يعيشُ "كفاح"، شابٌ تجاوز منتصف الأربعين من عمره، في إحدى البلدات العربية في منطقة مركز البلاد، ناجحٌ وله مكانته ووظيفته واحترامه بين معارفه، وحتى بيَن مَن لم يعرفه شخصيًا، لكنهم يعرفون قصة حياته، ويرون أنها تستحق الاهتمام، بل يمكن تحويلها إلى فيلم سينمائيٍ، يحكي قصة كفاحٍ ونجاح، رغمَ الصعوبات الجمّة التي واجهها!

ألغى كفاح، والاسم مستعار بالطبع، من عمره 35 عامًا، ذاقَ خلالها طعم الحياة المريرة من خلال تجربته في التعاطي مع المخدرات، ويعتبر ولادته الحقيقية هي العشرين من آذار عام 1999، أيَ أنّ عمره الآن لا يتجاوز الـ 12 عامًا و10 أشهر بالضبط، حسب تقويمه الفِطامي.

تصرّ عائلة كفاح أن تزوره في العشرين من كلّ آذار، لتضيء معه الشموع احتفالاً بفطامه من المخدرات، وأنه صارَ إنسانًا طبيعيأ وسويًا، بل ومتميزًا عن الآخرين بقوة شخصيته.

يروي كفاح حكايته بنفسه...

زادني والدي ضربًا فساءت أكثر تصرفاتي

أنا من عائلة كبيرة نسبيًا، كانت أمي حنونة أما والدي فكان ذي شخصيته قوية إلى درجة أننا كُنا نخافه ونعمل له ألفَ حسابٍ وحساب. لكنه بالمقابل كان يشقى من أجلِ لقمة عيشنا.

لستُ أدري لماذا كنتُ أخشاهُ أكثر من الآخرين، كان يصرخ في وجهي فأكبت مشاعري، كان يضربني فأبكي، فيزيدني ضربًا، باختصار، هي طفولة صعبة، جعلتني أتحوّل إلى شخصٍ مستفز، وكلما حاولتُ أن ألفت النظر نحوي، ساءَت تصرفاتي وسلوكي، حتى طُردت من المدرسة منهيًا الصف العاشر، خارجًا إلى معترك الحياة بلا هدفٍ ولا نجاح.

وجدتُ عملاً في الحراسة، يعطيني بعض الدعم المادي، وخلال أربعِ سنواتٍ كنتُ أحرسُ فيها أحد الأكشاك في البلدةِ، وأحمي المدمنين من الهجوم، إلا أنني ولسوءِ الحظِ كنتُ أنا الذي أُعتقل وأدفع ثمن تعاطي الشبيبة للمخدرات، ولم أترك المكان إلا عندما أغلقته الشرطة وقالت إنّه "غير مرخص". وجدتُ نفسي عاطلاً عن العمل، وأبي يهينني كلَ يومٍ ألفَ مرةٍ لأنني "لا أستحقُ الاحترام".

حلم إيلات والخطبة المفاجئة

حزمتُ أمتعتي القليلة وانطلقتُ إلى إيلات لأجهّز نفسي، مقررًا أن أجمع بين العملِ والمالِ والنجاح، معتقدًا أنني خلال فترةٍ قصيرة سأصبح رجلاً مستقر الحالَ وصاحبَ مصلحةٍ، وحين أصبح في الثلاثين من العمر سأتزوج بنت الحلال، التي تسكنُ في القلب، ولم يمضِ وقتٍ طويلٍ على أحلامي، حتى جاءني صديقٌ عزيز وقالَ لي: "مبروك". "الله يبارك فيك، ولكن ما المناسبة"، ردّ صديقي: والدك خطب لك ابنة عمك، ويريدك أن تتم الإجراءات الرسمية.

التحدي الغريب للأب

عدتُ إلى البلدةِ، فوجدتُ والدي قد اتفقَ مع عمي، وقررا أن أكون جزءًا من مبادلةٍ بيني وبين شقيقتي، عندها طارت آخرُ "شعلةٍ من ذكائي"، وقررتُ أن أتحدى والدي، وسَهُلَ عليّ الطريقُ إلى تاجرٍ معروفٍ أعطيه مالاً مقابل حفنةٍ من المخدرات، أزكمُ فيها أنفي لأشعرَ بالمتعةِ... وبعدها "فرط" مشروع الزواجِ الذي اتفقَ عليه الحماوان ولم يتفق العرسان.

خيّرتني زوجتي فلم اخترها!

عدتُ إلى البلدةِ وصرتُ في الذهابِ والإياب أتناول وجبة معقولة من المخدرات، وفي الوقت ذاته كنتُ قد تعلقتُ بفتاةٍ من بلدتي، ومن شدة الحبِ قلتُ في نفسي: "إذا قبلت بي فسأتركُ المخدرات". ثم كان لي ما أردتُ، إذ قبِلَت بي العروس، وأضربتُ عن الإدمان أربعة أشهرٍ، لكنني ضعفتُ مرة أخرى أمام السموم، وزادتَ مشاكلي مع زوجتي، فما كان منها إلا أن خيرتني بينها وبين التعاطي والأصدقاء، ولم تكن هي، رغم حبي لها، صاحبة الأولوية، تركتني بعد ثمانية أشهر من الزواج، فانغمستُ أكثر في عالمي الذي "أسبحُ فيه، وألاطم الأمواج داخله".

وينه العريس وينه؟

صرتُ مدمنًا معروفًا على كافة المستويات في البلدةِ، بل أصبحتُ مصدرَ قلقِ العائلة، وحينَ اقترحت شقيقتي على صديقتها الزواج مني. وافقت الصديقة، وطلبت لقاءً بيني وبينها، بعدها أقنعتُها أنني لستُ مدمنًا، وأنني أتعاطى وأترك بإرادتي، وأنني أكتفي بـ"الحشيش"، بينما أنا متورّط بـ"الهيروين".
ارتبطنا رغم عدم رضا عائلتها، وتهديدها ألا تعود إلى بيتهم غاضبةً متمردة على اختيارها "السيء".
ولا أنساها ليلة زفافي، ليلة فرحٍ متميزة، عندما يكون العريس محلَ اهتمامٍ خاص، هو وعروسه، أما أنا دون غيري ممن عايشوا هذه الليلة، انفردتُ بصديقيْن، وناولاني وجبةٌ دسمة من المخدرات، دخلتُ بعدها الحمام ولم أخرجُ إلا بعد ثلاث ساعات، عندما غنى المطرب "وينو العريس وينو"؟

الغرق

في الليلةِ التي تلتها جاءت عائلة زوجتي لتبارك لنا، وفي جوٍ عائليٍ حميم، تركتهم لأشتري شيئًا من التضييفات، فصادفتُ الصديقيْن إياهما، فطلبا مني شراءَ وجبتين لهما، فلم أفشلهما، وحين التقيتُ بالتاجر، دخلَت الشرطة وقادتني إلى السجن، لأقضي أول أيام فرحه في السجن لا في عش الزوجية.
تلك الأيام، تخطرُ في بالي، وتأبى أن تُمحى من الذاكرة، أشعرُ بغصةٍ في الصدر، كيفَ فعلتُ هذا بنفسي؟!!
رزقتُ بالأبناء، والزوجة "المحبة"، لكنني صرتُ أغرق أكثر في المخدرات، وما عادَت تنفعُ معي أيةُ طريقةٍ للعلاج، أخذتُ حقنة للدم، لتصفية الملوث منه، كلموني بلطفٍ، وبعنفٍ أيضًا، لم يترك الأهل طريقةً تخرجني من ورطتي. لقد كسرت قلوبهم جميعًا.

انتصار الكريزة والإجهاز على أموال الحقيبة

وفي إحدى الليالي اجتمعَ فيها الجميع حولي، قرروا أن يأخذوني إلى مركزٍ للفطام، فوافقتُ واعدًا إياهم أن يعطوني ثلاثة أيامٍ فقط، لأعود إليهم إنسانًا جديرًا بالاحترام.
توكلَ والديّ على الله وبتُ الليلة في بيت العائلة، وفي الصباح الباكر استيقظتُ وأنا أتلوى من الألم، و"الكريزة" تجعلني أحك جلدي بقوةٍ وأبلعُ ريقي، والحاجة إلى المخدرات تجعلني أخبط رأسي بأيِ جسمٍ لا يتحرك... وأخيرًا أخذتُ الحقيبة وهربتُ من البيت، وذهبتُ مباشرةً إلى تاجر المخدرات، صديقي.
وخلال فترةٍ زمنيةٍ قصيرة أجهزتُ على أموال شقيقي، التي احتفظ بها في الحقيبة بانتظار فرحةِ العمر.

كله ابْسَبَبَك!

وأنا في غمرةِ نشوتي، جاءت شقيقتي الكبرى وانحنت أمامي تقبل رجليّ ويديْ، ترجوني أن أترك ما أنا فيه قائلة "إذا بصير عليك إشي، بموّت حالي...أبوك كسيح في البيت، وأمك نقلوها عالمستشفى، وكله بسببك". أصابتي كلماتها في قلبي كالرصاص...صرت أبكي كالطفل.
زرتُ والدتي، وقبلتُ جبهتها، ووعدتها أنني بعد اليوم، سأصبح إنسانًا لم يعرفوه من قبل... نظيفًا، كالطفلِ تمامًا.

رحلة العلاج الشاقة!

دخلتُ إلى مركز الفطام في 20 آذار 1998، ومررتُ بأيامٍ من الوجعِ والاحتياج والأرق والصراخ، سنةٌ لا يمكن أن تمرّ على المدمن دون أن يحمد الله على نهايتها... مررتُ بعلاجٍ نفسيٍ طويل، أنا والزوجة والعائلة.
أصعبُ لحظة في عمري كانت عندما أتوا بأبي المقعد ليزورني في المركز، فطلبَ مني العامل الاجتماعي المتابع لحالتي أن أجلس "وأحسّس" وجنة أبي، وعلى رأسه، أن أحتضنه، ثم سألني ماذا تشعر؟! فقلتُ له: أشعر أنني أحضنُ ميتًا...عندما كنتُ أحتاج لهذا الحضن لم أجده... ثم بكيت بصوتٍ عالٍ، وبكى أبي أكثر مني، يومها فقط، اكتشفتُ أنّ أبي كان يحبني، وأنه كان يكره تصرفاتي ومشاكلي، ويتمنى لي الخير، في يومها فقط.

إقناع بعد إقلاع

خلال السنة التي أمضيتها في مركز الفطام، تحولت فعلاً إلى إنسانٍ آخر، مولود جديد، بعدها تقدمت إلى دورةٍ في إرشاد المدمنين على المخدرات، كيف نساعدهم للتخلص من السموم، ومنذ ذلك اليوم وأنا أعمل في الإرشاد، واستطعتُ رغم الصعوبة أن اقنع قلة من الشباب العربي أنّ دربَ المخدرات هو دربٌ مهلكٌ نهايته التراب.

ربحت: زوجتي، كرامتي وحريتي!

بكى "كفاح"، وقال: ليس من المعيب أن يبكي الإنسان، إنني كتلة من المشاعر والأحاسيس، اضحك عندما يستلزم الأمر وأبكي عندما أشعر بالحزن والتعاطف مع الآخرين... لستُ آلةَ أو ميتًا، وأنا سعيدٌ بنفسي وراضٍ عما وصلتُ إليه...
"عن الخسارة، لا أستطيع أن أحصي ما خسرت، مالاً، عمرًا طويلاً من حياتي، المرأة التي أحببتها، لكنني ربحتُ الكثير أيضًا... ربحتُ زوجتي التي تحملت معي وعاشت رحلةَ عذابٍ طويلة، وربحتُ أيضًا كرامتي وحريتي، واستعدتُ ثقة أهلي وأبنائي ومعارفي، فيكفيني فخرًا أنّني جديرٌ بحملِ اسمي، أينما حللتْ"..

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]