخيص حالته.

ويضيف الجد: عانى محمد من مرض نادر جدًا في الأمعاء، فهي عشرُ حالاتٍ فقط عرفها العالم عن هذا المرض. ومع وصولنا إلى المستشفى كانت لنا أيامٌ سعيدة وأخرى تعيسة، اليوم هي ذروةُ تعاستنا وبؤسنا، إذ لم نتوقع أسوأ من هذه النتيجة ولا حتى في الكوابيس.

ويضيف أبو النعيم: وصلنا هنا آملين بشفاء محمد، لكننا لم نتوقع أن تكون نهايته. بربكم، ماذا سأقول لأطباء خان يونس؟! هل أأسف لهم لأنني لم أُظهر ثقة بهم؟!

ويتابع: فور وصولنا إلى هنا، تلقى محمد عدة أدوية، وطوال الوقت تمّ تثبيت صمام خارجي لإراحة الأمعاء الغليظة من العمل، فكان الصمام الخارجي موصولاً بالأمعاء الدقيقة، كنتُ أتمنى أن يبقى الحالُ على ما هو عليه، هكذا.

تأملنا خيرًا مع ولادة أخته ... زواج القربى

عن أمكانية العلاج بطرق الزراعة حمودة: تأملنا خيرًا عندما حملت هبة بإبنتها الصغيرة، فقد وصلت إلى "تل هشومير" لتلد هنا عسى يستطيع الأطباء الإستعانة بنخاعها الشوكيّ، لكن للأسف اتضحَ أنّ الطفلة الصغيرة مصابة أيضًا بنفس المرض .

واصل كلامه بالقول: هذه المرة لن أسمحَ للطفلة أن تُعالج هُنا. هي الآن في مستشفى خان يونس وحالتها جيدة مقارنة بحالة محمد.
وينسب الجد أبو النعيم المرض لزواج القربى، حيث تربط ابنته هبة بزوجها أشرف علاقة قرابة قوية، وقال: نحن في المجتمع الفلسطيني خاصة والمجتمع العربي عامة لا نستوعب ما يقوله الطب إلا عندما "تقع الفأس في الرأس"، حتى أننا لا نقتنع بخطورة الإنجاب في حالات مماثلة ونستمر بالإنجاب على أمل أن يُطل الطفل القادم إلى الحياة سليمًا معافًا، وتكون النتيجة أننا نعذبه ونعذب أنفسنا معه.

5 اولاد يعانون من ضعف في البصر

وللجد حمودة تجربة شخصية، مؤلمة لم يستفد منها كثيرًا، فله 13 ابنًا : 8 بنات و5 شباب، منهم 5 يعانون من ضعف في البصر، عن ذلك يقول: أنجبتُ 5 أطفال وأنا أقنع نفسي أن الطفل القادم سليم، ووضعه الصحيّ أفضل... فما النتيجة؟!!

الطفل محمد.. ينادي الجد "بابا"

ينقلنا الجد حمودة مرة أخرى إلى قصة محمد، محاولاً وصف ما حدث.. وكأنه يحاول أن يوضّح لنا أن ما جرى ليس خطأه، فهو ليس سببًا بفقدان محمد لرجليه ويديه: أشرف يلقي باللوم عليّ لما حل بمحمد! كيف لي أن أدري أنّ هذه النتيجة؟! كنت أظن أنه بيدٍ أمينة، هذا خطأي.. لا ليس خطأي، أتعرفون؟! لم أعد أعرف.

كان الجد مرتبكًا يحاول الإثبات لإبنته هبة وزوجها أشرف أنّه عمل كل ما بوسعه، لكن نداء محمد الطفل "بابا"، قطع حديثه، ليشير إليه أنه يريد الماء.. معذورٌ محمد أيضًا فهو لا يعرف الأمومة ولا الأبوة إلا من خلال جده حمودة.
وعن زيارات الوالدين لمحمد، قال الجد: ابنتي هبة زارته مرتين، ومحمد لا يعرفها أصلا.. كانت بالنسبة له غريبة جدًا.. أما أشرف، الوالد، فلم يزره حتى الآن!

ويستمر الجد حمودة: قبل ثلاثة أشهر وصل الطبيب المعالج لمحمد، وقال أن هنالك دواء جديد سيساعد محمد كثيرًا وطلبوا مني الموافقة على استعماله عن طريق حقنة، أعتقدتُ أن النجدة وصلت وسيشفى وبعد عاميّن تقريبا سنعود إلى المنزل. في أول مرة أخذ محمد الأبرة، وقام طبيب مختص بحقنه، تحسنت حالة محمد كثيرًا، وقام يركض ويلعب.. ولمدة 8 ايام كانت حالته الصحية بتحسن تام.

وبعدها حضرت ممرضة مسؤولة في القسم، وتحديدًا يوم الجمعة، وقامت بحقن محمد الحقنة الثانية، وخلال النهار أشار لي محمد مرارًا أنه يعاني من ألم في الرأس وعند ساعات المغرب ارتفعت درجة حرارته بصورة كبيرة مما أستدعى نقله إلى غرفة العناية المركزة. وفي غرفة العناية المركزة ساءت حالته كثيرًا وأظن أن قلبه توقف عدة مرات، وظلّت درجة حرارته مرتفعة، مما أستدعى وضعه على فرشة من جليد لتخفيض حرارة الجسم.

ويكمل الجد: قام الأطباء بإعادة النبض لقلب محمد لكنهم نسوا، على ما أظن اطرافه التي بدأت بالذوبان وبدأ لونها يسود تدريجيًا، وحاولت مرارا أن أشرح للأطباء أنّ شيئًا ما خطير يحدث في الأطراف، لكنهم لم ينتبهوا لملاحظتي إلا بعد فوات الأوان.

ويضيف أبو نعيم: لأول مرة منذ أشهر طويلة، غادرتُ سرير محمد وهربتُ إلى الأقصى، صليت وبكيت، ودعوت الله أن يفك محنتنا، وحين عدتُ إليه شهدتُ عملية القطع.

يتوقف أبو النعيم محاولا كبت مشاعره، يتألم عن محمد، ويلقي باللوم على نفسه ويحاول أن يبحث عن براءته وهو حزينٌ أكثر على مستقبل محمد المجهول.

"الشكوى لغير الله مذلة"....

يستجمع الجد حمودة قوته مجددًا، ويتابع: كيف سيعود محمد للسكن في غزة؟! هل يستوعبه مجتمعه؟! ابنتي الضريرة عادت في إحدى المرات من مدرستها تبكي بحرقة، وعندما سألتها عن سر بكائها قالت أنها تعثرت بالشارع فصرخت صبية في وجهها قائلة: "مش تفتحي، شو عميا"!، نعم ضريرة، كان حريٌ بالسيدة مساعدتها بدلاً من الصراخ في وجهها، فكيف سيتم معاملة محمد؟!

ويكمل: هاتفت هبة وسألتها، ماذا تنوين فعله؟! هبة ترفض أن تستقبله وتقول إنّ رجوعه إلى المنزل سيكون حُكمًا عليه بالإعدام.لا يوجد هنا أية مؤسسة تقدّم خدمات مساعدة لحالة محمد.. ناهيك أنه بحاجة إلى أطرافٍ اصطناعية تكلّف على الأقل 30 الف شيكل مرتين بالسنة! فكيف يمكن تحمل هذا المبلغ؟!

السلطة الفلسطينية أهملتنا ووزيرة الشؤون قالت لي أتصل بعد الغداء!

ويكمل الجد حمودة: بيتي هُدم في العدوان الأخير على غزة وأضطررت أن أنتقل للسكن مع والديّ في بيتهما في خانيوس، انا والعائلة، واليوم لي 3 أولاد يعانون من النظر، هل تتخيلون أنهم يتقاضون مبلغ 1000 شيكل كل 3 أشهر ؟! توجهت مرارًا لوزيرة الشؤون الإجتماعية ماجدة المصري، لكنها لم تستقبلني، حتى أنني حصلت على هاتفها الشخصي وعندما حاولت الحديث اليها قالت لي أنها في استراحة غداء وأن عليّ الإتصال بعد ذلك !

ويتابع: طرقت أيضًا باب الرئيس محمود عباس وباب رئيس الوزراء سلام فياض لكن عدت خائبًا كل مرة....ناهيك على أن السلطة الفلسطينية أوقفت دعم محمد بحجة أنها خطأ مستشفى "تل هشومير" وعليها تحمل المصاريف! توجهت إلى وزير الصحة وطلبت منهم زيارتي، لكن عدا زيارة د. نزار مسالمة أحدهم منهم لم يتصل أو يسأل حتى عن وضعنا.

من يدعم محمد اليوم ؟!

عن تكاليف علاج محمد يقول العم حمودة: حتى اليوم مستشفى "تل هشومير" تتكبد كل المصاريف في علاج محمد، وأنا أتهمهم أصلا بالإهمال الطبي وقدّمت شكوى بذلك..

ويضيف: بعد أن قطعت أطراف محمد، طلبت ملف محمد منهم لكنهم ماطلوا، مما اثار فيّ الشك...ناهيك على أن الممرضة التي قامت بحقن محمد تركت عملها....بعد أن فعلت ذلك قرأت عن الدواء الذي أعطي لمحمد ووجدت أنه فقط لأطفال اكبر من 4 سنوات ولا يعانون من أمراض معينة وعلى أن الحقنة يجب أن تعطى من طبيب مختص وبدرجة معينة ممنوع منعًا باتًا الخطأ بالدرجة.

ويكمل: مع ذلك لا زال الأطباء والممرضين وسائر طاقم المستشفى يعاملون محمد بطريقة خاصة وبمحبة كبيرة...طاقم المستشفى ربى محمد...ويعز عليهم ماذا حدث له.

سنتان دون عمل ....ما العمل ؟!

العم حمودة لم يفارق سرير محمد، وعلى ما يبدو لن يفارقه لفترة طويلة، وردًا على سؤالنا حول مصير أسرة يجيب: لا أعرف ...حتى اليوم ساعدني الكثير من فلسطيني الـ 48 واليهود المتضامنين مع محمد، لكن لا أدري كم سيستمر هذا الدعم ...فقط أوكل أمري لله وحسبي الله ونعمة الوكيل.

ويكمل: حاليًا نعيم، ابني الكبير بدأت دراسته الجامعية وأنتظر لحظات تخرجه ومساعدته لي ..

وعن مصير محمد، يقول الجد: سأكون يديه ورجليه ما حييت .

رد مستشفى "تل هشومير" ووزارة الشؤون الإجتماعية الفلسطينية
وفي رد لمستشفى "تل هشومير" على إدعاء الجد قال على أن المستشفى ساند سيساند محمد دائمًا، وأنه يرفض الإدعاء على وجود إهمال طبيّ مؤكدين على أن محمد ولضع مناعته أصيب بفيروس قاتل جدًا لم يترك لهم المال سوى قطع أطرافه.
وفي رد من مكتب الوزرة للشؤون الإجتماعية ماجد المصري طلب من مراسلنا إرسال هوية العم حمودة لفحص التوجه!.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]