نعم.. نعم، يعود إلينا مكرم خوري من جديد، بعد العمل العالمي «تيرانو بوكار» والجولة العالميّة المسرحيّة.. بداية حقبة جديدة في مسيرة الممثل العملاق مكرم خوري.
ممثل مسرحيّ استطاع أن ينقش اسمه وبالخط العريض على خشبة المسرح العربي والعبري والأجنبي، فلا حديث عن المسرح دون المرور بتجربته وخبرته الطويلة، وأصبح من أبرز الوجوه الساطعة المنيرة في عالم المسرح المحليّ والعالميّ، يعمل بجد منذ أكثر من 37 عامًا.
عندما يحدّثك مكرم خوري عن علاقة العمل بينه وبين والمخرج العالمي پيتر روك، والذي اختاره ليلعب دور البطولة في مسرحية "تيرانو بوكار" بصيغتها الإنچليزيّة، تشعر بأنّ هذا الممثل العملاق قد بُعث من جديد، وبدأ مسيرة جديدة، رغم الباع الطويل بخبرته الفنية المحليّة والعالميّة، فيحكي عن المسرح وعن فلسفة روك، وهو يغوص في عالم الروحانيّات والوجدانيّات.
مكرم خوري في سطور
• ولد المخرج والممثل المسرحي الفِلَسطينيّ مكرم خوري في القدس، هاجرت عائلته إلى لبنان سنة 1948 ولكنها عادت فور هدوء الأوضاع، ووجدت لنفسها مسكنًا في مدينة عكا. تعلّم التمثيل على يد جاكلين كرونبرچ في القدس، ثم انضمّ إلى المسرح الناهض في حيفا. سافر إلى لندن لدراسة الفن المسرحيّ في معهد "ألمونت فيو". عندما عاد إلى البلاد انضمّ إلى المسرح البلدي في حيفا، وأصبح أحد أعمدته، وشارك في جميع الأعمال التي قدّمها المسرح، ومن أهمّها مسرحيّة "الجزيرة" و"ناطرين چودو" و"الفِلَسطينيّة". حاز على عدّة جوائز تقديريّة في مجال المسرح والسينما، أهمّها: جائزة "قيثارة داود"- عام 1984؛ جائزة "الأوسكار" الإسرائيلي، كأحسن ممثّل ثانوي لقاء أدواره في الفيلمين: "ابتسامة الجدي" و"جسر ضيّق جدًا" - عام 1985؛ حائز على جائزة الدولة "جائزة إسرائيل" لإنجازاته كممثّل في المسرح والسينما والتلفزيون؛ اشترك في العديد من المسلسلات التلفزيونيّة منها: "حكايات العم خليل"، "مفتاح القلب"، "جارك قريبك"، "ميشيل عزرا سفرا وأولاده"؛ ظهر في العديد من الأفلام الفِلَسطينيّة ومنها الّتي نالت شهرة عالميّة مثل: "عرس الجليل"، "حكايات الجواهر الثلاثة"، "درب التبّانات"؛ أخرج العديد من المسرحيّات، مثل: "العربة تسير"، "المعطف"، "الحجر الأخير"، "الملك هو الملك"، "المهرّج"، "أنا هون يمّا"، "حلّاق بغداد"، وعدّة مسرحيّات للمسرح الوطني الفِلَسطينيّ؛ قام بالدور الرئيس في مسرحيّة "الجداريّة" المقتبسة عن قصيدة مطوّلة للشاعر الفِلَسطينيّ محمود درويش؛ شارك في العديد من الأفلام الإسرائيليّة والعالميّة، وتولّى الإدارة الفنيّة لمسرح "الميدان" في حيفا والمسرح الوطني الفِلَسطينيّ في القدس. لمكرم ثلاثة أولاد، كلارا (من الممثّلات المعروفات في المسرح والتلفزيون والسينما). جميل (ممثل معروف)، ورولا، (لم تنتهج خط التمثيل)..
ثمّة بوادر ودلائل تشير إلى أنّ..
لا نستطيع القول إنّ الوضع المسرحيّ اليوم سيئ، فثمة بوادر ودلائل تشير إلى حركة من الانتاجات المسرحيّة والسينمائيّة المحليّة تبشّر بالخير. ومن وراء هذه الانتاجات يقف شباب موهوبون وفنّانون وفنيّون ومخرجون يمارسون مواهبهم بنجاح. وكلّ ما كنا نصبو إليه من قبل عشرين أو خمسة وعشرين عامًا، وصلناه بصورة مشرّفة. ولكن مشكلتنا اليوم - وللأسف - تنحصر بعدم الحضور الكافي للجمهور، الذي نتوخّى أن يكافئنا بإقباله على مشاهدة عروضنا وأعمالنا الفنيّة.
الجمهور الحيفاويّ هو الوحيد الذي يؤازر
الجمهور الحيفاويّ جمهور مسرحيّ مشجّع، حبّذا لو كان الوضع كذلك في سائر القرى والمدن العربيّة. فهو يؤازر ويقبل على الأعمال الفنيّة؛ وأستطيع القول إنّه الجمهور الوحيد الذي يقف بجانب المسرح العربي ويدعمه. أما مدينة الناصرة، التي كانت رائدة في الماضي، فتشهد تراجعًا من ناحية إقبال الجمهور على العروض والانتاجات المسرحيّة.
أصبحنا نشهد في الآونة الأخيرة نشاطًا وحراكًا مسرحيًا مقبولًا في بعض القرى العربيّة في الجليل والمثلث والنقب. ولكن ذلك غير كاف، ويجب تقديم أربعين أو خمسين عرضًا فنيًا على الأقلّ لكي تنجح الأعمال جماهيريًا.
صراع بقائنا ليس اقتصاديًا، بل يجب أن يكون ثقافيًا وحضاريًا
للشباب بصفة خاصة مساحة في العمليّة الثقافيّة والحضاريّة. ولهم دور فنّي وإداريّ، كالترويج للعروض وتشجيع الأعمال الفنيّة. ولكن الأزمة مع الجمهور عامّةً، تتعدى ذلك، فيجب الاهتمام بكافة مجالات الحياة. واهتمامنا بالثقافة يدلّ على أنّ حربنا وصراع بقائنا اليوم هو حتمًا ليس اقتصاديًا، بل ثقافيًا وحضاريًا. فالجهل ظلام دامس يعيق تقدّمنا، لأنّ الاهتمام يدلّ على الثقافة وبالتالي على الوعي، وليس فقط لما يحدث في فِلسطين وإسرائيل، وإنّما في المنطقة بأسرها.
مسرحيّات عديدة ضمن برنامج مسرح «الميدان» تعالج قضايا جريئة
لا شكّ بأنّ العروض المسرحيّة تحمل في طيّاتها أبعادًا جماليّة صريحة وجريئة، وأستطيع الحديث عمّا يجري في مسرح «الميدان» لأنني على مقربة من هذا المسرح، وأعمل فيه ويهمني أمره جدًا. وهناك عدّة مسرحيات تعالج مواضيع وقضايا جريئة، كقصة الأسير والمرأة في مسرحيّة العذراء والموت؛ صحيح أنّها لم تُعرض طويلًا، لكن القصة التي طرحت في المسرحية عن قضية المرأة واغتصابها وتعذيبها تثير جدلًا واهتمامًا ملحوظًا؛ مع أنّ الجمهور يريد أن يرفّه عن نفسه بالفكاهة والضحك كمسرحيّة «خادم السيّدين». و«قصّة خريف» تعالج موضوعًا إنسانيًا، هو «الشيخوخة» وقضايا المسنّين ومعاملة الأبناء للآباء.
غبت عن «قصّة خريف»
تمثّلت عودتي لمسرحيّة "قصّة خريف" مع سليم ضو وسلوى نقارة بعد غياب، لأنّني كنت أشارك في جولة عروض مسرحيّة في العديد من بلدان العالم لأكثر من أربعة عشر شهرًا. وهذا هو السبب الوحيد الذي أبعدني عن المسرحية، واستبدلني الممثل الرائع سهيل حداد.
(11 و12)
مكرم يلعب دور البطولة في مسرحيّة للمخرج المتميّز والعملاق پيتر روك، المسرحيّة «تيرنو بوكار» مأخوذة عن سيرة ذاتية لتيرنو بوكار، معلّم وحكيم صوفيّ. تحكي قصة خلاف في إتباع نهج الصوفية في إحدى مناطق مالي، مثل عدد المرات التي يتم فيها تكرار الدعاء أثناء الصلاة. فكانت شعبتان للحركة الصوفيّة، واحدة تكرر الدعاء 11 مرّة أثناء الصلاة، ثم تصمت، وأخرى تكرّره 12 مرة، فيمنح الشيخ بركته ويلفظ أنفاسه.
وبالرغم مما يبدو إنّه خلاف بسيط، إلّا أنّه يتحوّل إلى خلاف شبيه بالحرب. وطبعًا لم يكن يتطوّر هذا الخلاف، لو لم تتدخّل السلطات التي سنحت لها الفرصة لدعم فئة على حساب فئة أخرى. فدعمت فريق الـ 12 على حساب فريق الـ 11. يقرر تيرنو بوكار السفر إلى البلد وزيارة الشريف حمي اللّه لمناقشته، وتكون النتيجة أن تيرنو يتبنّى وجهة نظر الشريف حمي اللّه في نهاية مناقشاتهما. ويحدث أن تأسر السلطات حمي اللّه ويموت في الأسر لضعف جسمه، وتدوم الخلافات أربع سنوات. يجسد حمي اللّه، هذا الدور البطولي الثاني الممثل خليفة ناطور، أما أنا فأقوم بدور تيرنو بوكار وهو ممّن تبعوا طريقة الـ 12.
إنّ مسرحية تيرنو بوكار تسلّط ضوءًا جديدًا على إشكاليّة العنف والتسامح، التي تشغل عالمنا اليوم، وهذه القضية تجري في كلّ المجتمعات، الصوفيّة وغير الصوفيّة في العالم. تدور فكرة العمل الذي نحن بصدده حول التواضع والقيم الكبيرة الاجتماعيّة والدينيّة. تمثيلي وتقديمي لشخصيّة إنسان متواضع ومتقشّف في مثل هذا العمر أثّر عليّ جوهريًا.
وكأنّي أبدأ من جديد
يتمّ عرض العمل منذ 3 سنوات 2009 و2010 و2011. تجوّلنا في العالم لعرض هذه المسرحية، قدّمنا 32 عرضًا في پاريس و32 في لندن و32 في پولندا، نيوزيلاندا، أستراليا، كوريا، وفي أرجاء أوروپّا، والعديد من دول العالم.
بعد عملي مع العملاق والمعلّم پيتر روك الّذي كنا في السبعينيّات ندرس كتبه، وآتي اليوم للعمل معه بشيخوخته ومع كل الخبرة الطويلة والمسيرة الطويلة (أكثر من 37 سنة في هذا المجال)، ويحين الوقت للعمل مع پيتر روك، شعرت كأنّني أبدأ عملي من جديد.
هذا العمل جعلني أومن بنفسي.. من هو مكرم وخلفية مكرم الثقافيّة، وقالها لي العملاق پيتر روك: اخترتك لأنّني أريد مكرم «صافي». وحالفني حظّ كبير جدًا أن أعمل أنا وخليفة ناطور مع پيتر روك. وذلك بعد أن شاهدنا معًا في مسرحيّة «الجداريّة» لمحمود درويش، وقد أحبّنا المخرج وطالب بأن نمثّل في مسرحيّته.
دخلت عالم الروحانيّات
قصّة المسرحية حقيقية وواقعيّة، عدنا إلى مراجع عديدة في هذا العمل ممّا أدخلني إلى عالم من الروحانيّات المعيّنة، ومنه تبدو كل المظاهر بالية. أثّر هذا العمل عليّ كثيرًا وعلى تمثيلي وأدائي، وها أنا اليوم أصبحت أكثر صفاءً ونقاءً، وأتركّز في اللحظة وأعيشها. هذا العمل الكبير أعتبره بدايةً جديدة، رغم كلّ الأعمال العظيمة التي قمت بها.
غلطة... ندم... في «محير كڤود» (ثمن الكرامة)
بعد رجوعي من جولتي في الخارج وعملي الزخم مع پيتر روك أشعر بندم كبير، وكأنني ارتكبت غلطة فادحة في عملي «محير كڤود» (ثمن الكرامة/الشرف). هذا العمل ضايقني وأزعجني جدًا .. لأنه جاء على خلفيّة المعيشة وليس الكرامة. لن أعود إلى المسرح العبري بكلّ ثمن، ولا أنظر في مسرحنا العربيّ إلى الماديّات بل إلى الأمور المعنويّة، فهي عبارة عن غذاء للروح.
جواز السفر الإسرائيليّ حاجز أمام الفنان في العالم العربي
يواجه الممثّل الفِلَسطينيّ حاجزًا للدخول إلى العالم العربي، بينما ندخل السينما الأوروپيّة والأمريكيّة بكل بساطة. وهناك ينظرون إلينا بمنظار يختلف عمّا هو عليه في العالم العربي. وكم كنت أود تقديم أعمالي وأعمال فنّانين آخرين في العالم العربي، وأن ينزعوا عنّا «وصمة» عرب الـ 48، فنحن عرب فلسطينيّون نمارس ثقافتنا العربية بكلّ جرأة وكرامة.
فرقة «شبه حرّ»
أنا من مؤسسي فرقة «شبه حر» مع أمير نزار زعبي، أشرف حنا، وعامر حليحل. وجاء الوقت لكي نقدّم الأعمال ذات المستوى الراقي، وقررنا تشكيل فرقتنا الخاصّة الّتي نقدّم فيها الكتابات من أمير زعبي. استطعنا الوصول إلى المسارح الأوروپيّة، وأخذت المسارح هناك تستدعينا وتساعدنا وتموّلنا ماديًا. وأنجزت الفرقة حتّى الآن أربعة أعمال، وآخرها «شبه حُر» تظهر كعمل مميّز وجديد من إنتاج مسرحين في لندن. وقدّمنا أيضًا ثلاثة عروض تجريبيّة للأصدقاء، وسيتمّ الافتتاح مع افتتاح الـ"أولمپيادة" في إطار البرنامج الثقافيّ من تاريخ 10 أيّار ولغاية 10 حزيران، لمدّة شهر كامل. الانتاج ليس لمسرح "شبه حُرّ" وإنّما لمسارح لندن، وقد أزال مسرحنا القيود البيروقراطيّة والمعقدة، فلا نريد العمل مع مؤسّسات تربويّة، ومن يريدنا فيدعونا. ولا نذهب للعرض مباشرةً لنتفحص الأمور، وقد نوافق على العرض أو لا نوافق. لقد انشغل الفريق المسرحيّ «شبه حُرّ» في إنتاج وإخراج مسرحيّات عديدة، منها: "في مستوطنة العقاب" للكاتب التشيكي كافكا، من إعداد وإخراج أمير نزار زعبي، الذي أخرج أيضًا أعمالًا مسرحيّة أخرى، منها: "الجداريّة"، "قصّة خريف"، "حارق المعبد" و"إذ قال يوسف".
يا ليت «العالم العربي» جميعه كحيفا!
في الماضي وفي سنوات الستينيّات كان الجمهور يأتي إلى المسرح راكضًا، بل مهرولًا، وكانت هناك حركة مسرحيّة مشجّعة أكثر من اليوم. أقول للجماهير العربيّة عمومًا: كم أودّ أن أراكم في العروض الفنيّة، وأكثر ما يسعدني، رؤيتي الجمهور يقف في الطابور عند شبّاك التذاكر. ونحن نشاهد هذا الوضع فقط في حيفا.. يا ليت العالم العربي جميعه كحيفا!
الفنّان الأصيل قريب إلى اللّه
يجب أن يكون الفنّان حرًا، وإذا كان مقيّدًا فلا يستطيع أن يُبدع. الممثّل الحقيقيّ قريب إلى اللّه، يستطيع أن يدخل كلّ نفس ويفهمها، دون تفرقة بين إنسان وآخر، فهذا هو الفنان الأصيل.
سعادة وبكاء!
واجهت مواقف عديدة أبكتني وأسعدتني في آنٍ واحد، وخاصة عندما رأيت ابنتي كلارا في "العذراء والموت" بكيت من النشوة والفرح، ومع جميل عندما استبدل عامر حليحل في «خادم السيّدين». وشعرت أنّ هناك من سيكمل ويتابع الطريق بكلّ ثقة وإتقان، ولم يعد أولادي بحاجة إلي، رأيت كلارا تشبهني في عدّة مواقع، وجميل يذكّرني بشبابي، وهكذا أشعر بنشوة السعادة والحاجة للبكاء في آن واحد.
[email protected]
أضف تعليق